ينطبق ذلك، مثلاً، على أنه وضع “صفقة القرن” أساساً لـ “السلام” في الشرق الأوسط، وأضاف اليها “اتفاقات التطبيع” التي حققت بعض أهدافها الخاصة، مع أن إحدى الحروب المطلوب وقفها الآن- غزّة، والضفة الغربية الى حدّ كبير- تثبت أن “صفقة القرن” التي استهدفت تمكين إسرائيل من ابتلاع الأراضي الفلسطينية لم تكن وصفة لمنع الحرب وتجنّبها بل كانت بالأحرى سبباً لاندلاعها. ولذلك عاد “حل الدولتين” الى الواجهة كخيار دولي يستند الى القوانين الدولية والحقوق المشروعة المعترف بها للشعب الفلسطيني، وكنقيض لتلك “الصفقة”.
كلّ التساؤلات عن نيات ترامب وخططه ينطبق أيضاً على الحدث الأوكراني الذي أعاد العالم الى هواجس الحرب العالمية الثانية بأبعاده النووية والاقتصادية. كان ترامب يعتقد أن لديه حلّاً سحرياً يكمن في اعتراف أميركي- غربي بالضم الروسي لشبه جزيرة القرم كتنازل من شأنه فكّ عقدة روسيا واقصاء خطر اندلاع مواجهة بينها وبين حلف الأطلسي. غير أن غزو أوكرانيا وطموحات فلاديمير بوتين وتنسيقه الاستراتيجي مع الصين (بالإضافة الى إيران وكوريا الشمالية) أكدت أن أوكرانيا تُتخذ جسر عبور الى “نظام عالمي جديد” قد يحول دون جعل “أميركا عظيمة مجدّداً”، وفقاً للشعار الانتخابي لترامب. ولا شك أن ثمة تضادّاً بين هذا الشعار وبين “النظام الجديد” الذي يعتقد أصحابه أنه لن يستقيم بوجود حلف “الناتو” الذي اعتبر بوتين أخيراً أنه “أصبح من الماضي”، بل الأهم أنه لن يصبح واقعاً حقيقياً إلا بإنهاء الهيمنة الأميركية على السياسة والاقتصاد العالميين.
يصعب الاعتقاد بأن “عقيدة الصفقات” ستمكّن ترامب من تلبية هذين الشرطَين لتفادي مزيد من الحروب، أو أنها قادرة على إيجاد توازنات دولية “سلمية” جديدة كبديل من النموذج الذي تتطلّع إليه روسيا، فيما لا تزال تركّز على مواجهة مع الصين. لا بدّ أن يكون ترامب وفريقه مدركَين مدى التغيير الذي طرأ على العالم جرّاء الحروب الأخيرة، وأن أطروحاته السابقة تنطوي على غموض استراتيجي واختلالات قابلة للتفجّر. فكثيرون رأوا أن إيحاءه بإمكان زعزعة حلف الأطلسي وإضعاف أوروبا هو ما مهّد لغزو أوكرانيا، وليس في استعادته تلك الفكرة ما يمكن أن يطمئن موسكو أو يقنعها بمجرّد “تسوية” تُرغَم أوكرانيا فيها على التنازل عن بعض أقاليمها الشرقية لقاء العيش بسلام مع روسيا. ثم أن إدخال الصين (وإيران) على خط الحرب الأوكرانية كان إشارة واضحة الى أن هذا الصراع له أبعاد استراتيجية عالمية ولا يقتصر على خلافات حدودية. ثم أن أي تسوية تُبنى على احتلال أراضٍ بالقوة من شأنها أن تجعل كلّ حدود الدول موضع صراعات مستجدّة.
يمكن وقف حرب أوكرانيا متى أصبح ترامب جاهزاً لتنازلات تتعلق بالأمن الأوروبي، لأن بوتين يريد ثمناً أكبر من أراضٍ يحتلّها فعلياً، ولن يكون وارداً لديه الابتعاد عن الصين كما يأمل ترامب. كذلك يمكن إنهاء حربَي غزّة ولبنان، لكن بشرطَين: أولاً، وضع حدّ لأطماع اليمين الديني المتطرف في إسرائيل. وثانياً، وضع حدّ لتمدّد إيران وأطماع نفوذها الإقليمي. وبالعودة الى جذور هذين الشرطين تتبدّى المسؤولية الأميركية عن تغذيتهما واستفحالهما. ذاك أن واشنطن أسست سياستها الشرق-أوسطية على “مركزية إسرائيل” فلم تأخذ بضوابط القانون الدولي ولا اهتمّت هي نفسها بوضع ضوابط لحليفها الذي استدرجها الى الاعتراف له بمشروعية احتلالاته في فلسطين وسوريا. هذا ما ارتكبه ترامب في رئاسته الأولى، ويستطيع أن يصححه ويصلحه تصوّر في رئاسته الثانية، إذا توفّرت لديه الإرادة، إذ أصبح محسوماً أن السلام في المنطقة يتطلّب تغييراً أميركياً جوهرياً نحو انصاف الفلسطينيين.
في المقابل، كانت واشنطن صاحبة التوجّه نحو اعتماد إيران (مع إسرائيل) كعنصر تهديد دائم للمنطقة العربية. تكرّس ذلك بعد هجمات 11 سبتمبر ومع غزو العراق (اتفاقات طهران وإدارة بوش) ثم تعزّز بالاتفاق النووي (مع إدارة أوباما التي أمّنت تغطية لتوسّع إيران في سوريا ولبنان واليمن، فضلاً عن استيلائها على الملف الفلسطيني مستفيدةً من إضعاف واشنطن وإسرائيل للسلطة الفلسطينية. عشية الحربَين كانت طهران راكمت المكاسب، وعلى رغم أن ورقتي “حماس” و”حزب الله” ضعفتا في يدها، بل انقلبت الحرب عليها، إلا أنها لا تزال قادرة على المساومة للحفاظ على مكاسبها إذا أراد ترامب التعامل معها.
-------------
النهار العربي