ففيما مضى كانت صورة المثقف مختلفة اختلافاً جذرياً عما هي عليه الآن، إذ كان لديه همّ فني وإنساني ووطني، وكان يحمل مبادئ وقيماً وهاجساً إبداعياً.. ولم تكن طروحاته وأفكاره تتناقض مع سلوكه وممارساته.. أما اليوم فمعظم المثقفين أضحت اهتماماتهم شخصية ومصالحهم تحتل المرتبة الأولى فيما يقولون ويفعلون، وابتعدت هواجسهم عن هموم المجتمع والوطن، فحالة الخراب المنتشرة تسربت حتى إلى أرواحهم، فباتوا يوظفون معرفتهم وموهبتهم لنيل مكاسب شخصية صغيرة.
في بيتها الذي يعشش فيه عبق الراحل سعد الله ونوس، جلست فايزة شاويش، ومن خلفها يطل ونوس بعينين متعبتين غائمتين من لوحة رائعة للفنان جبر علوان تعلو الأريكة التي كان يتمدد عليها ونوس لمشاهدة التلفاز..
تقول شاويش التي باتت تفضّل قضاء جُلّ أماسيها في بيتها: "أتردد كثيراً عندما أتلقى دعوة إلى مناسبة ما (رغم قلتها)، خوفاً من أن ألتقي ببعض ممن يسمون "مثقفين"، فلي تجربة قاسية مع هؤلاء زرعت في داخلي غربة ومرارة".
- أليس هذا موقفاً متشنجاً؟ هل يحق للفنان أن يكون حاداً لهذه الدرجة؟ هل من حقه أن ينكفئ وينغلق على نفسه ويتخلى عن مشروعه؟
-- ربما لا، ولكن تجاربنا هي التي تشكل شخصيتنا وتؤثر فيها، مبدئي في الحياة يفرض علي مغادرة المكان إذا لم أجد فيه مناخاً مناسباً وفضاءً حاضناً متفهماً يلائم إنسانيتي، وهذا لا يسري علي فقط فكثيرون غيري دفعتهم المناخات المحيطة إلى مغادرة الساحة الفنية الثقافية، إذا لم يتمكنوا من إيجاد أو خلق ما يلائم مشروعهم.. خذ مثلاً الفنانة الراحلة مها الصالح، لقد بذلت جهوداً مضنية لتحقيق مشروعها المسرحي الخاص، ولكن المسألة كانت منهكة ومليئة بالمعاناة، وأنا على يقين أنه لو وجد جو مسرحي ملائم متكامل وصحي، لما عانت (مها) ماعانته، ولفضلت أن تكون فرداً ضمن المشروع المسرحي الكبير، لكن المشكلة في بلدنا أنه لم يعد لدينا مشروع مسرحي حقيقي، مسرحنا تحول إلى تجارب استعراضية، ونصنا المسرحي تحول إلى هواجس ومعاناة شخصية، وهذا لا يحقق للمسرح ألقاً وجماهيرية، فالمسرح عمل إبداعي جماعي، ولا يمكن له أن بقوم أو يستمر بجهد فردي.
- هناك كثيرون يقولون هذا الكلام ويندبون المسرح، لكن أياً منهم لم يبذل جهداً يذكر في اتجاه إعادة إحيائه. إذا كان هذا الهاجس حقيقياً لدى حامليه، لماذا لا ينهض مشروع جماعي من نوع ما؟
-- المسألة شائكة ومعقدة.. فيما يتعلق بي حاولت وما أزال أحاول.. وعلى سبيل المثال منذ فترة ليست ببعيدة، توفر نص جيد، وتوفرت النية والإرادة لفنانين يرغبون بإعادة الألق للمسرح، كالفنان ماهر صليبي، رغدة شعراني، غسان مسعود.. شاركتهم بتقديم عمل مسرحي عالمي ترجمه وأعده الشاعر والمسرحي الكاتب ممدوح عدوان وأخرجه محمود خضور، ومع أن العمل لاقى نجاحاً لافتاً إلا أن التجربة كانت يتيمة ولم تتكرر، فالمسرح يتطلب تفرغاً لكنه لا يحقق للفنان الحد الأدنى المطلوب للعيش الكريم.
- واللوحة كذلك.. كيف ترين الحل؟
-- أنا وسواي من المسرحيين وبعد أن يئسنا وفقدنا الأمل من وجود مؤسسات تدعم المسرح بشكل مثمر، عدنا وتفاءلنا وعوّلنا كثيراً على فعالية دمشق عاصمة للثقافة العربية.. خاصة وأنه تم تعيين د.حنان قصاب حسن على رأس الأمانة العامة لهذه الفعالية، على اعتبار أنها سيدة مثقفة ولديها هاجس مسرحي، بالإضافة لكونها ناقدة مسرحية وأستاذة جامعية وعميدة للمعهد العالي للفنون المسرحية.. ناهيك عن أن ميزانية ضخمة رصدت لهذه الفعالية.. قلنا الآن ستنفرج الأمور، ولابد أن الأمانة العامة ستدعم المشهد المسرحي السوري، وستدعم من لديهم مشاريع ثقافية جادة ولا يجدون التشجيع المادي والمعنوي، وكان توقعنا وأملنا أن تحاول د. حنان بناء مسرح أو تجهيز أمكنة للعروض المسرحية.. فهي خير من يعلم أنه ليس لدينا مسارح كافيه في سورية. لكن ومع الآسف الشديد لم تحاول حتى المبادرة.
كانت أولى مفاجآتنا في الفعالية التي تحمل عنوان "دمشق عاصمة الثقافة العربية"، أن البعد أو الطابع العربي والسوري للنشاطات والعروض كان خجولاً، ولا شك أن لديها أسبابها التي تدفعها لعولمة هذه الفعالية، لكنني أود أن أذكّرها بأننا نحن أيضاً جزء مضيء من هذه العولمة.. أنا لست ضد الهوى الأوروبي والفرانكفوني للدكتورة حنان.. ولست ضد الانفتاح على العالم، فكلما رأينا أكثر تعلمنا أكثر، ولكن ليس على حساب فرصة كان من الممكن أن تتيحها لنا كمسرحيين سوريين.. حلمنا ذات يوم أننا سنرسخ تقاليد مسرحية هامة...
هناك أمر آخر يُشعر بالمرارة.. وهو التعمد في تغييب أسماء كبيرة عن جو الاحتفالية، إذ وقع ظلم كبير بحق سعد الله ونوس وممدوح عدوان ومحمد الماغوط وغيرهم... وهم من القامات الكبيرة التي كانت تستحق مساحة أكبر من الاهتمام والاحتفاء.. فقد قدمت الاحتفالية مسرحية لسعد الله ونوس، وأقامت له احتفالاً رسمياً خجولاً ومتواضعاً في قريته حصين البحر، ومع الأسف لم يسمع به أحد قبل إقامته، حيث لم تسبقه دعاية من أي نوع، ولم تُوزَّع بطاقات تشير إليه، بينما فوجئنا جميعاً بأسلوب الاحتفاء بنزار قباني مع احترامي الشديد له، إذ طوال عشرة أيام وصور نزار تملأ الصحف والمجلات واللوحات الطرقية بأحجام مختلفة (تحية إلى نزار).. فهل قدّم الشاعر الكبير نزار قباني للوطن أكثر مما قدمه سعد الله ونوس؟. وهذا ينطبق أيضاً على الأسلوب الذي تم به الاحتفاء بالقامة الكبيره فيروز، وما يجري اليوم من احتفاء بالمبدع بزياد الرحباني.. علماً أنهم جميعاً عظماء ومبدعون ومن واجب الأمانة أن تحتفي بهم.
- هل تعتقدين أن للأمانة العامة للاحتفالية موقفاً سلبياً من سعد الله ونّوس؟
-- في لقاء صحفي سابق للاحتفالية أجراه الصحفي راشد عيسى مع د. حنان قصاب، ونشرته جريدة السفيربتاريخ 2/8/2002 بعنوان "منمنمات ونوس كتابة مشهدية راقية.. لكنها أساءت لدمشق ولابن خلدون"، تقول د. قصاب حسن: "..أراد ونوس من خلال هذه المسرحية أن يقدم قراءة جديدة لشخصية ابن خلدون استمدها من بعض المراجع التاريخية... وكان يريد من ذلك أن يدين علاقة المثقف الانتهازي بالسلطة، لكن المشكلة برأيي هي في اختيار نموذج لهذا المثقف الانتهازي مؤسس علم الاجتماع وأحد أهم المفكرين في التاريخ العربي المثقل بالطغيان والتخلف.."..
ثم تقول: ".. لو اختار (أي ونوس) شخصاً آخر، أو أنه اكتفى بطرح مثقف لا وجود له في الواقع، لما كان الأمر بخطورة أن يقدم للأجيال جديدة صورة قاتمة عن مفكر كبير كابن خلدون".
وأقول: سعد الله لم يتجنّ على ابن خلدون، ولم يسئ لمدينة دمشق ولا لياسمينها، وحسب تأكيد د. حنان، فهو اعتمد على مراجع تاريخية عند كتابة المسرحية، وكنت آمل أن يتوفر لديها وعي أكبر في التعاطي مع الموضوع، فليس المطلوب منها أن تنصّب نفسها محامية دفاع عن ابن خلدون، ففي النهاية هو ليس ملاكاً منزلاً، وليس منزهاً، وهو كغيره من البشر قد يخطئ وقد يصيب...
- لكن هذا مجرد رأي، وهو رأي قديم.. فلماذا تعتقدين أنه يفعل فعلاً سلبياً في مدى تقدير أو احترام د. حنان قصاب حسن لشخصية كبيرة مثل سعد الله ونوس، وبالتالي لطريقة ومستوى الاحتفاء به؟
-- برأيي أن هذا الرأي ما يزال مسيطراً عليها، والدليل هو الاحتفاء الكبير بالأديب الدمشقي، وتجاهل شخصية هامة كسعد الله ونوس. صحيح أنها قامت بانتاج مسرحية (أحلام شقية)، ولكنها لم تكن صاحبة المبادرة في ذلك على الإطلاق، فهذه المسرحية كانت تنتج خارج إطار الفعالية برعاية وترحيب مديرية المسارح والموسيقى ووزارة الثقافة وبمبادرة من المخرجة السيدة (نائلة الأطرش)، وكانت التدريبات جارية حين تدخلت الأمانة العامة، وطلبت د. حنان وضع العرض في إطار نشاطاتها الاحتفالية، وبرأيي أنها كانت ستؤدي خدمة كبيره لسعد الله لو تركت المسألة في سياقها الأول، فالمسرحية تحت رعايتها لم تأخذ حقها من الدعاية والإعلان، وعرضت ثلاثة عروض فقط.. بينما لو بقيت الرعاية لمديرية المسارح لعرضت في صالة الحمراء أو القباني، وهي الأماكن الأكثر ألفة وحميميه ولامتدت العروض لعشرين يوماً على الأقل.. الأمر كان مجرد رفع عتب، وليتها أبقت العتب ولم تحاول رفعه لكان أفضل..
ثم إن د. قصاب حسن منزعجة لموقف "منمنات تاريخية" من بعض تجار دمشق الذين تعاونوا مع تيمور لنك.. معتبرة ذلك تجنياً على المدينة وأهلها، فلماذا؟ أليست هذه الشريحة من الانتهازيين موجودة في كل زمان ومكان؟ ألم تقرأ مذكرات بعض قادة النضال الوطني ضد الاحتلال الفرنسي التي أكدت أن بعض التجار الدمشقيين جروا عربة غورو على أكتافهم بعد معركة ميسلون المشرّفة التي خاضها حتى الموت ثلة من أبناء دمشق المخلصين وعلى رأسهم البطل يوسف العظمة الدمشقي؟
د. قصاب حسن في اللقاء نفسه مع السفير، وفي سؤال راشد عيسى: (هل تعتقدين أن ثمة قصدية في تشويه مدينة دمشق عند سعد الله ونوس؟) تجيب: "لا أدري.." وكان حري بها أن تقول: أجزم أن لا، فهي تعرف سعد الله جيداً ليس ككاتب فقط، بل كالإنسان مبدع جمعتها وإياه زمالة التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية. وتضيف د.حنان: "أنا لا أقول ذلك بدافع ذلك العصبية لدمشق.. لكنني أرفض أن تشويه مدينة عمرها ثلاثة آلاف عام بجرة قلم".
ألا يؤكد هذا الكلام أنها تحاول اليوم في احتفالية دمشق الاقتصاص ومعاقبة سعد الله ونوس لأنه من وجهة نظرها أساء لدمشق؟
لقد سألني بعض الأصدقاء: لماذا لا تشاركين بالفعالية بأعمال لسعد الله ونوس؟ ونصحوني أن أقدم طلباً لـ د.حنان بهذا الشأن، لم أتردد، وقدمت مشروعين: (سهرة مع أبي خليل القباني) و(طقوس الإشارات والتحولات) ولكنها رفضت طلبي لأن المخرجين المقترحين نوار بلبل وبسام الطويل.. لا يملكان تجربة تؤهلها لإنجاح هذا العمل.. علماً بأن الإثنين تخرجا من المعهد العالي للفنون المسرحية الذي تشكل هي أحد أركانه الهامة.. فهل يحق لها أن تحجب عن الشباب فرصة كهذه، وهي التي سمحت لنفسها أن تخوض تجربة الإخراج المسرحي دون أن تملك التأهيل التخصصي لذلك؟.. إنني أتساءل لماذا تبيح لنفسها ما تمنعه عن غيرها، وهي التي أثبتت من خلال الفرصة التي منحتها لنفسها والتي تمخضت عن عرضين مسرحيين فاشليين من وجهة نظري، أنها لا تفوقهما إبداعاً؟
في النهاية موازنة دمشق عاصمة للثقافة العربية.. نقودنا.. نقود الشعب السوري، وربما تكون قد هدرت في مكانها بما يتناسب وبرستيج د.حنان قصاب حسن، لكننا كنا نأمل أن يصيب طموحنا المسرحي من الحب جانب.
ختاماً، وها قد أشرفت الاحتفالية على الانتهاء، هناك سؤال في أذهان البعض: ماذا حققت لنا هذه الاحتفالية؟ وماذا بقي منها؟ وهل أدت مهمتها المرجوة أم كانت حالة استعراضية شبيهة بالألعاب النارية التي افتتحت بها؟ والتي أضاءت سماء دمشق لدقائق ثم انطفأت مخلفة وراءها رائحة البارود.
بطاقة تعريف
فايزة شاويش فنانة دمشقية، عضو في نقابة الفنانين منذ 1/3/1968..
أهم الأعمال التي شاركت بها:
في المسـرح: لكل حقيقته - طرطوف - زيارة السيدة العجوز - سهرة مع أبي خليل القباني - الملك هو الملك.
في الإذاعـــة: الحب والعبقرية - شخصيات روائية - حكايا القط الجاثم..
في التلفزيون: حارة القصر - قوس قزح - أولاد بلدي - زقاق المايلة - جسر البيت.
في بيتها الذي يعشش فيه عبق الراحل سعد الله ونوس، جلست فايزة شاويش، ومن خلفها يطل ونوس بعينين متعبتين غائمتين من لوحة رائعة للفنان جبر علوان تعلو الأريكة التي كان يتمدد عليها ونوس لمشاهدة التلفاز..
تقول شاويش التي باتت تفضّل قضاء جُلّ أماسيها في بيتها: "أتردد كثيراً عندما أتلقى دعوة إلى مناسبة ما (رغم قلتها)، خوفاً من أن ألتقي ببعض ممن يسمون "مثقفين"، فلي تجربة قاسية مع هؤلاء زرعت في داخلي غربة ومرارة".
- أليس هذا موقفاً متشنجاً؟ هل يحق للفنان أن يكون حاداً لهذه الدرجة؟ هل من حقه أن ينكفئ وينغلق على نفسه ويتخلى عن مشروعه؟
-- ربما لا، ولكن تجاربنا هي التي تشكل شخصيتنا وتؤثر فيها، مبدئي في الحياة يفرض علي مغادرة المكان إذا لم أجد فيه مناخاً مناسباً وفضاءً حاضناً متفهماً يلائم إنسانيتي، وهذا لا يسري علي فقط فكثيرون غيري دفعتهم المناخات المحيطة إلى مغادرة الساحة الفنية الثقافية، إذا لم يتمكنوا من إيجاد أو خلق ما يلائم مشروعهم.. خذ مثلاً الفنانة الراحلة مها الصالح، لقد بذلت جهوداً مضنية لتحقيق مشروعها المسرحي الخاص، ولكن المسألة كانت منهكة ومليئة بالمعاناة، وأنا على يقين أنه لو وجد جو مسرحي ملائم متكامل وصحي، لما عانت (مها) ماعانته، ولفضلت أن تكون فرداً ضمن المشروع المسرحي الكبير، لكن المشكلة في بلدنا أنه لم يعد لدينا مشروع مسرحي حقيقي، مسرحنا تحول إلى تجارب استعراضية، ونصنا المسرحي تحول إلى هواجس ومعاناة شخصية، وهذا لا يحقق للمسرح ألقاً وجماهيرية، فالمسرح عمل إبداعي جماعي، ولا يمكن له أن بقوم أو يستمر بجهد فردي.
- هناك كثيرون يقولون هذا الكلام ويندبون المسرح، لكن أياً منهم لم يبذل جهداً يذكر في اتجاه إعادة إحيائه. إذا كان هذا الهاجس حقيقياً لدى حامليه، لماذا لا ينهض مشروع جماعي من نوع ما؟
-- المسألة شائكة ومعقدة.. فيما يتعلق بي حاولت وما أزال أحاول.. وعلى سبيل المثال منذ فترة ليست ببعيدة، توفر نص جيد، وتوفرت النية والإرادة لفنانين يرغبون بإعادة الألق للمسرح، كالفنان ماهر صليبي، رغدة شعراني، غسان مسعود.. شاركتهم بتقديم عمل مسرحي عالمي ترجمه وأعده الشاعر والمسرحي الكاتب ممدوح عدوان وأخرجه محمود خضور، ومع أن العمل لاقى نجاحاً لافتاً إلا أن التجربة كانت يتيمة ولم تتكرر، فالمسرح يتطلب تفرغاً لكنه لا يحقق للفنان الحد الأدنى المطلوب للعيش الكريم.
- واللوحة كذلك.. كيف ترين الحل؟
-- أنا وسواي من المسرحيين وبعد أن يئسنا وفقدنا الأمل من وجود مؤسسات تدعم المسرح بشكل مثمر، عدنا وتفاءلنا وعوّلنا كثيراً على فعالية دمشق عاصمة للثقافة العربية.. خاصة وأنه تم تعيين د.حنان قصاب حسن على رأس الأمانة العامة لهذه الفعالية، على اعتبار أنها سيدة مثقفة ولديها هاجس مسرحي، بالإضافة لكونها ناقدة مسرحية وأستاذة جامعية وعميدة للمعهد العالي للفنون المسرحية.. ناهيك عن أن ميزانية ضخمة رصدت لهذه الفعالية.. قلنا الآن ستنفرج الأمور، ولابد أن الأمانة العامة ستدعم المشهد المسرحي السوري، وستدعم من لديهم مشاريع ثقافية جادة ولا يجدون التشجيع المادي والمعنوي، وكان توقعنا وأملنا أن تحاول د. حنان بناء مسرح أو تجهيز أمكنة للعروض المسرحية.. فهي خير من يعلم أنه ليس لدينا مسارح كافيه في سورية. لكن ومع الآسف الشديد لم تحاول حتى المبادرة.
كانت أولى مفاجآتنا في الفعالية التي تحمل عنوان "دمشق عاصمة الثقافة العربية"، أن البعد أو الطابع العربي والسوري للنشاطات والعروض كان خجولاً، ولا شك أن لديها أسبابها التي تدفعها لعولمة هذه الفعالية، لكنني أود أن أذكّرها بأننا نحن أيضاً جزء مضيء من هذه العولمة.. أنا لست ضد الهوى الأوروبي والفرانكفوني للدكتورة حنان.. ولست ضد الانفتاح على العالم، فكلما رأينا أكثر تعلمنا أكثر، ولكن ليس على حساب فرصة كان من الممكن أن تتيحها لنا كمسرحيين سوريين.. حلمنا ذات يوم أننا سنرسخ تقاليد مسرحية هامة...
هناك أمر آخر يُشعر بالمرارة.. وهو التعمد في تغييب أسماء كبيرة عن جو الاحتفالية، إذ وقع ظلم كبير بحق سعد الله ونوس وممدوح عدوان ومحمد الماغوط وغيرهم... وهم من القامات الكبيرة التي كانت تستحق مساحة أكبر من الاهتمام والاحتفاء.. فقد قدمت الاحتفالية مسرحية لسعد الله ونوس، وأقامت له احتفالاً رسمياً خجولاً ومتواضعاً في قريته حصين البحر، ومع الأسف لم يسمع به أحد قبل إقامته، حيث لم تسبقه دعاية من أي نوع، ولم تُوزَّع بطاقات تشير إليه، بينما فوجئنا جميعاً بأسلوب الاحتفاء بنزار قباني مع احترامي الشديد له، إذ طوال عشرة أيام وصور نزار تملأ الصحف والمجلات واللوحات الطرقية بأحجام مختلفة (تحية إلى نزار).. فهل قدّم الشاعر الكبير نزار قباني للوطن أكثر مما قدمه سعد الله ونوس؟. وهذا ينطبق أيضاً على الأسلوب الذي تم به الاحتفاء بالقامة الكبيره فيروز، وما يجري اليوم من احتفاء بالمبدع بزياد الرحباني.. علماً أنهم جميعاً عظماء ومبدعون ومن واجب الأمانة أن تحتفي بهم.
- هل تعتقدين أن للأمانة العامة للاحتفالية موقفاً سلبياً من سعد الله ونّوس؟
-- في لقاء صحفي سابق للاحتفالية أجراه الصحفي راشد عيسى مع د. حنان قصاب، ونشرته جريدة السفيربتاريخ 2/8/2002 بعنوان "منمنمات ونوس كتابة مشهدية راقية.. لكنها أساءت لدمشق ولابن خلدون"، تقول د. قصاب حسن: "..أراد ونوس من خلال هذه المسرحية أن يقدم قراءة جديدة لشخصية ابن خلدون استمدها من بعض المراجع التاريخية... وكان يريد من ذلك أن يدين علاقة المثقف الانتهازي بالسلطة، لكن المشكلة برأيي هي في اختيار نموذج لهذا المثقف الانتهازي مؤسس علم الاجتماع وأحد أهم المفكرين في التاريخ العربي المثقل بالطغيان والتخلف.."..
ثم تقول: ".. لو اختار (أي ونوس) شخصاً آخر، أو أنه اكتفى بطرح مثقف لا وجود له في الواقع، لما كان الأمر بخطورة أن يقدم للأجيال جديدة صورة قاتمة عن مفكر كبير كابن خلدون".
وأقول: سعد الله لم يتجنّ على ابن خلدون، ولم يسئ لمدينة دمشق ولا لياسمينها، وحسب تأكيد د. حنان، فهو اعتمد على مراجع تاريخية عند كتابة المسرحية، وكنت آمل أن يتوفر لديها وعي أكبر في التعاطي مع الموضوع، فليس المطلوب منها أن تنصّب نفسها محامية دفاع عن ابن خلدون، ففي النهاية هو ليس ملاكاً منزلاً، وليس منزهاً، وهو كغيره من البشر قد يخطئ وقد يصيب...
- لكن هذا مجرد رأي، وهو رأي قديم.. فلماذا تعتقدين أنه يفعل فعلاً سلبياً في مدى تقدير أو احترام د. حنان قصاب حسن لشخصية كبيرة مثل سعد الله ونوس، وبالتالي لطريقة ومستوى الاحتفاء به؟
-- برأيي أن هذا الرأي ما يزال مسيطراً عليها، والدليل هو الاحتفاء الكبير بالأديب الدمشقي، وتجاهل شخصية هامة كسعد الله ونوس. صحيح أنها قامت بانتاج مسرحية (أحلام شقية)، ولكنها لم تكن صاحبة المبادرة في ذلك على الإطلاق، فهذه المسرحية كانت تنتج خارج إطار الفعالية برعاية وترحيب مديرية المسارح والموسيقى ووزارة الثقافة وبمبادرة من المخرجة السيدة (نائلة الأطرش)، وكانت التدريبات جارية حين تدخلت الأمانة العامة، وطلبت د. حنان وضع العرض في إطار نشاطاتها الاحتفالية، وبرأيي أنها كانت ستؤدي خدمة كبيره لسعد الله لو تركت المسألة في سياقها الأول، فالمسرحية تحت رعايتها لم تأخذ حقها من الدعاية والإعلان، وعرضت ثلاثة عروض فقط.. بينما لو بقيت الرعاية لمديرية المسارح لعرضت في صالة الحمراء أو القباني، وهي الأماكن الأكثر ألفة وحميميه ولامتدت العروض لعشرين يوماً على الأقل.. الأمر كان مجرد رفع عتب، وليتها أبقت العتب ولم تحاول رفعه لكان أفضل..
ثم إن د. قصاب حسن منزعجة لموقف "منمنات تاريخية" من بعض تجار دمشق الذين تعاونوا مع تيمور لنك.. معتبرة ذلك تجنياً على المدينة وأهلها، فلماذا؟ أليست هذه الشريحة من الانتهازيين موجودة في كل زمان ومكان؟ ألم تقرأ مذكرات بعض قادة النضال الوطني ضد الاحتلال الفرنسي التي أكدت أن بعض التجار الدمشقيين جروا عربة غورو على أكتافهم بعد معركة ميسلون المشرّفة التي خاضها حتى الموت ثلة من أبناء دمشق المخلصين وعلى رأسهم البطل يوسف العظمة الدمشقي؟
د. قصاب حسن في اللقاء نفسه مع السفير، وفي سؤال راشد عيسى: (هل تعتقدين أن ثمة قصدية في تشويه مدينة دمشق عند سعد الله ونوس؟) تجيب: "لا أدري.." وكان حري بها أن تقول: أجزم أن لا، فهي تعرف سعد الله جيداً ليس ككاتب فقط، بل كالإنسان مبدع جمعتها وإياه زمالة التدريس في المعهد العالي للفنون المسرحية. وتضيف د.حنان: "أنا لا أقول ذلك بدافع ذلك العصبية لدمشق.. لكنني أرفض أن تشويه مدينة عمرها ثلاثة آلاف عام بجرة قلم".
ألا يؤكد هذا الكلام أنها تحاول اليوم في احتفالية دمشق الاقتصاص ومعاقبة سعد الله ونوس لأنه من وجهة نظرها أساء لدمشق؟
لقد سألني بعض الأصدقاء: لماذا لا تشاركين بالفعالية بأعمال لسعد الله ونوس؟ ونصحوني أن أقدم طلباً لـ د.حنان بهذا الشأن، لم أتردد، وقدمت مشروعين: (سهرة مع أبي خليل القباني) و(طقوس الإشارات والتحولات) ولكنها رفضت طلبي لأن المخرجين المقترحين نوار بلبل وبسام الطويل.. لا يملكان تجربة تؤهلها لإنجاح هذا العمل.. علماً بأن الإثنين تخرجا من المعهد العالي للفنون المسرحية الذي تشكل هي أحد أركانه الهامة.. فهل يحق لها أن تحجب عن الشباب فرصة كهذه، وهي التي سمحت لنفسها أن تخوض تجربة الإخراج المسرحي دون أن تملك التأهيل التخصصي لذلك؟.. إنني أتساءل لماذا تبيح لنفسها ما تمنعه عن غيرها، وهي التي أثبتت من خلال الفرصة التي منحتها لنفسها والتي تمخضت عن عرضين مسرحيين فاشليين من وجهة نظري، أنها لا تفوقهما إبداعاً؟
في النهاية موازنة دمشق عاصمة للثقافة العربية.. نقودنا.. نقود الشعب السوري، وربما تكون قد هدرت في مكانها بما يتناسب وبرستيج د.حنان قصاب حسن، لكننا كنا نأمل أن يصيب طموحنا المسرحي من الحب جانب.
ختاماً، وها قد أشرفت الاحتفالية على الانتهاء، هناك سؤال في أذهان البعض: ماذا حققت لنا هذه الاحتفالية؟ وماذا بقي منها؟ وهل أدت مهمتها المرجوة أم كانت حالة استعراضية شبيهة بالألعاب النارية التي افتتحت بها؟ والتي أضاءت سماء دمشق لدقائق ثم انطفأت مخلفة وراءها رائحة البارود.
بطاقة تعريف
فايزة شاويش فنانة دمشقية، عضو في نقابة الفنانين منذ 1/3/1968..
أهم الأعمال التي شاركت بها:
في المسـرح: لكل حقيقته - طرطوف - زيارة السيدة العجوز - سهرة مع أبي خليل القباني - الملك هو الملك.
في الإذاعـــة: الحب والعبقرية - شخصيات روائية - حكايا القط الجاثم..
في التلفزيون: حارة القصر - قوس قزح - أولاد بلدي - زقاق المايلة - جسر البيت.