.
نغادر هذه الفكرة مع أنها مهمة، ونطرح سؤالًا تقديميًا آخر: هل أنواع "الحُكم الزماني" كلها عَلمانية؟ يعني هل الحكم غير الديني، الذي يفصل الدين عن السياسة، يكون بالضرورة عَلمانيًا؟ بتقديرنا ليس دائمًا، وثمة على ذلك أمثلة كثيرة، فالدول الأيديولوجية كلها دولٌ غير علمانية لأنها لا تفصل الأيديولوجيا عن الدولة: "دولة" البعث، و"دولة" عبد الناصر، مثالان.
أحيانًا، يشعر المرء بأن الحديثَ في منطقتنا عن هذا الأمر الآن أشبه بشيءٍ طريفٍ ومضحك. الطريف أننا لم ننهِ بناء الدولة بوجهٍ ناجزٍ، وليس لدينا دولة من النوع الذي يقول المرء "إنها دولة" وهو مرتاح العقل والضمير؛ ومع ذلك نجد "علمانيين متصلبين" يريدون فصل الدين عن الدولة (التي نكاد لا نراها ولا نشعر بوجودها)، وهم مثلنا لم يصيروا مواطنين بعد، أي لا يزالوا ينتمون إلى جَمعٍ كَبيرٍ، وليس إلى "شعب". لتصير المنطقة أمام ظاهرة نادرة وغريبة: "عَلمانيين" من دون دول!
لكي نختبر طريقة التفكير من دون دولة، ننظر في حالة باكستان مثلًا، وفيها جيشٌ قويٌ نَووي، ودولةٌ مترهلة، وفوق ذلك، فيها أيديولوجيات إسلاموية متفشية، وكمٌ كبيرٌ من الفقراء مستعدُّون ليفنوا حياتهم في أي مكانٍ من العالم بتفجيرٍ هنا، وقتلٍ هناك، لـ "إعلاء كلمة الله"، أو لـ "كي لا تسبى زينب مرتين". يرى هؤلاء جميعهم، أن العَلمانية كفرٌ وزندقة، وليس كل "عَلماني" ملحدٌ فحسب، بل إنه طريقُ قاتله إلى الجنة! ويبدو أن هذا منهجُ الذين يفكِّرون سياسيًا من دون دولةٍ تقبع في الواقع، أو في الأفق، وهذه نوعية النتائج التي يصلون إليها، وهي للمفارقة نوعية النتائج نفسها التي وصل إليها كثيرُ العلمانيين الذين يفكرون سياسيًا من دون أفق الدولة، ولكن نتائجهم كانت بالاتجاه المعاكس أي إنهم طوَّروا كرهًا للإسلام كله، وازدراء.
ثمة خطابٌ آخر يدخل إلى هذا النقاش من بوابة عبارة يبدو وقعها جميلًا، وصارت مع الزمن شعارًا متداولًا بوفرة وبداهةً وتسليم، وهي أن "الدين لله والوطن للجميع". وكأن هذه العبارة صارت مُسلَّمة وصحتَها مُثبَته.
في المحصلة التفكيرُ سياسيًا من دون دولةٍ في الواقع، أو في أفق العقل السياسي في أقل التقديرات، استعراضٌ عقائديٌ من نوع العَلمانية عندنا، و"الإسلاميين الجهاديين" عند الباكستانيين والأفغان: يعني أيديولوجيا العَلمانية، وأيديولوجيا الإسلام. وكلُّ ما هو أيديولوجي لا يحقق شرط التنوير الأهم، وهو التخلي عن القصور، وأن يشعر المرء بأنه غايةٌ بذاته، وليس وسيلةً لغايات الآخرين. وهكذا فإن فصل الأيديولوجيا عن الفكر السياسي، وعن السياسة، وعن الدولة، يصب في تعبير ماكس فيبر المهم: "نزع السحر عن العالم" (Disenchantment of the world). وقد نقارب هذا الصراع التقليدي الإقصائي بين "إسلامي" و"علماني" (من دون دولة)، بأنه صراعٌ من صراعات السحر بعضه مع بعض، لا يبطله إلا تثبيط عمل الأيديولوجيا.
ونصل إلى عنوان هذا النص الرئيس الآن؛ فثمة خطابٌ آخر يدخل إلى هذا النقاش من بوابة عبارة يبدو وقعها جميلًا، وصارت مع الزمن شعارًا متداولًا بوفرة وبداهةً وتسليم، وهي أن "الدين لله والوطن للجميع". وكأن هذه العبارة صارت مُسلَّمة وصحتَها مُثبَته. ونطرح أن هذا الشعار يحتاج إلى نقدٍ وتفكير، لأن مضمونه وُلِد وتعزز في غياب مفهوم الدولة. لنفكر في المسألة كالآتي: الدين للعِباد وليس لله، والله، عند المسلمين مثلًا، غني عن العباد، لا ينفعه إيمانُهم، ولا يضرُّه إلحادُهم، بل إن الخلقَ هم المستفيدون الفائزون، أو الخاسرون، من إيمانهم أو إلحادهم؛ فالدين من الله، ولكنَّه للعباد، وليس لله. إذًا، ما الذي يمنع، أن يكون "الدين للعباد"، ولكن يظل "الوطن للجميع"، وما دخل هذه بتلك أصلًا؟ ما نطرحه هو أن الذي يمنع من ذلك هو أن الجميع لا يصنعون وطنًا، بل يصنعون جمعًا كبيرًا، وعندما نقول إن "الوطن للجميع"، نحن نضع الوطن والدين في منافسة على مفهوم "الجميع"، الأمر الذي يؤدي إلى تهيئة الأرضية لإمكان تعيين عبارة سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق": "جنسية المؤمن عقيدته". إذًا هذا أدخلنا في أدلجة الدين، أو أدلجة الوطن، أو الأمران معًا كما حدث عندنا. الأيديولوجيا في هذا الموضع بديلٌ لجأ إليه حامله لعجزه عمَّا هو أفضل، هي مثل قضم الأظافر، وإدمان الكحول؛ إنها المتنفس الرمزي للاضطراب العاطفي الذي ينشأ من غياب التوازن الاجتماعي، الناتج من غياب الدولة.
يؤدي إقحام مفهوم الوطن مع مفهوم الجميع إلى إضعاف مفهوم الشعب، وإلى تحويل الدين والوطن إلى أيديولوجيات
إذًا، الآن، بعد هذا النقاش يمكن أن نبني مقاربة أدق فنقول إن الدين (أي دين) أفقٌ روحي للإنسانية كلها؛ فالدين هو الذي "للجميع"، ولو أعدنا التفكير في الشعار المُسلَّم بصحته، صغناه من جديدٍ كالآتي: "الدين للجميع، والوطن للمواطنين"، وهذا يساوي "الدين للجميع والوطن للشعب"؛ لأن المواطنين كلهم هم الشعب، و"الجميع" لا يعني شعبًا، بل إن الشعب لا يكون إلا بدلالة دولة متعينة.
يؤدي إقحام مفهوم الوطن مع مفهوم الجميع إلى إضعاف مفهوم الشعب، وإلى تحويل الدين والوطن إلى أيديولوجيات، وإمكان استثمارهما وقودًا لعجلة السلطة، ومن ثم إقحام الدين في مواجهة شاملة مع المجتمع، والعلوم، والثقافة، والفن، وما إلى ذلك، ثم مواجهة مفهوم الوطن نفسه، وصولًا إلى "جنسية المؤمن عقيدته"، وإيران أنموذجٌ واضحٌ لهذا الخلط في المنطقة. هكذا لا يعود الدين للجميع كما ينبغي أن يكون، بل يصير للمحكومين أيديولوجيًا فحسب، والباقي يصير تكفيرهم سهلًا وسلسًا. ولا يعود الوطن للشعب كما ينبغي أن يكون؛ بل للجميع على حساب حضور مفهوم الشعب كله، فـ "الجميع" مصطلحٌ ينافس مفهوم الشعب ويعارضه إذا سُمح له بالاستمرار في العمل في المجال السياسي، لأن الجميع مصطلحٌ يحصر التفكير في حيزٍ يغيب فيه الأفق السياسي الذي يصنعه مفهوم الدولة.
---------
تلفزيون سوريا