نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التطييف وبناء الوطنية السورية

11/03/2025 - رانيا مصطفى

فلول الأسد: التجربة المرة

11/03/2025 - فايز سارة

خالد الأحمد: المستشار المنفي

10/03/2025 - عروة خليفة

الجرح الاوربي ...عميق

04/03/2025 - سوسن الأبطح

في دمشق نسيتُ الفوتوغراف

04/03/2025 - غطفان غنوم

هذا التصعيد الإسرائيلي على سورية

04/03/2025 - عبدالجبار عكيدي

الدين للجميع والوَطن للشعب

04/03/2025 - مضر رياض الدبس

الطائفة المظلومة في سوريا

02/03/2025 - ميشيل كيلو

لا تنخدعوا بأوهام تجربة نيلسون مانديلا

22/02/2025 - د.محيي الدين اللاذقاني

ماكس فيبر وسوريا الجديدة

22/02/2025 - غسان زكريا

حُباً بالسوريين.. وأملاً بسوريا

17/02/2025 - هوشيار زيباري


التطييف وبناء الوطنية السورية





أحسنت السلطات السورية الجديدة التعاطي مع حالة التجييش الطائفي، على أثر جريمة قتلٍ ارتكبها خارجون عن القانون في مدينة جرمانا بريف دمشق، بحقّ عنصر من الأمن العام، بأن حقنت الدماء استجابةً لطلب الهيئة الروحية في المدينة، التي رفعت الغطاء عن المجرمين وطالبت بملاحقتهم وبعودة مؤسّسات الدولة إلى المدينة، وذلك بمساعٍ من قادة فصائلَ قدموا من السويداء. مثل هذه الحوادث الفردية كانت تحصل في زمن النظام البائد، وتُحلّ بالطريقة نفسها، من دون أن يرافقها تضخيمٌ إعلامي أظهر المدينة، هذه المرّة، وكأنَّها خارجةٌ عن سيطرة الدولة، وزادت الطين بِلَّة التصريحات الإسرائيلية بأنهم معنيون بحماية الدروز والأقلّيات، وتحذيراتهم للحكومة السورية بألا تدخل جرمانا، وهي أوّل مدن الغوطة الشرقية، وتضمّ لفيفاً كبيراً من السوريين لجأوا إليها خلال سنوات الحرب.


 
في استعراضٍ رمزي للوحدة الوطنية ولقوة السلطة الجديدة، دخلت أرتالٌ من الأمن العام إلى المدينة برفقة شبَّان من الدروز يرفعون البيارق الدرزية، ما شكّل أيضاً ردّاً وطنياً على الاستفزازات الإسرائيلية الصارخة تجاه السوريين. بات واضحاً أن السلطات السورية الجديدة تميل إلى التهدئة، وهي تجيدُ هذا الأمر، وكذلك العقلاء في المجتمعات الأهلية يتصرّفون بحكمةٍ لمنع إراقة الدماء، ولا أحد في سورية يريد اليوم العودة إلى حمّام الدَّم، والجميع يتطلّعون إلى توحيد الأراضي السورية، عدا قلّة من الموتورين أو المطلوبين بتهم ارتكاب جرائم أو تجارة المخدّرات في عهد نظام الأسد. بمعنى أنّ السوريين اليوم راغبون في تجاوز ما يثير الفتن، والبدء ببناء دولة جديدة؛ لكن هذه الرغبة لا تكفي لمنح المجتمع السوري حصانةً ضدّ مشاريع تسييس الهُويَّات الدينية، والتي تلوحُ تهديداتُها اليوم من دولة الكيان الإسرائيلي خصوصاً، فليس بمقدورنا تجاهل تداعيات سنوات الحرب السورية، وما رافقها من تمزيق للنسيج الاجتماعي، عدا عن أنّ الدولة في ظلّ نظام الأسدَين لم تكن مدنيةً يوماً، ولم تبنِ مجتمعاً حصيناً ضدّ التطييف، بل كان تسييس الهُويَّات الفرعية إحدى أدوات السلطة لترسيخ نموذج حكم العسكر.
سورية اليوم ضعيفةٌ وهشَّة، ومنكشفة أمام مشاريع تسييس ديني أسوأ من نموذج نظام الأسد الشمولي، تمثّل تهديداً وجودياً لوحدة سورية، إذ اجتاحت دولة الكيان الإسرائيلي أراضي سورية جديدة، وبتبرير عالمي، بحجَّة حماية حدودها من خطر التطرّف الديني، ودمّرت مقدرات الجيش السوري كلّها، وهي اليومَ تستغلّ الحساسيات الدينية، ويُطلق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير أمنه يسرائيل كاتس، ووزير خارجيته جدعون ساعر، كلاماً عن حماية الدروز وإقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، بالتزامن مع الإعلان عن مجلس عسكري درزي في الجنوب، تبرَّأ منه أهالي السويداء وفصائلُها العسكرية الوازنة، وخرج المُحتجُّون في كلّ الجنوب السوري، وفي دمشق وجرمانا، للتنديد بالتصريحات الإسرائيلية، والتأكيد على وحدة الأراضي السورية. وكانت قد تردَّدت طروحاتٌ بالإدارة الذاتية منذ بدء انتفاضة السويداء في صيف 2023، وتمَّت محاصرتُها ومنعُها من الأهالي المُحتجِّين طيلة عامٍ ونصف قبل سقوط نظام الأسد، ولا تزال هذه الطروحات مرفوضةً في المدينة. بالتأكيد، الاحتلال الإسرائيلي غير معني بحماية الأقلّيات في سورية، وغير جادٍّ في تخوُّفه من حكمٍ إسلامي على حدوده، وقد حطّم القدرات العسكرية السورية، ويدرك أن الحُكّام الجدد منشغلون في ترتيب حكمهم وتسويق صورة معتدلة لهم أمام الرأي العام العالمي، ولرفعهم من قوائم الإرهاب، ورفع العقوبات عن سورية. الكيان المحتلّ معنيٌ بتفتيت سورية، خاصةً أنَّه يعتبرها صارت منطقة نفوذٍ تركية، ولا ترضيه المصالحة بين دمشق وقسد بترتيب تركي، وبالأصل لا يريد لهذا البلد التعافي.
السوريُّون اليوم معنيون بإعادة بناء هُويَّتهم الوطنية، وتحصين مجتمعاتهم ضدّ التدخّلات الخارجية التي تهدف إلى التطييف. استعراضات الوحدة الوطنية بالتوافق بين الحكومة والوجهاء والهيئات الروحية لا تكفي لبناء وعي وطني، وهي إن نجحت في درء الفتنة في جرمانا أو أماكن أخرى، فنجاحُها غير مضمون مستقبلاً، خاصّة أنَّ حصر الاعتماد على الزعامات الدينية في التعبير عن رعيَّتها، أمنياً وسياسياً ومطلبياً، يعمّق الهُويَّات الدينية، في تناقضٍ مع الهُويَّة الوطنية الأوسع، وليس العكس، في ظلّ غياب الدولة المدنية القائمة على مبدأ المواطنة. إنّ إعادة بناء هُويَّة وطنية جامعة للسوريين تحتاج إلى مشروع وطني متكامل، لا يقتصر على ترسيخ الديمقراطية والحرّيات الفردية وحرّية الاعتقاد والتجمّع وحرّية تشكيل الأحزاب والنقابات وفصل السلطات، وتطبيق العدالة الانتقالية، بل يتخطاها إلى مشروعٍ اقتصادي تنموي بالضرورة، يُركّز على الاستثمار في الإنسان السوري، أي إشراكِه في عملية التنمية الاقتصادية وإعادة الإعمار عبر خلق مؤسَّسات اجتماعية واقتصادية مُنتِجة، قائمة على أساس التضامن والتكافل بين فئات المجتمع، وتخلق فرص عملٍ، وتخلق بيئات تتجاوز الحساسيات الدينية، وتُشعر المواطن الفرد بأهمّيته ودوره في عملية البناء، وانتمائه إلى الدولة التي يبنيها.
لا تبشّر خطوات الحكومة بأنها تمتلك ذلك المشروع الوطني القائم على إشراك السوريين كلّهم في عملية البناء، وإشاعة شعورٍ جديد بالولاء للوطن، فمؤتمر الحوار الوطني كان شكلياً سريعاً، كأنّه صورة ملوّنة قُدّمت للخارج، واختارت السلطة بنفسها الشخصيات التي حضرت، ولم تكن في معظمها تمثِّل كفاءاتٍ سورية، بل في غالبها تمثيلات ما دون وطنية، عشائرية ودينية وإثنية، وصدر بيانُه غير الملزم بسرعة فائقة، وكأنه مُعدٌّ مسبقاً. كان المؤتمر وتوصيات بيانه الختامي (غير الملزم للحكومة) مخيباً للآمال، خاصة لجهة خلوّه من أيّ إشارة إلى الديمقراطية. ثم شُكلت لجنةٌ لكتابة الإعلان الدستوري الذي يسدّ فراغ غياب الشرعية الدستورية للحكومة في المرحلة الانتقالية، وتبيّن ممّا تسرّب لوسائل الإعلام أنَّه أقرب إلى الدستور بتحديده هُويَّة الدولة وعلمها ودين الرئيس، من دون استفتاءٍ شعبي، وأنه سيتبنَّى الفقه الإسلامي مصدراً للتشريع، أيّ تشريعٍ، أي إقحام المقدّس في السياسة، وبالتالي لا نقاش في أحكامه، وهذا إشكالٌ سيعيد تجربة حكم الفرد على كلّ السوريين. كما سيكلّف الرئيسَ وحده بتعيين مجلس تشريعي، أي من دون انتخاب ومن دون مشاركة مع باقي السوريين.
ما سبق كلّه يُنبئ بأننا أمام حكم اللون الواحد، أي لون هيئة تحرير الشام، ومن تثق بهم، في هذه المرحلة، وهذا التوجّه سيصعِّب انضمام المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، خاصّة شرق الفرات. ويُعزِّز هذا الرأيَ تعيين حكومة تسيير الأعمال أوصياء تابعين لها في مؤسّسات الدولة كلّها، حتى النقابات يتم تعيينها، وطريقة تشكيل الجيش من فصائل إسلامية، ورفع الدعم عن أسعار الخبز والمحروقات، وطرد مئات آلاف الموظفين من دون أسباب واضحة، وفرض سياسات نقدية شلّت اقتصاد البلاد، والأسوأ من ذلك طرح النيوليبرالية المتطرّفة وصفةً للاقتصاد قائمةً على حرّية السوق والخصخصة غير المدروسة، والمراهنة الوحيدة هي على رفع العقوبات ومجيء الاستثمارات. هذا يعني غياب أيّ أفق لحلّ مشكلة المجاعة، ما يفتح على انفجاراتٍ اجتماعية تهدّد استقرار البلاد، وقبول كلّ أشكال التطييف السياسي والتقسيم إذا أصرّت السلطة الحاكمة على عنادها في تغييب مشروع وطني للسوريين كلّهم.
 --------------
العربي الجديد

رانيا مصطفى
الثلاثاء 11 مارس 2025