والحال أن قراءة هذا التعبير المتكرر عن «متانة العلاقات» كاف وحده للكشف عن عطب أصابها أو يخشى أحد الطرفين أن يصيبها، وهو طبعاً الطرف الإيراني الذي لا شك أنه يعرف أكثر من أي جهة أخرى بشأن الحرب التي يخوضها بشار للنأي بنظامه عن الحريق الكبير المشتعل حوله وقد وصلت نيرانه إلى مناطق قريبة جداً من قصر المهاجرين، بعد أكثر من سنة من صم أذنيه عن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وبعد أشهر من الحرب الإسرائيلية الوحشية على لبنان التي قتل فيها الصف القيادي الأول في حزب الله بما في ذلك حليفه وحامي بقائه في السلطة حسن نصر الله.
فمنذ كثفت إسرائيل ضرباتها على الأراضي السورية، في الأسابيع الأخيرة، بما في ذلك فيلا ماهر الأسد في منطقة يعفور، ومقرات لفرقته الرابعة، ومواقع أخرى في العاصمة دمشق كحي المزة وكفر سوسة، ومواقع لحركة الجهاد الإسلامي، كثرت التسريبات بشأن إنذار إسرائيلي لبشار الأسد، وصل إليه عبر قنوات دبلوماسية وسيطة، لاتخاذ موقف علني يطالب فيه حليفه الإيراني بسحب كل مظاهر وجوده العسكري على الأراضي السورية من مستشارين وميليشيات متعددة الجنسيات تابعة له، وإلا تحمل عواقب قد تصل إلى استهداف بشار نفسه. إسرائيل تعرف طبعاً، كما يعرف الجميع، أن نظام الأسد لا يملك القدرة على طرد الميليشيات الإيرانية وفك تحالفه مع قادة طهران، لذلك فهي تكتفي بمطالبته بإصدار تصريح يرفع فيه الغطاء «الشرعي» عن الوجود الإيراني في سوريا، لتصبح القيادة الإيرانية أمام خيارات ليست بخيارات.
الأسد الذي ورث عن أبيه منهج اللعب على تناقضات القوى الدولية والإقليمية، من غير التمتع بمهارته، يبدو أنه وصل إلى نهاية الطريق، محشوراً بين ضغوط إسرائيل وإيران
ليس من شطط الخيال إذن أن نفترض أن زيارتي كل من لاريجاني ووزير دفاع إيران إنما جاءتا على خلفية خشية طهران من استجابة الأسد للمطلب الإسرائيلي. فإذا كان مستشار ولي الفقيه قد نقل إليه رسالة تحذير، فمن المحتمل أن وزير دفاعه قد بسط أمام الأسد خرائط عسكرية أوضح فيها ما يمكن لإيران أن تفعله به بصورة عملية، كمن يضع فوهة مسدسه على صدغ مضيفه.
ظن نظام الأسد في البداية أن عدم المشاركة الفعلية في حرب المساندة التي يخوضها حزب الله منذ الثامن من تشرين الأول 2023، تكفي للنأي بنفسه عن الصراع الدائر في جواره القريب. لكن رشقات صاروخية كانت تنطلق عبر الحدود السورية في اتجاه إسرائيل من حين إلى آخر من قبل ميليشيات تابعة لإيران، وكانت إسرائيل ترد على مصادرها أولاً بأول. أما بعد واقعة البيجر، في منتصف أيلول، التي عطلت فيها إسرائيل الجهاز العصبي لحزب الله في لبنان (وسوريا) فقد بدأت حربها التدميرية ضد لبنان، شملت الأراضي السورية أيضاً بصورة ارتفعت وتيرتها باطراد لتصل إلى أكثر من ضربة في اليوم الواحد، مع ارتفاع نوعي في الأهداف، ولم تعد تقتصر على المواقع المعروفة لحزب الله والميليشيات الإيرانية، بل تتعداها إلى مواقع عسكرية للنظام يعتقد أنها تشكل مخابئ لهما. ولم ينفع ما قيل عن أوامر أصدرها ماهر الأسد يمنع فيها قواته من استقبال الميليشيات في مواقعها، فالتغلغل الإيراني بلغ، طوال سنوات الحرب السورية، درجة يستحيل فيها التخلص منه بلا مواجهة مباشرة. كذلك أصدر الأسد قراراً يحد فيه من حركة المنظمات الفلسطينية على أراضيه. فهذه الإجراءات الوقائية لم تعد ترضي شهية نتنياهو العدوانية المفتوحة، بعدما لمس هشاشة إيران وتوابعها عبر الإقليم، ومستقوياً بالطبع بالدعم الأمريكي المفتوح.
الأسد الذي ورث عن أبيه منهج اللعب على تناقضات القوى الدولية والإقليمية، من غير التمتع بمهارته، يبدو أنه وصل إلى نهاية الطريق، محشوراً بين ضغوط إسرائيل وإيران، وغير قادر على الاستجابة للإغراءات التي يقدمها له كل من المحور الذي تقوده السعودية من جهة وتركيا من جهة أخرى، إضافة إلى إفلات الوضع الداخلي من يديه باطراد من خلال تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة ووصول الأزمة المعيشية لدى محكوميه إلى درجة تهدد بالانفجار.
يمكن الاستدلال من منشورات بعض أبواق النظام في وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة أنه بات يعلق آماله على وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بعدما خاب أمله في المبادرة العربية وعطل بنفسه مسار التطبيع المحتمل مع تركيا، وبات يرى أن حليفه الإيراني انكشف عن نمر من ورق أمام إسرائيل، وبعدما رأى من تنسيق روسي ـ إسرائيلي على الحدود وفي الأجواء السورية. فتلك المنشورات تتصيد أي تصريح من أحد أركان الإدارة الأمريكية القادمة بشأن سحب القوات الأمريكية من الأراضي السورية، أو عدم الرغبة في إسقاط نظام دمشق، وكأنها بشائر لمرحلة باتت قريبة جداً يتخلص فيها من الوصاية الإيرانية ولا يكون فيها مستهدفاً من قوى إقليمية في الوقت نفسه.
--------------
القدس العربي
كاتب سوري