الأولى لعمر بن الخطاب «رضي الله عنه»: «من لم ينفعه ظنه لم تنفعه عينه»، والثانية للجاحظ: «إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم انه لن يفلح»، والثالثة لأمين الخولي: «أول التجديد قتل القديم بحثاً».. هذه العبارات الصغيرة في حجمها الشاسعة في دلالاتها دفعتني إلى أن أطرح سؤال التجديد بدئياً على الدكتور الغذامي وهو من راد عبر مؤلفاته مناطق جديدة في الفكر النقدي العربي على مدار ثمانية عشر عاماً منذ «الخطيئة والتكفير» حتى «النقد الثقافي» فبدأت بهذا السؤال الذي لم يكن معداً ضمن ما أعددت من أسئلة دارت في الجوهر حول ما تركه مفهوم «النقد الثقافي» من أصداء خاصة مقولاته الصادمة: «المتنبي شحاذ عظيم» و«أدونيس ونزار قباني رجعيان» ومن قبل ومن بعد «موت النقد الأدبي».
كما دارت حول بعض القضايا العامة المأساوية منها كغزو العراق، والمفاهيمية كسقوط أو لا سقوط القومية العربية، وحكاية الحداثة في المملكة، وانشاء وزارة الثقافة و«الإعلام».
الغذامي كان صريحاً وجريئاً ومحدداً كدأبه في الحوارات التي يجريها وفي البدء تحدث عما إذا كان ضرورياً الرجوع للتراث لاحداث التجديد حيث قال: في الواقع هذه ليست ضرورة، هذه حتمية لا مجال للاختيار فيها، والتصور الذي يعتقد أنه بالإمكان ان نطرح جديداً بنسبة 100% ولا خلفية ثقافية له فهذا أمر مستحيل، سواء في الفكر الغربي أوالعربي أوالفكر الإنساني كله. الجديد أصلاً لا يسمى جديداً إلا بالقياس على القديم، وبالتالي: النموذج الذي يقاس عليه هو القديم.
فالقديم حاضر في الجديد بالضرورة، إذن هي ضرورة حتمية وليست مسألة خيار، لذلك فالذين يقولون دائماً: إن الحداثة هي انقطاع وانبتات مع الماضي. هذا ليس صحيحاً، ليس بامكان أحد أصلاً أن ينقطع عن الماضي، هذه مسألة مستحيلة، لو كانت هذه المسألة مسألة ثقافية اختيارية بأن يقرر الإنسان أن يتصل وينقطع، لكان هناك مجال للتساؤل، لكن الذي أزعمه أنه لا مجال أصلاً. خذ أكبر حداثي في التاريخ العالمي أو حتى لدينا في الثقافة العربية ماذا يفعل؟ إنه ليس منقطعاً حتى وإن ادعى ذلك، أنت حينما تقرأ نصه تجد التاريخ الثقافي القومي والعالمي في داخل هذا النص، وهو يتأسس بناء على ذلك يمكن أن نتمثل ذلك بالنظر إلى قمة الهرم وافتراضاً أن قمة الهرم ليست نتيجة للقاعدة فهذا غير ممكن، فنحن في حلقات متواصلة ونقطة البدء.. نقطة الصفر مستحيلة، بل لا أحد يعرف نقطة الصفر، الآن لا نعرف كيف ابتدأت اللغة، كيف ابتدأت ثقافة من الثقافات أو نظرية من النظريات، مستحيل علينا ذلك، لكن سنجدها ماثلة أمامنا، لكن كيف تمثل؟ هذا هو السؤال، ويأتي السؤال حينئذ: هل هي مجرد تكرار لشيء سابق؟ إن قلنا: إن الطفل تكرار لأبيه، فإذن نحن لا نفهم الآليات البيولوجية التي يتولد منها الطفل، أيضاً لو قلنا: إن الطفل منبت عن أبيه فنحن لا نعرف تاريخ الخلايا داخل أي طفل، وأن هذه الخلايا امتداد لاجيال لا تحصى، والتعاقبات الجيلية والجينية أيضاً.
وضع الثقافة تماماً مثل وضع الإنسان، ومثل وضع الجنين حين يظهر، فهو مستقل شكلاً لكنه كينونة من مجموعة كينونات سابقة ندرك بعضها ونجهل أشياء كثيرة جداً منها.
* هل النموذج الغربي الذي نتمثله اليوم، أو المهيمن إذا جاز التعبير مارس هذه المسألة؟ الانطلاق إلى التجديد عبر القديم؟
بكل تأكيد، فشاعر مثل «إليوت» وهو واحد من أكبر الحداثيين في التاريخ العالمي كله، يقوم على أساسين: أساس الجذر الديني، وأساس العودة الى الأصول، فهو من أصل إنجليزي، وهاجرت عائلته إلى أمريكا فولد أمريكيا، عاد من أمريكا إلى بريطانيا، حتى العودة الحسية الى الماضي حدثت منه، وعاد الى النموذج الديني الكاثوليكي كدين، وعاد الى النموذج اللغوي الكلاسيكي كلغة، وبنى على هذه العودة مشروع التقدم الى المستقبل وهو أكبر حداثي.
ولذا تذكر أن بدر شاكر السياب وجيله مع اعجابهم بإليوت خلال فترة المد اليساري نراهم لا يستطيعون الفكاك من الإعجاب به، لكنهم كانوا محرجين من مسألة الفكر اليساري والفكر الليبرالي فكانوا يسمونه: «الحداثي الرجعي» او «الرجعي العظيم» بالأحرى، واضطر السياب لكي يتظاهر أنه ليس متأثرا برجعيّ بالبدء في قراءات مع «إديث ستويل» كبديل لإليوت، لكنه في الواقع هو خاضع ومتفاعل ايجابياً مع إليوت، وغير إليوت.
* ما هي الأصداء التي نجمت عن طرح مفهوم «النقد الثقافي»، خاصة أنه قدم بعض المقولات الصادمة للقراء والنقاد مثل: موت النقد الأدبي، وتزييف الخطاب، وصناعة الطاغية، ورجعية الحداثة وغيرها من المقولات؟
أي صدى لأي عمل دائماً هو مطلب ايجابي، فالعمل الذي لا يترك صدى عادة يكون عملاً متواضعاً، والأعمال المتواضعة هي التي تحظى بقبول سريع ونسيان سريع، لكن الأعمال التي تعيد الاسئلة الكبرى في الثقافة نفسها وليس في جزء من الثقافة عادة يحدث لها الاستجابة الإشكالية، لأن الطرح نفسه إشكالي، وأنا أسلّم بأن الطرح اشكالي، أي ليس بالضرورة ان الطرح مسبوك بدرجة ان يحدث اقتناعاً سريعاً، ولو حدث ذلك معناه ان المشروع ضعيف.
مشرع النقد الثقافي اصلاً هو طرح اسئلة بالانتقال من الاهتمام بالنصوص كنصوص الى الاهتمام بالأنساق، وتكون النصوص علامات على الأنساق.
فنحن لا نلغي النصوص الآن، لكن لا نقف عندها، كان النقد الأدبي يقف حده عند النص ثم ينطلق من النص للعودة الى مزيد من النصوص، فبالتالي يثمر بقراءات جمالية، وهذا مشروع أُنجز على مدى قرون، كل الإنسانية بما فيها الثقافة العربية باعتقادي أنها أنجزت هذا المشروع.
لم يعد هناك شيء جديد في هذا المشروع. في سؤال جماليات النصوص لم يعد هناك شيء جديد، سوى ان نكرر ما هو جمالي باستبدال الأمثلة، فإذا قلنا عن «تعدد النصوص» و«تعدد الدلالات» و«الانزياحات» و«التحولات» إذا قلناها يوماً ما عن «السيّاب» سنقولها عن شاعر آخر في المغرب او في الخليج او في مصر، فصار الذي تغيّر هو المثال وليس الأطروحة، فبالتالي أصبح النقد الأدبي يدور حول نفسه، ودخل في مرحلة التشبع، والعلم أي علم اذا دخل مرحلة التشبع يُصابُ بالموات.
وطالما أنك ذكرت أمين الخولي قبل قليل، فإننا نعود اليه هنا، فله كلمة عظيمة جداً هي: إن البلاغة العربية نضجت حتى احترقت، فجرى ذلك للنقد الأدبي أنه نضج حتى احترق او في طريقه للاحتراق، لهذا كان لابد من القول بموت النقد الأدبي، والعبارة هنا مجازية وليست حسية كما يظن البعض، مجازية بمعنى ان النقد الأدبي مشروع قد أُنجز، وبدأنا ننتقل الى مشروع آخر، فمن الأخطار التي وقعت في استقبال المشروع هو الظن ان النقد الألسني، والنقد النسوي، والنقد الثقافي هي انتقالات من شيء الى شيء وان احدها يختلف عن الآخر، وهذا ليس صحيحاً، فعلى مستوى النظرية والمصطلح هي شيء واحد، والمنهجية واحدة والنظرية واحدة، لكن كيف للمنهج او النظرية ان يطور أدواته بحيث يستجيب لاسئلة جديدة ولتحديات جديدة، لهذا صار كما لاحظت في الفصل الثاني من الكتاب أنه تحوير وتطوير للآليات والأدوات التي تستخدم في النقد الأدبي، جرى تطويرها لكي تكون قابلة للاستخدام في النقد الثقافي، والسبب العلمي وراء ذلك أنها كانت تُستخدم للتعامل مع النصوص فصار عندنا ضرورة الآن للتعامل مع الأنساق وليس مع النصوص. إذن احتاج الأمر الى تقويم، ولذا فإن فكرة العنصر السابع بعد عناصر الرسالة الستة سجلت الوظيفة النسقية والجملة الثقافية كواحدة تضاف الى ما هو معهود: الجملة النحوية والجملة الأدبية، وأصبح هناك نوع ثالث هو «الجملة الثقافية»، والتورية الكلية بدلاً من التورية الجزئية، والمجاز الكلي بدلاً من المجاز المفرد، وهكذا.
تلاحظ أنت: المجاز، الكناية، التورية، العناصر الستة، هذه كلها في الأصل أدوات نقد أدبي لكنها طُورت لكي تتحول الى أدوات في النقد الثقافي، والتطوير يحتاج الى تحوير والسبب فيه عملي وإجرائي لكي يتعامل مع الأنساق بينما كان في السابق يتعامل مع النصوص.
* أحدثت مقولات مثل: «المتنبي شحاذ عظيم» و«أدونيس ونزار رجعيان» و«رجعية الحداثة» أصداء كبيرة.. هل كان هذا الصدى سمعياً لدى القراء.. أي أن القراء لم يحككوا النظرية أو المقولة بشكل معمق؟!
أنت لمست الحقيقة فعلاً، فالناس تعودت على مدى قرون ان المتنبي شاعر عظيم، وهو شاعر الأمة، أي أنه رمز جمالية تاريخنا، فإذا جاء سؤال يشكك في هذه الجمالية فهنا تحول صعب، إنها مسألة صادمة ليست هينة، فبالتالي تحتاج الى درجة كبيرة من الهدوء الموضوعي لكي نفحص هذه المقولة ونفحص نتائجها. أنا لا ألغي عظمة المتنبي، والدليل أنني قلت: «شحاذ عظيم» وسيظل عظيما، أنا أصلاً لن أحطم المتنبي، ولن أزيحه من الذاكرة أو الثقافة، فالمتنبي أعظم من أي واحد منا، لأنه موجود في ذاكرة الأمة. والآن السؤال: هل ذاكرة الأمة وهي تصنع رموزها، هل بعد صناعة الرموز تتحول هذه الرموز الى أصنام غير قابلة للتساؤل ولطرح الأسئلة، مثل ما يصير لأدونيس ونزار قباني وغيرهما؟ وهي اسماء كبيرة ومهمة، وأنا معجب بها، أنا لا أزال احفظ قصائد نزار قباني وأرددها بإعجاب شديد، أنا لا أزال احترم وأقدر تجربة أدونيس، وهنا العُقدة.. أنه في ثقافتنا يُعتقد أنك إذا انتقدت أحداً فأنت تقلل من شأنه، وأنت تلغيه، معنى ذلك أن عقليتنا الثقافية لم تتدرب على فعل النقد، وأنه فعل إيجابي، وأن نقدي للمتنبي وادونيس ونزار هو في حقيقته نقد لي أنا، لذاتي، لأنني انا أيضاً نتيجة لهؤلاء، فأنا انقد ذاتي ايضا، ولا أبرئ هذه الذات من النسقية، أقول: أنا نسقي، وأنا فيّ عيوب الفحولية والثقافة الذكورية، أنا كذلك ناتج لها، لكن الفارق بيني وبين الذين ينتقدون أطروحاتي أن العيوب نشترك فيها كلنا وهي العيوب النسقية، لكن أنا حاولت أن أراها، وهم لا يريدون أن يروها. هذا الفارق الجذري فقط. فهل يستطيع الإنسان أن يرى عيوبه؟
* كيف يتسنى له ذلك ونحن في مجال ثقافي؟
لاحظ ان من أهم المكتشفات في التاريخ البشري هي: المرآة.. ماذا فعلت المرآة؟ لقد جعلتك ترى وجهك، كنت لا تراه، غيرك يراه وأنت لا تراه، المرآة استطاعت ان تجعلك ترى وجهك، فوجهك انفصل عنك وصار في المرآة وصرت تراه، فصار لك وجهان: واحد فيك وواحد الذي هو في المرآة، فصار هذا يرى وهذا يميز. إذا رأى أحد عيوباً في وجهه.. هل معنى ذلك انه ألغى ذاته؟ هنا النقطة.
لكن الأخطر منها ان ينكر ان هناك عيباً، معنى ذلك انه لن يصلح ذاته وهذا عيب ثقافتنا أنها ظلت تمجد ذاتها، وتستهوي وتستمتع بهذا التمجيد فإذا جاءك شخص يسلبك هذه المتعة، فهذا مثل الذي «نكّد» عليك الجلسة، بالتعبير الشعبي، عندما «ينكّد» شخص عليك الجلسة وأنت جالس «رايق» و«مبسوط» لا تريده أن يبلغك مثلاً ان زلزالاً وقع في الموقع الفلاني، فيريد ألا يعرف بوجود هذا الزلزال لأن المتعة عنده أكبر من المعرفة، وهنا السؤال: هل المتعة أكبر من المعرفة أم أن المعرفة أهم من المتعة بالنسبة للأمم التي تصنع حضارات، أما الأمم التي تستهلك مجد ماضيها وتنام عليه فهي لا تريد أن تفقد متعتها هذه وأعتقد أن معظم ردود الفعل هذه عن أطروحاتي هي ان هؤلاء احسوا انهم فقدوا متعتهم التي كانوا يستمتعون بها، وقيل لهم: إن هذه المتعة مشوبة وليست نقية.
* بالنسبة لكتاباتك الأخيرة ومقالاتك نراها تركز أكثر على محاورة القضايا اليومية والواقعية كاحتلال العراق مثلاً أو تعيد إنتاج بعض الأحداث التي لم يُلتفت لها مثل: سيرة الحداثة في المملكة.. هل الهدف من هذه القضايا التقريب بين مفاهيم النقد الثقافي وقضايا الواقع؟
طبعاً ما تفضلت به أكيد ولا شك فيه، لأنه اذا ظل النقد الثقافي نخبوياً فسيقع في العيب الذي وقع فيه النقد الأدبي، وكلنا ندرك أن العيب الكبير الذي وقع فيه النقد الأدبي خاصة في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وتوجه البنيوية وما بعد البنيوية، كان المأخذ الاجتماعي العام ان النقاد يخاطب بعضهم بعضا ولا يفهمون حتى انك تجد المبدعين أنفسهم لا يفهمون ما يقال عن إبداعهم، بالطبع بالإمكان الدفاع عن هذا، لكن أيضاً لا أريد أن أدافع لأنني سأنتقل للصورة الأخرى.
هذا أصاب الأطروحة بضرر كبير بعزلها عن الواقع المعيش، واقع الناس. هنا يجب على النقد الثقافي ألا يكرر الغلطة نفسها، يجب ان يدخل الى المعترك اليومي للحياة البشرية ويهتم بالمهمل والمهمش والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي والاجتماعي والشعبيات بكل أشكالها، فهي نصوص، حتى الحرب هي نص، لذا فقد أسميتها «نصوص الحرب» فهي تعبير عن البشر، ومن أخطر التعبيرات، والظن ان القصيدة والرواية هما من يعبران عن البشر وان الحرب أو سوق البورصة لا تعبران عن البشر فهذا ظن غير صحيح على الإطلاق، بل إن اللباس إذا كان تعبيرا عن اللابس عن الناس، ايضا الحروب هي اخطر وأكبر تعبير، ايضا فإن الشعر وُلد أصلاً في الحرب وبسببها، والملاحم كالإلياذة والأوديسة هي نصوص حربية، فالأدب كله كان نصّاً حربيّاً ثم انفصل، فالحرب نص، وهي خطاب سردي له بداية وعقدة ونهاية، وآلياته تسير على هذا لذا فلابد من الدخول إليها، اضافة الى ذلك الجانب الأخلاقي فعندما تكون أمتك في أزمة والناس بكل فئاتهم متوترون مع هذه الأزمة هل فعلاً يليق بك ان تشتغل عن نص جمالي كتبه شاعر جاهلي والعالم يمر بهذه المأساة. لا بد إذن من مشاركة المثقف بالحس الجماهيري الشعبي هذا وإن كنت أشرت الى المقالات التي عن نصوص الحرب فهي اوقفت مقالات الحداثة، فتوقفتُ عن كتابة سيرة الحداثة بسبب ظروف الحرب، لكن قبلها كنت في صدد كتابة سيرة الحداثة بما أنها حدث وقع في مجتمعنا المحافظ وكان له صدى كبير.
* وكيف تصديت لهذا الموضوع.. كيف نبعت الفكرة؟
كنت أنتظر أحداً غيري من غير المتورطين في الأحداث يكتب، على أساس أنه شاهد موضوعي، لكن للأسف الشديد لم يتوفر هذا، وظل الانتظار وصارت فيه حقائق ومجريات للأمور اذا لم تسجل الآن فسوف تُنسى وبالتالي كان لا بد من كتابة حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، واعتقد ان هذا موضوع مهم، لسبب ان الحداثة صارت في مجتمع محافظ وهنا المفارقة الخطيرة جدا، فالمجتمع السعودي من أكثر المجتمعات محافظة بين المجتمعات العربية كلها، وما هو أخطر من ذلك هو المجتمع الذي يُنتظر منه ان يكون محافظاً، إذا نظرت الى المصريين فقد تكون الحداثة لا بأس بها لديهم في مصر، لكن السعودية لا.. حتى المصري ينظر الى السعودية على أنها مخزن للتراث، فيجب ألا تكون حديثة أيضاً، فهي المعقل الأخير لأي أحد، الشامي، المغربي، لذا ترى ان الحداثة في مصر والشام والمغرب اقل صراعية مع المحافظين منها في المملكة، إذن هذا السؤال يجب ان يدرس لماذا؟ حركة الانساق وصراعات هذه الأنساق والتفاصيل العالقة بها ما هي لذا سميتها: حكاية الحداثة وسوف تصدر في كتاب قريباً في بيروت.
* لدي سؤال ليس بعيداً عن حكاية الحداثة، حيث كتبت مؤخراً عن الشاعر سعد الحميدين بمناسبة صدور أعماله الكاملة.. هل يعد هذا الصدور حدثاً حداثيا أيضاً، باعتباره أول شاعر في جيله يُصدر أعماله الكاملة؟
في الحقيقة الكتابة هي مقدمة للمجموعة، وقد نُشرت بصحيفة الحياة دون اشارة انها مقدمة للأعمال الكاملة، وقد كتبتها لفائدة القارئ العربي الذي لا بد ان يعرف بعض الأسئلة الأساسية لواحد من جيل الحداثيين.
الميزة في سعد الحميدين انه كررها أكثر من مرة، فهو أول من أصدر ديواناً في جيله في العام 1976م، فكأنه أول واحد جعل الحداثة «جدّية» وليست مجرد لعب، حيث كان المحافظون يرون ان هذا عبث شباب، وأنهم غداً سيستيقظون وينتبهون الى ما يكتبونه ليس شيئاً ذا بال، فيعودون مرة أخرى الى تراثهم، لكن إذا صدر الديوان فهذا إعلان عن «جدّيّة» الحركة، وكان صدور الديوان في ذلك الوقت أمر ليس بالسهل، ربما الآن نتصور ان المسألة بسيطة جداً ان يُصدر الإنسان ديوانا، لكن لو عدنا بالذاكرة الى ذلك الوقت فلم يكن من المعتاد ان تصدر دواوين لان الناس ينظرون الى أعمالهم باعتبار انها اقل ان تكون بمستوى كتاب، لأنها تجارب. فهذا اعلان عن جدية الحركة. لذا فالديوان استفز ردود فعل ليست هينة مثّلها الأستاذ أحمد فرح عقيلان رحمه الله والأستاذ علي العمير، لأنهما أبرز من تصديا للشعر الحر الذي كان يُسمى في ذلك الوقت باسم الشعر الحر. ثم الان يكرر الحميدين نفس العملية من بين زملائه كلهم لأنه أصدر المجموعة الكاملة، وهذه أول مرة، لأننا تعودنا على ذلك لدى الشعراء العرب الكبار وخاصة دار العودة في مشروعها الكبير الناجح جدا في حركته لأنه سجل الحركة في مجاميع شعرية، فسعد الحميدين أقدم على هذه الخطوة، وهي مرة أخرى خطوة يسبق بها جيله، وكتبت المقدمة هذه لأنها ستساعد القارئ العربي لكي يعرف حكاية هذه المجموعة وهذه التجربة لكي لا يُظن انه شعر صدر اليوم، بل يعرف أنه شعر صدر في الستينيات وأنه كان إشكالية ولم يكن عاديا، فهذا هو المعنى وراء هذه الكتابة.
كما دارت حول بعض القضايا العامة المأساوية منها كغزو العراق، والمفاهيمية كسقوط أو لا سقوط القومية العربية، وحكاية الحداثة في المملكة، وانشاء وزارة الثقافة و«الإعلام».
الغذامي كان صريحاً وجريئاً ومحدداً كدأبه في الحوارات التي يجريها وفي البدء تحدث عما إذا كان ضرورياً الرجوع للتراث لاحداث التجديد حيث قال: في الواقع هذه ليست ضرورة، هذه حتمية لا مجال للاختيار فيها، والتصور الذي يعتقد أنه بالإمكان ان نطرح جديداً بنسبة 100% ولا خلفية ثقافية له فهذا أمر مستحيل، سواء في الفكر الغربي أوالعربي أوالفكر الإنساني كله. الجديد أصلاً لا يسمى جديداً إلا بالقياس على القديم، وبالتالي: النموذج الذي يقاس عليه هو القديم.
فالقديم حاضر في الجديد بالضرورة، إذن هي ضرورة حتمية وليست مسألة خيار، لذلك فالذين يقولون دائماً: إن الحداثة هي انقطاع وانبتات مع الماضي. هذا ليس صحيحاً، ليس بامكان أحد أصلاً أن ينقطع عن الماضي، هذه مسألة مستحيلة، لو كانت هذه المسألة مسألة ثقافية اختيارية بأن يقرر الإنسان أن يتصل وينقطع، لكان هناك مجال للتساؤل، لكن الذي أزعمه أنه لا مجال أصلاً. خذ أكبر حداثي في التاريخ العالمي أو حتى لدينا في الثقافة العربية ماذا يفعل؟ إنه ليس منقطعاً حتى وإن ادعى ذلك، أنت حينما تقرأ نصه تجد التاريخ الثقافي القومي والعالمي في داخل هذا النص، وهو يتأسس بناء على ذلك يمكن أن نتمثل ذلك بالنظر إلى قمة الهرم وافتراضاً أن قمة الهرم ليست نتيجة للقاعدة فهذا غير ممكن، فنحن في حلقات متواصلة ونقطة البدء.. نقطة الصفر مستحيلة، بل لا أحد يعرف نقطة الصفر، الآن لا نعرف كيف ابتدأت اللغة، كيف ابتدأت ثقافة من الثقافات أو نظرية من النظريات، مستحيل علينا ذلك، لكن سنجدها ماثلة أمامنا، لكن كيف تمثل؟ هذا هو السؤال، ويأتي السؤال حينئذ: هل هي مجرد تكرار لشيء سابق؟ إن قلنا: إن الطفل تكرار لأبيه، فإذن نحن لا نفهم الآليات البيولوجية التي يتولد منها الطفل، أيضاً لو قلنا: إن الطفل منبت عن أبيه فنحن لا نعرف تاريخ الخلايا داخل أي طفل، وأن هذه الخلايا امتداد لاجيال لا تحصى، والتعاقبات الجيلية والجينية أيضاً.
وضع الثقافة تماماً مثل وضع الإنسان، ومثل وضع الجنين حين يظهر، فهو مستقل شكلاً لكنه كينونة من مجموعة كينونات سابقة ندرك بعضها ونجهل أشياء كثيرة جداً منها.
* هل النموذج الغربي الذي نتمثله اليوم، أو المهيمن إذا جاز التعبير مارس هذه المسألة؟ الانطلاق إلى التجديد عبر القديم؟
بكل تأكيد، فشاعر مثل «إليوت» وهو واحد من أكبر الحداثيين في التاريخ العالمي كله، يقوم على أساسين: أساس الجذر الديني، وأساس العودة الى الأصول، فهو من أصل إنجليزي، وهاجرت عائلته إلى أمريكا فولد أمريكيا، عاد من أمريكا إلى بريطانيا، حتى العودة الحسية الى الماضي حدثت منه، وعاد الى النموذج الديني الكاثوليكي كدين، وعاد الى النموذج اللغوي الكلاسيكي كلغة، وبنى على هذه العودة مشروع التقدم الى المستقبل وهو أكبر حداثي.
ولذا تذكر أن بدر شاكر السياب وجيله مع اعجابهم بإليوت خلال فترة المد اليساري نراهم لا يستطيعون الفكاك من الإعجاب به، لكنهم كانوا محرجين من مسألة الفكر اليساري والفكر الليبرالي فكانوا يسمونه: «الحداثي الرجعي» او «الرجعي العظيم» بالأحرى، واضطر السياب لكي يتظاهر أنه ليس متأثرا برجعيّ بالبدء في قراءات مع «إديث ستويل» كبديل لإليوت، لكنه في الواقع هو خاضع ومتفاعل ايجابياً مع إليوت، وغير إليوت.
* ما هي الأصداء التي نجمت عن طرح مفهوم «النقد الثقافي»، خاصة أنه قدم بعض المقولات الصادمة للقراء والنقاد مثل: موت النقد الأدبي، وتزييف الخطاب، وصناعة الطاغية، ورجعية الحداثة وغيرها من المقولات؟
أي صدى لأي عمل دائماً هو مطلب ايجابي، فالعمل الذي لا يترك صدى عادة يكون عملاً متواضعاً، والأعمال المتواضعة هي التي تحظى بقبول سريع ونسيان سريع، لكن الأعمال التي تعيد الاسئلة الكبرى في الثقافة نفسها وليس في جزء من الثقافة عادة يحدث لها الاستجابة الإشكالية، لأن الطرح نفسه إشكالي، وأنا أسلّم بأن الطرح اشكالي، أي ليس بالضرورة ان الطرح مسبوك بدرجة ان يحدث اقتناعاً سريعاً، ولو حدث ذلك معناه ان المشروع ضعيف.
مشرع النقد الثقافي اصلاً هو طرح اسئلة بالانتقال من الاهتمام بالنصوص كنصوص الى الاهتمام بالأنساق، وتكون النصوص علامات على الأنساق.
فنحن لا نلغي النصوص الآن، لكن لا نقف عندها، كان النقد الأدبي يقف حده عند النص ثم ينطلق من النص للعودة الى مزيد من النصوص، فبالتالي يثمر بقراءات جمالية، وهذا مشروع أُنجز على مدى قرون، كل الإنسانية بما فيها الثقافة العربية باعتقادي أنها أنجزت هذا المشروع.
لم يعد هناك شيء جديد في هذا المشروع. في سؤال جماليات النصوص لم يعد هناك شيء جديد، سوى ان نكرر ما هو جمالي باستبدال الأمثلة، فإذا قلنا عن «تعدد النصوص» و«تعدد الدلالات» و«الانزياحات» و«التحولات» إذا قلناها يوماً ما عن «السيّاب» سنقولها عن شاعر آخر في المغرب او في الخليج او في مصر، فصار الذي تغيّر هو المثال وليس الأطروحة، فبالتالي أصبح النقد الأدبي يدور حول نفسه، ودخل في مرحلة التشبع، والعلم أي علم اذا دخل مرحلة التشبع يُصابُ بالموات.
وطالما أنك ذكرت أمين الخولي قبل قليل، فإننا نعود اليه هنا، فله كلمة عظيمة جداً هي: إن البلاغة العربية نضجت حتى احترقت، فجرى ذلك للنقد الأدبي أنه نضج حتى احترق او في طريقه للاحتراق، لهذا كان لابد من القول بموت النقد الأدبي، والعبارة هنا مجازية وليست حسية كما يظن البعض، مجازية بمعنى ان النقد الأدبي مشروع قد أُنجز، وبدأنا ننتقل الى مشروع آخر، فمن الأخطار التي وقعت في استقبال المشروع هو الظن ان النقد الألسني، والنقد النسوي، والنقد الثقافي هي انتقالات من شيء الى شيء وان احدها يختلف عن الآخر، وهذا ليس صحيحاً، فعلى مستوى النظرية والمصطلح هي شيء واحد، والمنهجية واحدة والنظرية واحدة، لكن كيف للمنهج او النظرية ان يطور أدواته بحيث يستجيب لاسئلة جديدة ولتحديات جديدة، لهذا صار كما لاحظت في الفصل الثاني من الكتاب أنه تحوير وتطوير للآليات والأدوات التي تستخدم في النقد الأدبي، جرى تطويرها لكي تكون قابلة للاستخدام في النقد الثقافي، والسبب العلمي وراء ذلك أنها كانت تُستخدم للتعامل مع النصوص فصار عندنا ضرورة الآن للتعامل مع الأنساق وليس مع النصوص. إذن احتاج الأمر الى تقويم، ولذا فإن فكرة العنصر السابع بعد عناصر الرسالة الستة سجلت الوظيفة النسقية والجملة الثقافية كواحدة تضاف الى ما هو معهود: الجملة النحوية والجملة الأدبية، وأصبح هناك نوع ثالث هو «الجملة الثقافية»، والتورية الكلية بدلاً من التورية الجزئية، والمجاز الكلي بدلاً من المجاز المفرد، وهكذا.
تلاحظ أنت: المجاز، الكناية، التورية، العناصر الستة، هذه كلها في الأصل أدوات نقد أدبي لكنها طُورت لكي تتحول الى أدوات في النقد الثقافي، والتطوير يحتاج الى تحوير والسبب فيه عملي وإجرائي لكي يتعامل مع الأنساق بينما كان في السابق يتعامل مع النصوص.
* أحدثت مقولات مثل: «المتنبي شحاذ عظيم» و«أدونيس ونزار رجعيان» و«رجعية الحداثة» أصداء كبيرة.. هل كان هذا الصدى سمعياً لدى القراء.. أي أن القراء لم يحككوا النظرية أو المقولة بشكل معمق؟!
أنت لمست الحقيقة فعلاً، فالناس تعودت على مدى قرون ان المتنبي شاعر عظيم، وهو شاعر الأمة، أي أنه رمز جمالية تاريخنا، فإذا جاء سؤال يشكك في هذه الجمالية فهنا تحول صعب، إنها مسألة صادمة ليست هينة، فبالتالي تحتاج الى درجة كبيرة من الهدوء الموضوعي لكي نفحص هذه المقولة ونفحص نتائجها. أنا لا ألغي عظمة المتنبي، والدليل أنني قلت: «شحاذ عظيم» وسيظل عظيما، أنا أصلاً لن أحطم المتنبي، ولن أزيحه من الذاكرة أو الثقافة، فالمتنبي أعظم من أي واحد منا، لأنه موجود في ذاكرة الأمة. والآن السؤال: هل ذاكرة الأمة وهي تصنع رموزها، هل بعد صناعة الرموز تتحول هذه الرموز الى أصنام غير قابلة للتساؤل ولطرح الأسئلة، مثل ما يصير لأدونيس ونزار قباني وغيرهما؟ وهي اسماء كبيرة ومهمة، وأنا معجب بها، أنا لا أزال احفظ قصائد نزار قباني وأرددها بإعجاب شديد، أنا لا أزال احترم وأقدر تجربة أدونيس، وهنا العُقدة.. أنه في ثقافتنا يُعتقد أنك إذا انتقدت أحداً فأنت تقلل من شأنه، وأنت تلغيه، معنى ذلك أن عقليتنا الثقافية لم تتدرب على فعل النقد، وأنه فعل إيجابي، وأن نقدي للمتنبي وادونيس ونزار هو في حقيقته نقد لي أنا، لذاتي، لأنني انا أيضاً نتيجة لهؤلاء، فأنا انقد ذاتي ايضا، ولا أبرئ هذه الذات من النسقية، أقول: أنا نسقي، وأنا فيّ عيوب الفحولية والثقافة الذكورية، أنا كذلك ناتج لها، لكن الفارق بيني وبين الذين ينتقدون أطروحاتي أن العيوب نشترك فيها كلنا وهي العيوب النسقية، لكن أنا حاولت أن أراها، وهم لا يريدون أن يروها. هذا الفارق الجذري فقط. فهل يستطيع الإنسان أن يرى عيوبه؟
* كيف يتسنى له ذلك ونحن في مجال ثقافي؟
لاحظ ان من أهم المكتشفات في التاريخ البشري هي: المرآة.. ماذا فعلت المرآة؟ لقد جعلتك ترى وجهك، كنت لا تراه، غيرك يراه وأنت لا تراه، المرآة استطاعت ان تجعلك ترى وجهك، فوجهك انفصل عنك وصار في المرآة وصرت تراه، فصار لك وجهان: واحد فيك وواحد الذي هو في المرآة، فصار هذا يرى وهذا يميز. إذا رأى أحد عيوباً في وجهه.. هل معنى ذلك انه ألغى ذاته؟ هنا النقطة.
لكن الأخطر منها ان ينكر ان هناك عيباً، معنى ذلك انه لن يصلح ذاته وهذا عيب ثقافتنا أنها ظلت تمجد ذاتها، وتستهوي وتستمتع بهذا التمجيد فإذا جاءك شخص يسلبك هذه المتعة، فهذا مثل الذي «نكّد» عليك الجلسة، بالتعبير الشعبي، عندما «ينكّد» شخص عليك الجلسة وأنت جالس «رايق» و«مبسوط» لا تريده أن يبلغك مثلاً ان زلزالاً وقع في الموقع الفلاني، فيريد ألا يعرف بوجود هذا الزلزال لأن المتعة عنده أكبر من المعرفة، وهنا السؤال: هل المتعة أكبر من المعرفة أم أن المعرفة أهم من المتعة بالنسبة للأمم التي تصنع حضارات، أما الأمم التي تستهلك مجد ماضيها وتنام عليه فهي لا تريد أن تفقد متعتها هذه وأعتقد أن معظم ردود الفعل هذه عن أطروحاتي هي ان هؤلاء احسوا انهم فقدوا متعتهم التي كانوا يستمتعون بها، وقيل لهم: إن هذه المتعة مشوبة وليست نقية.
* بالنسبة لكتاباتك الأخيرة ومقالاتك نراها تركز أكثر على محاورة القضايا اليومية والواقعية كاحتلال العراق مثلاً أو تعيد إنتاج بعض الأحداث التي لم يُلتفت لها مثل: سيرة الحداثة في المملكة.. هل الهدف من هذه القضايا التقريب بين مفاهيم النقد الثقافي وقضايا الواقع؟
طبعاً ما تفضلت به أكيد ولا شك فيه، لأنه اذا ظل النقد الثقافي نخبوياً فسيقع في العيب الذي وقع فيه النقد الأدبي، وكلنا ندرك أن العيب الكبير الذي وقع فيه النقد الأدبي خاصة في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وتوجه البنيوية وما بعد البنيوية، كان المأخذ الاجتماعي العام ان النقاد يخاطب بعضهم بعضا ولا يفهمون حتى انك تجد المبدعين أنفسهم لا يفهمون ما يقال عن إبداعهم، بالطبع بالإمكان الدفاع عن هذا، لكن أيضاً لا أريد أن أدافع لأنني سأنتقل للصورة الأخرى.
هذا أصاب الأطروحة بضرر كبير بعزلها عن الواقع المعيش، واقع الناس. هنا يجب على النقد الثقافي ألا يكرر الغلطة نفسها، يجب ان يدخل الى المعترك اليومي للحياة البشرية ويهتم بالمهمل والمهمش والخطاب السياسي والخطاب الإعلامي والاجتماعي والشعبيات بكل أشكالها، فهي نصوص، حتى الحرب هي نص، لذا فقد أسميتها «نصوص الحرب» فهي تعبير عن البشر، ومن أخطر التعبيرات، والظن ان القصيدة والرواية هما من يعبران عن البشر وان الحرب أو سوق البورصة لا تعبران عن البشر فهذا ظن غير صحيح على الإطلاق، بل إن اللباس إذا كان تعبيرا عن اللابس عن الناس، ايضا الحروب هي اخطر وأكبر تعبير، ايضا فإن الشعر وُلد أصلاً في الحرب وبسببها، والملاحم كالإلياذة والأوديسة هي نصوص حربية، فالأدب كله كان نصّاً حربيّاً ثم انفصل، فالحرب نص، وهي خطاب سردي له بداية وعقدة ونهاية، وآلياته تسير على هذا لذا فلابد من الدخول إليها، اضافة الى ذلك الجانب الأخلاقي فعندما تكون أمتك في أزمة والناس بكل فئاتهم متوترون مع هذه الأزمة هل فعلاً يليق بك ان تشتغل عن نص جمالي كتبه شاعر جاهلي والعالم يمر بهذه المأساة. لا بد إذن من مشاركة المثقف بالحس الجماهيري الشعبي هذا وإن كنت أشرت الى المقالات التي عن نصوص الحرب فهي اوقفت مقالات الحداثة، فتوقفتُ عن كتابة سيرة الحداثة بسبب ظروف الحرب، لكن قبلها كنت في صدد كتابة سيرة الحداثة بما أنها حدث وقع في مجتمعنا المحافظ وكان له صدى كبير.
* وكيف تصديت لهذا الموضوع.. كيف نبعت الفكرة؟
كنت أنتظر أحداً غيري من غير المتورطين في الأحداث يكتب، على أساس أنه شاهد موضوعي، لكن للأسف الشديد لم يتوفر هذا، وظل الانتظار وصارت فيه حقائق ومجريات للأمور اذا لم تسجل الآن فسوف تُنسى وبالتالي كان لا بد من كتابة حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، واعتقد ان هذا موضوع مهم، لسبب ان الحداثة صارت في مجتمع محافظ وهنا المفارقة الخطيرة جدا، فالمجتمع السعودي من أكثر المجتمعات محافظة بين المجتمعات العربية كلها، وما هو أخطر من ذلك هو المجتمع الذي يُنتظر منه ان يكون محافظاً، إذا نظرت الى المصريين فقد تكون الحداثة لا بأس بها لديهم في مصر، لكن السعودية لا.. حتى المصري ينظر الى السعودية على أنها مخزن للتراث، فيجب ألا تكون حديثة أيضاً، فهي المعقل الأخير لأي أحد، الشامي، المغربي، لذا ترى ان الحداثة في مصر والشام والمغرب اقل صراعية مع المحافظين منها في المملكة، إذن هذا السؤال يجب ان يدرس لماذا؟ حركة الانساق وصراعات هذه الأنساق والتفاصيل العالقة بها ما هي لذا سميتها: حكاية الحداثة وسوف تصدر في كتاب قريباً في بيروت.
* لدي سؤال ليس بعيداً عن حكاية الحداثة، حيث كتبت مؤخراً عن الشاعر سعد الحميدين بمناسبة صدور أعماله الكاملة.. هل يعد هذا الصدور حدثاً حداثيا أيضاً، باعتباره أول شاعر في جيله يُصدر أعماله الكاملة؟
في الحقيقة الكتابة هي مقدمة للمجموعة، وقد نُشرت بصحيفة الحياة دون اشارة انها مقدمة للأعمال الكاملة، وقد كتبتها لفائدة القارئ العربي الذي لا بد ان يعرف بعض الأسئلة الأساسية لواحد من جيل الحداثيين.
الميزة في سعد الحميدين انه كررها أكثر من مرة، فهو أول من أصدر ديواناً في جيله في العام 1976م، فكأنه أول واحد جعل الحداثة «جدّية» وليست مجرد لعب، حيث كان المحافظون يرون ان هذا عبث شباب، وأنهم غداً سيستيقظون وينتبهون الى ما يكتبونه ليس شيئاً ذا بال، فيعودون مرة أخرى الى تراثهم، لكن إذا صدر الديوان فهذا إعلان عن «جدّيّة» الحركة، وكان صدور الديوان في ذلك الوقت أمر ليس بالسهل، ربما الآن نتصور ان المسألة بسيطة جداً ان يُصدر الإنسان ديوانا، لكن لو عدنا بالذاكرة الى ذلك الوقت فلم يكن من المعتاد ان تصدر دواوين لان الناس ينظرون الى أعمالهم باعتبار انها اقل ان تكون بمستوى كتاب، لأنها تجارب. فهذا اعلان عن جدية الحركة. لذا فالديوان استفز ردود فعل ليست هينة مثّلها الأستاذ أحمد فرح عقيلان رحمه الله والأستاذ علي العمير، لأنهما أبرز من تصديا للشعر الحر الذي كان يُسمى في ذلك الوقت باسم الشعر الحر. ثم الان يكرر الحميدين نفس العملية من بين زملائه كلهم لأنه أصدر المجموعة الكاملة، وهذه أول مرة، لأننا تعودنا على ذلك لدى الشعراء العرب الكبار وخاصة دار العودة في مشروعها الكبير الناجح جدا في حركته لأنه سجل الحركة في مجاميع شعرية، فسعد الحميدين أقدم على هذه الخطوة، وهي مرة أخرى خطوة يسبق بها جيله، وكتبت المقدمة هذه لأنها ستساعد القارئ العربي لكي يعرف حكاية هذه المجموعة وهذه التجربة لكي لا يُظن انه شعر صدر اليوم، بل يعرف أنه شعر صدر في الستينيات وأنه كان إشكالية ولم يكن عاديا، فهذا هو المعنى وراء هذه الكتابة.