—--------
يوليو 1950
ربما لم أكن سعيدة قط، لكنني الليلة راضية. لا شيء أكثر من منزل فارغ، وضباب دافىء بعد يوم قضيتُه في تقليم أشجار الفراولة تحت الشمس، وكأس من الحليب الحلو البارد، وطبق من التوت الأزرق المغموس بالقشدة. الآن أعرف كيف يمكن للناس أن يعيشوا دون كتب، دون جامعة. عندما يكون المرء متعبًا جدًا في نهاية اليوم عليه أن ينام، وفي الفجر التالي يوجد المزيد من أشجار الفراولة لتقليمها، وهكذا يستمر المرء في العيش، بالقرب من الأرض. في مثل هذه الأوقات، سأكون حمقاء لو طلبت المزيد.
*
سألني إلو اليوم في حقل الفراولة: "هل تحبين رسامي عصر النهضة؟ رافائيل ومايكل أنجلو؟ لقد نسختُ بعض لوحات مايكل أنجلو من قبل. ما رأيك في بيكاسو… في الرسامين الذين يرسمون دائرة ولوحًا صغيرًا يتدلى كساق؟". كنا نعمل جنبًا إلى جنب، وكان يصمت قليلاً، ثم ينفجر بالحديث فجأة بلكنته الألمانية الغليظة. يقف ووجهه الأسمر الذكي يتجعد من الضحك. جسمه المكتنز مفتول العضلات برونزي اللون، وشعره الأشقر مدسوس تحت منديل أبيض حول رأسه. قال: "هل تحبين فرانك سيناترا؟ عاطفي جدًا، رومانسي جدًا، ليلة مقمرة، ها؟".
*
كانت الليلة فظيعة. مزيجًا من كل شيء. من مسرحية "وداعًا يا خيالي". من رغبتي الصبيانية في أن أكون مثل البطلة، مراسلة صحفية في الخنادق. أن يحبني رجل معجب بي، يفهمني بقدر ما أفهم نفسي. ثم كان هناك چاك، الذي حاول جاهدًا أن يكون لطيفًا، وتألم عندما قلت له إن كل ما يريده هو الجنس. وكان هناك العشاء في النادي الريفي، والثراء في كل مكان. ثم كانت الأسطوانة... المشجعة جدًا على الرقص. لم أنتبه إلى أنها هي، حتى بدأ لويس أرمسترونج يغني بصوت أجش نادم: "طفت العالم في طائرة، وأشعلت الثورات في إسبانيا، ورسمت خرائط القطب الشمالي... ومع ذلك لا أستطيع أن أبدأ الكلام معك". قال چاك "هل سمعتِها من قبل؟"، ابتسمت "أوه، نعم... إنه بوب"، حسم ذلك الأمور بالنسبة لي… أسطوانة مجنونة، ثم كان حوارنا الطويل، واستماعه وتفهمه. وعرفت أنني أحببته.
*
الليلة رأيتُ ماري. كنت أنا وچاك نتدافع خارجين من المسرح وسط الزحام، وكانت هي تندفع في الاتجاه الآخر بسترة زرقاء غامقة. بالكاد تعرفتُ عليها بعينيها المغمضتين ووجهها المتجمل. لكنها جميلة. قلت لها: "لقد كنتُ أبحثُ عنكِ في كل مكان… ماري، اتصلي بي، راسليني". ابتسمتْ ابتسامة تشبه قليلاً ماري التي كنت أعرفها، ثم رحلتْ. أدركت أنني لن أحظى بصديقة مثلها أبدًا. فخرجتُ بفستان أبيض، ومعطف أبيض، مع فتى غني. وكرهت نفسي بسبب نفاقي. أحببت ماري. "بيتسي ليست سوى متعة؛ متعة هستيرية. ماري هي أنا... ما كنت سأكونه لو ولدتُ لأبوين إيطاليين في شارع ليندن". إنها حيوية، نموذج للفنانة، للحياة. يمكن أن تكون وقحة، لا يمكن الاعتماد عليها، وهي بالنسبة لي من أكثر الفتيات الجميلات والمصطنعات الميسورات اللواتي يمكن أن أقابلهن. ربما هو غروري. ربما أشتهي شخصًا لن يكون منافسي أبدًا. لكن معها يمكنني أن أكون صادقة. قد تكون عاهرة لكني لن أكترث لذلك؛ لن أنكرها أبدًا كصديقة.
*
أردتُ الليلة أن أخرج لبضع لحظات قبل الخلود للنوم؛ كان الجو دافئًا جدًا في المنزل. وأنا أرتدي بيچامتي، وشعري المغسول منذ قليل ملفوف على البكرات. حاولت فتح الباب الأمامي. انكسر القفل عندما أدرته؛ جربت المقبض. لم يفتح الباب. منزعجة، أدرت المقبض في الاتجاه الآخر. لم يستجب. لويت القفل؛ لا يوجد سوى أربع توليفات ممكنة للمقبض والقفل، مع ذلك ظل الباب عالقًا، أبيض، فارغًا وغامضًا. نظرت إلى الأعلى. وعبر المربع الزجاجي أعلى الباب، رأيت كتلة من السماء، تخترقها النقاط السوداء الخشنة لأشجار الصنوبر في الشارع. والقمر شبه مكتمل، مضيء وأصفر، خلف الأشجار. وفجأةً شعرتُ بضيق في التنفس واختناق. كنت محاصرة، بمربع الليل الصغير المحير فوقي، وجو المنزل الدافئ الأنثوي الذي يلفني في أحضانه الكثيفة الخانقة.
*
6 يوليو 1952
ظاهريًّا، كل ما يمكن لأحد أن يراه عند مرور فتاة سمراء طويلة الساقين على كرسي أبيض في حديقة، تجفف شعرها البني الفاتح تحت شمس يوليو في آخر الظهيرة، مرتدية شورت وصديريًّا أبيض ولبني. تلمع قطرات العرق المبللة على وسطها العاري الهزيل، ويتدفق من حين لآخر في تيارات لزجة تحت إبطيها وخلف ساقيها. عندما تنظر إليها لا يمكنك أن تعرف الكثير: كيف أنها في شهر واحد قصير من حياتها بدأت وأحبَّت وخسرت وظيفة، وكوَّنت بحماقة وطواعية العديد من الأصدقاء الفريدين ثم نأت بنفسها عنهم، والتقت بفتى من برنستون وأُسرت به "وفازت بإحدى جائزتين من أصل ما قيمته 500 دولار في مسابقة الجامعة الوطنية للرواية". وتلقت رسالة مبهجة ومشجعة من ناشر معروف "يأمل يومًا ما أن ينشر رواية كتبتها". وها هي ذي تجلس هناك، كسولة، في فترة نقاهة، تتعرق في الشمس الحارقة لتجعل شعرها أفتح وبشرتها أغمق. الليلة سترتدي فستانها الأبيض الجميل المصنوع يدويًّا من جلد القرش الأبيض، الذي ارتدته الصيف الماضي. وتحدِّق بانجذاب في مرافقها المفتون من برنستون بينما يتناولان المشروبات ويسمتعان إلى الموسيقى، تحت القمر المكتمل. من ينظر إليها قد لا يخطر بباله أنها في داخلها تضحك وتبكي، على غبائها وحظها، وعلى ألاعيب العالم الغريبة الغامضة التي ستقضي عمرها كله في محاولة تعلمها وفهمها.
*
"كل شيء متشابه لكن مختلف"؛ مفارقة مرة أخرى. صفتان متنافيتان ومتناقضتان في الوقت نفسه تنطبقان على الكون. هذه العبارة نظرة ثاقبة فريدة إلى الكون المتكرر والمتنوع الذي استيقظ فيه الإنسان، وبدأ يعمل على تحويله إلى شيء يمكنه أن يعتبره خاصًا به. نحن جميعًا بشر، لكننا مختلفون بقدر ما نحن متشابهون؛ متضادون بقدر ما نحن متشابهون. فنحن نعرف الشيء بنقيضه: نعرف الحار بتجربة البارد، ونعرف الخير بتقرير الشر، ونعرف الحب بالكراهية. ومع ذلك يقول آرت إنه توجد معايير أخلاقية معينة مُطلقة في المجتمع يوافق عليها الجميع، وأن كل شيء ليس نسبيًّا كما يبدو لي. على سبيل المثال، ليس من "الخير" في أي مكان أن نؤذي صديقًا من وراء ظهره؛ أن نقتله مثلاً. أوكيه، إذا كان "الصديق" يُعرَّف بأنه الشخص الذي تربطك به علاقة شخصية وثيقة جدًا وحب وتفاهم، فمن المستهجن أن تجرحه بأي شكل من الأشكال، لكن إذا جُنَّ هذا الصديق الافتراضي، هل ستفعل ما يطلبه المجتمع وترسله إلى مصحة عقلية، أم ستصغي إلى توسلاته البائسة المخبولة وتتركه حرًا ما استطعت. أو في حال تحدى القانون، هل ستفعل ما يطلبه منك المجتمع؟ أسيكون ولاؤك الأوَّلي له أم لمصلحة المجتمع؟ كل هذه الأسئلة مجرد أسئلة نظرية. وللتذكير فقط، فكّروا في كل "الأصدقاء" المحتملين الذين نذبحهم في الحرب، لمجرد أنهم يوصفون اعتباطًا بـ"الأعداء". أكل ما نفعله هو محاولة للاختيار بين أهون الشرين؟ هل ولد الإنسان، بهذا المعنى، في خطيئة أصلية؟ والخطيئة هي المعضلة المأساوية المتمثلة في اتخاذ خيارات خاطئة أو أقل خطأً، دون أن يوجد ما يُقرُّ الاختيار أو يتغاضى عنه، لا شيء سوى ثمار الاختيار، والفعل المصاحب له، لتقرير ما إذا كان الاختيار جيدًا أو سيئًا. وحتى عندئذ، سيظل الشك موجودًا على الدوام.
—-
مجتزأ من كتاب بالعنوان نفسه