على هذا الأساس، وبعد إنجاز عملية تحرير سورية من طغيان نظام الأسد الفارّ، يُفترض الشروع في التأسيس لحرية المجتمع السوري، وتعزيزها، وصونها، لا الاكتفاء ببناء السلطة الجديدة وتقويتها. السلطة ركن أساسي لقيام الدولة، تعبّر عن سيادتها على أراضيها، وترعى مصالح المواطنات والمواطنين جميعاً بلا تمييز، وفق القانون، ويستدعي إنفاذ القانون وحماية الأفراد استخدام "القوة" أحياناً، وهو ما يُعبّر عنه بـ"احتكار العنف" وتقنينه من قبل سلطة الدولة. لكن اختلال التوازن بين قوّة السلطة وقوّة المجتمع باب من أبواب الاستبداد، وقوّة المجتمع تكمن في حرّيته، التي تجسّدها حرّية أفراده، وهذه لا تتحقق إذا قامت السلطة على الغلَبة لا التوافق، وسطوة القوة لا حكم القانون، وإخضاع المجتمع لا حمايته، وبذلك تنمسخ السلطة ومعها الدولة إلى محض قوّة غاشمة، فينشأ الاستبداد، وهو مرض قاتل من أمراض السلطة، وليس من خصائصها الطبيعية. وعندما يحلّ منطق الإكراه والقوة تتغول "ثقافة الاستبداد"، فتفرغ الدولة من مضمونها العمومي التشاركي الشامل، وتضمحلّ فاعلية المجتمع، وتتبعثر طاقاته، ويفقد قدرته على المبادرة، ويغدو أسير المستبدّ وأهوائه.
تشكّل قوى المجتمع المدني الحرّة والفاعلة ضمانةً حاسمة للحفاظ على التوازن الضروري بين السلطة والمجتمع. ليس المقصود هنا المنظمات الممولة غير الحكومية فقط، على أهمية دورها، وإنما المجتمع المدني بمفهومه الواسع، المتمثّل في جماعات مستقلة ينشط أفرادها طوعاً من أجل تحقيق مصالحهم المهنية والثقافية والمطلبية وسواها، وهو ما يستوجب إمكانية المناقشة الحرّة والعلنية لمختلف قضايا السياسة العامة، لأنها شأن يمسّ المجتمع بكلّيته، ولا تختصّ به نخبة السلطة فحسب، على نحو ما تضمر عبارة "من يحرّر يقرّر". ولمّا كانت مسألة القضاء على المجتمع المدني، والتحكم بما تبقى من مظاهره واحدةً من أدوات التسلّط والاستبداد الأسدي، يجدر بالسلطة الجديدة الابتعاد عن هذا النهج، إلا إن كانت ترى في التحرير وإسقاط نظام الأسد مسألة استبدال سلطة بأخرى لا أكثر، وليس هذا ما بُذلت من أجله تضحيات الشعب السوري المهولة.
تبدو المرحلة الانتقالية حبلى باحتمالات شتى لما سيكون عليه مستقبل سورية
لا يكون الخلاص من نظام الأسد وآثاره بمحاكاة سياساته الإقصائية وتبنّي أساليبه القمعية، ولا يقتصر تحرير الناس من قبضة نظام مجرم على تحطيم قيودهم، بل يستدعي تمكينهم من عيش حياة طبيعية، تكون فيها كراماتهم وحرياتهم مضمونة ومصونة. وأياً تكن نوايا حكّام دمشق الجدد، ثمة مسؤولية على عاتق السوريين أنفسهم في التأسيس للحرية والدفاع عنها، من خلال المبادرة والمثابرة على ممارستها. قد يتذرّع أهل السلطة أو موالوها بعدم وجود قوانين ناظمة لعمل الأحزاب والمنظمات المدنية وتنظيم التظاهر، وغيرها من أشكال الحراك المجتمعي، لتبرير منعها أو التضييق عليها. الرد المنطقي على ذريعة كهذه أنّ غياب القوانين الإجرائية التي تنظم الحريات العامة والحقوق المدنية والسياسية لا يعني إسقاط هذه الحقوق نفسها، فهي تتأسس على مواثيق دولية لحقوق الإنسان صادقت عليها الدولة السورية، فضلاً عن أنّ الأصل في الأفعال الإباحة، ويأتي القانون ليرسم الضوابط ويحدّد المحظورات.
وإذا كانت السلطة الجديدة معنية فعلاً بتجاوز الاحتقان الطائفي الذي كرّسته سياسات النظام البائد وممارساته، ستجد في المجتمع المدني الحرّ خير سبيل لمعالجة هذه المعضلة، فالنشاط المدني عابر للهويات الدينية والمذهبية، ويرتبط بقدرة الأفراد على المبادرة، وتبنّي مواقف تنبع من ذواتهم الحرّة المستقلّة، فلا يمنعهم اختلاف انتماءاتهم من العمل معاً، انطلاقاً من حقيقة ظروفهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية المتشابهة، من أجل تحقيق مصالح مشتركة.
تبدو المرحلة الانتقالية حبلى باحتمالات شتى لما سيكون عليه مستقبل سورية، وسيكون السيناريو الأشدّ خطراً نزوع السلطة الجديدة إلى التفرّد بالحكم، واعتماد الولاء والطاعة العمياء معياراً لازماً في تشكيل الأطر اللازمة لدولة ما بعد الأسد. لقد أُنجزت المهمّة الثورية الأولى بإسقاط الديكتاتور وتحرير سورية من طغيانه وظلمه، وحان وقت العمل على تأسيس الحرية وتحقيق العدالة بعد طول صبر وانتظار.
---------
العربي الجديد