نحن هنا لن نخوض في مرحلة حافظ الأسد وحكمه لسوريا وكيف استحوذ على الدولة والسلطة عبر الجيش والأمن وتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع السوري، وكيف استطاع أن يؤمن توريث ابنه بشار الاسد دولة تحت السيطرة، عبر شبكة علاقات زبائنية مع القوى الدولية والإقليمية، وعبر دور سوري يسوّق نفسه بشكل دائم. وكيف استطاع بشار الأسد أن يستفيد من تركة أبيه في القمع والتحكم والسيطرة على كل مفاصل الحياة السورية.
وعندما جاء الربيع العربي كان تصور النظام السوري بأنه سيكون في منأى عن تأثيراته وان النظام متحكم بكل نفس وفعل وسلوك مجتمعي، لكن السوريين ثاروا على النظام رغم ما يدركون من تبعات القمع والتنكيل واحتمال القتل والاعتقال الذي سيصيب الناس، لان حمولة الظلم والفساد وفقدان الأمل جعلت الناس في سورية تغامر بكل شيء وتثور في ربيع عام ٢٠١١م.
الكتاب بين أيدينا اقرب لمسح موسوعي شامل حول ما حصل في سوريا في كل تاريخها، ويركز بتوسع يطال كل التفاصيل بعد الثورة السورية : بالعلاقات مع القوى الدولية والاقليمية المؤثرة في واقع الحال السوري، ماذا حصل ؟، وكيف تطور الوضع؟، ومن الفاعلين؟، والى ماذا آلت اليه الامور في النهاية حتى تاريخ طبع الكتاب ٢٠٢٠م ؟.
- الثورة السورية.
خرج السوريين في ربيعهم مطالبين بحقوقهم بالحرية والعدالة والديمقراطية، والاهم استرداد كرامتهم المهدورة لعقود تحت ظل حكم الاسد الاب والابن الاستبدادي الطائفي الظالم.
بالطبع كانت الثورة سلمية مطلبية، لكن رد النظام القمعي العنيف المسلح، زاد مطالب الناس إلى الدعوة لإسقاط النظام ومحاسبته. وزاد عنف النظام الى درجة القتل العلني العشوائي للناشطين وللناس على قاعدة الارض المحروقة. عندها كان لا بد أن ينتقل بعض الثوار للعمل العسكري لمواجهة النظام، وهنا بدأت تتحول القضية السورية الى مسرح لتدخلات دولية وإقليمية، مع وضد النظام، وبالمقابل مع وضد الثورة والثوار، ودخلت الثورة السورية في عشرية دامية بحمولتها القاسية على السوريين.
- النظام وداعميه.
اعتمد النظام في مواجهة التظاهر السلمي والمطالب الشعبية على المواجهة المفتوحة العسكرية الاستئصالية للحراك وحاضنته الشعبية، وهذا دفع الناشطين ليصنعوا مجموعاتهم المسلحة التي كثرت وتنوعت وأصبحت تواجه النظام في كل المواقع، بدأت بإمكانيات ذاتية فردية ثم بدأت تدعمها بعض الدول الغربية والعربية بحكم مصالحها واجنداتها المختلفة مع النظام، وبدأت تنقلب موازين الصراع لصالح الثورة والثوار. مما دفع النظام أن يستدعي حلفائه الإقليميين والدوليين. حيث ظهرت إيران عبر دعمها المالي والعسكري، الاستشاريين وفيلق القدس و حزب الله اللبناني للتدخل لصالح النظام في سوريا، كذلك دعم العراق النظام ماليا وبالنفط وعسكريا عبر الميليشيات العراقية الطائفية هذا غير المليشيات الافغانية الطائفية. ومع ذلك استطاعت الثورة السورية أن تواجه هذا الدعم وان تنتصر في الأرض وتحرر اغلب سوريا حتى اوائل عام ٢٠١٥م. عندها التقت القيادات الاسرائيلية والروسية والامريكية بالسر والعلن، وأعطت الأذن لروسيا لتدخل بقوتها العسكرية الكاملة وخاصة بالجو و تدعم النظام السوري، ولتبدأ بقلب معادلة الصراع على الأرض ويعيد النظام السيطرة على بعض المدن التي خسرها وخاصة حلب. ليس غريبا ان يتحالف الروسي والاسرائيلي برعاية امريكية ليعيدوا تموضع النظام ومنعه من السقوط، النظام مقبول إسرائيليا بغض النظر عن الجعجعة اللفظية، وروسيا تتحرك وفق توافق مع أمريكا وإسرائيل لتحقيق مصالح مشتركة.
- الثورة وحلفاؤها.
بدأت الثورة يتيمة فلا يوجد دول داعمة مسبقا، لكن وجدت بعض الدول الخليجية في الثورة السورية، وسيلة تواجه من خلالها النظام المختلفين معه في أجندات كثيرة، دول الخليج وخاصة السعودية، ترى إيران عدوا محتملا سواء من خلال تغلغله في بعض دولها حسب نظرية ولاية الفقيه و التوسع الديني الشيعي في الدول العربية، حيث نجحت في العراق ولبنان واثارت البلبلة في بقية دول الخليج، هذا غير مشروعها النووي الذي يهدد دول الخليج بالمباشر. هذا عن إيران كذلك دور النظام السوري في لبنان ودوره في محاربة التيار الإسلامي في سوريا ومجازر الثمانينات والدعم المعلن لهذا التيار وقتها من دول الخليج.
المهم أن لدول الخليج مصلحة بدعم الثورة، كذلك ركبت أمريكا وبعض الدول الأوروبية الموجة و شكلوا مع دول الخليج والأردن وتركيا غرفتي دعم للثورة السورية الموم والموك، التي استمرت تدعم الثورة في سنواتها الأولى. لكن تطورات الثورة والتدخلات الروسية الإيرانية لدعم النظام مع ظهور المجموعات الإسلامية المسلحة، كذلك داعش والقاعدة والنصرة، جعل الأمريكان والغرب ودول الخليج يستنكفون عن دعم الثورة السورية ويحولون اهتمامهم لقتال الارهاب متمثلا بداعش التي كبرت وتوسعت في العراق وسوريا. انعكس ذلك بالسوء على الثورة السورية التي تركت يتيمة أمام النظام وحلفائه المتوحشين، خاصة بعدما انفرط عقد الدول الخليجية بالخلاف و الصراع القطري السعودي.
- المآلات.
لم تكد تمضي سنوات الثورة الاولى بورديتها، حتى انقلب حالها إلى الأسوأ. لقد دخلت روسيا بعنفها العسكري الجوي واعتمدت على الأرض المحروقة. قتلت مئات الآلاف وشردت الملايين ودمرت البلدات والمدن، ودفعت الناس للهروب بارواحها. الضحايا وصلوا للمليون تقريبا ومثلهم مصابين ومعاقين، والاجئين داخل وخارج سوريا وصلوا الى ١٢ مليون انسان. دمرت سوريا على رؤوس أهلها. والميليشيات الطائفية اللبنانية والعراقية والايرانية تغلغلت على الارض واصبحت مع الروس الحاكم الفعلي، الامريكان و تحت حجة محاربة الإرهاب رعت ال ب ي د فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا وقوات سوريا الديمقراطية الناتجة عنه، وتحقيق مطالبهم الانفصالية، سيطروا على شمال سوريا وشرق الفرات و أسسوا دولتهم روج آفا، و ضمن الامريكان وضع يدهم على النفط السوري في تلك المناطق، لذلك لم تعد امريكا وحلفاؤها معنيين لاسقاط النظام، بل التوافق معه على مستقبل ما. نعم رعت أمريكا والغرب وروسيا مؤتمر جنيف حتى النسخة الثامنة منه وبقي اقرب لحوار الطرشان. واعتمد النظام وحلفاؤه على انتصارهم في الميدان لغة خطابهم، وحتى عندما ابتدع الروس والايرانيين والاتراك نسخة أستانا للمباحثات لمستقبل سوريا، كان مصيرها بنسخها الثمانية جلسات ضياع في التعريفات و خلافات شكلية دون أي تقدم.
لقد انسحب داعمي الثورة السورية من دعمها منذ سنوات ولم يبق سوى تركيا التي تدعم بمقدار ما يعني ذلك حماية حدودها من تمدد ال ب ك ك وتأثيرها على أمنها القومي، قامت بفرض حزام أمني على عرض ٣٠ كم على الحدود السورية بعمليات عسكرية متتالية درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام. وما تزال مناطق الشمال الشرقي الحسكة والقامشلي وجيوب اخرى تحت سيطرة ال ب ي د وقوات سورية الديمقراطية وترى تركيا بذلك تهديد لها. وتعمل لشن عمل عسكري ضد قوات سوريا الديمقراطية، لكنها تتريث لتحصل على توافق روسي أمريكي.
الإيرانيون هم الوحيدين الذين يعملون وفق أجندتهم الخاصة، الحفاظ على نظام الأسد. واستمرار التغلغل الشيعي القومي الإيراني في سوريا. وتقاسم الاقتصاد السوري كغنائم حرب مع الروس. الاسرائليين لا يقبلون التغلغل الإيراني في سوريا خاصة المناطق المحاذية لها، ولا لأنواع متطورة من الأسلحة التي ترسل لحزب الله، لذلك تراها لا تتورع عن القصف الدائم لشحنات الاسلحة القادمة الى سوريا بشكل شبه يومي بصمت روسي وعجز إيراني عن الرد.
واقع الحال السوري الان انكسار عملي للثورة السورية، لضعف اداء الثوار سياسيا وعسكريا، ولغياب الظهير الداعم، ولان امريكا وحلفاؤها اهتموا بمحاربة الإرهاب ودعم الكيان الانفصالي الكردي، والدول العربية الخليجية انزوت تتابع شؤونها الذاتية وتلملم جراحها، خاصة بعدما اصبحت ايران حاضرة في اليمن وتحارب السعودية بكل عنجهية عبر الحوثيين. والنظام انتصر بدعم الروس والايرانيين والصمت الاسرائيلي عن النظام وانه بالنسبة لهم افضل من اي بديل، وأنه اجرم بسوريا ما لا تستطيع فعله اسرائيل وان ارادت لمئة عام. ماذا تريد أفضل مما حصل؟!!.
- المستجدات.
انتهى الكتاب عام ٢٠٢٠م ونحن الان في الشهر التاسع لعام ٢٠٢٢م. حصلت متغيرات خطيرة أثرت وتؤثر على الواقع السوري.
اولها: حرب روسيا على أوكرانيا الذي وضع روسيا في مواجهة المنظومة الغربية كاملة، بقيادة أمريكا. ورغم أن التوافقات الروسية الامريكية الاسرائيلية بالنسبة لسوريا بقيت إلى الآن سارية المفعول، لكن احتمال الانقلاب على الدور الروسي وبالتالي الإيراني في سوريا قائم، ولا نعلم ماهي نسبة الأمل بالنسبة للسوريين أن ينقلبوا على النظام، انه امل صغير…
ثانيا: محاولة تركيا ان تحل خلافاتها مع النظام السوري من اجل اغلاق ملف ال ب ي د جناح حزب العمال الكردستاني في سوريا و قوات سوريا الديمقراطية، في مناطق تواجدهم في خاصرة تركيا، وضررهم الأمني على تركيا . وما ينعكس ذلك على السوريين في المناطق الحدودية التركية السورية وحيث التواجد التركي وحتى إدلب وريفها. أو بالنسبة للسوريين الذين يخافون من العودة لسوريا، وهم رهينة النظام السوري الظالم…
مزيد من الايام السوداء تنتظر السوريين ايضا.
ختاما اقول:
اننا امام كتاب شامل موسوعي تفصيلي، عيبه الوحيد التكرار في سرد المعلومات التي استخدمها الكاتب عند الحديث عن تقاطعات الموضوعات السورية والقوى الفاعلة داخل سوريا وخارجها…
الكتاب اكبر من ان نحيطه بقراءة سريعة، لعل ما ذكرناه تنوير سريع لكتاب مهم جدا ومرجع في القضية السورية خاصة في العقدين الأخيرين.
------------
ملتقي العروبيين