نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الجرح الاوربي ...عميق

04/03/2025 - سوسن الأبطح

في دمشق نسيتُ الفوتوغراف

04/03/2025 - غطفان غنوم

هذا التصعيد الإسرائيلي على سورية

04/03/2025 - عبدالجبار عكيدي

الدين للجميع والوَطن للشعب

04/03/2025 - مضر رياض الدبس

الطائفة المظلومة في سوريا

02/03/2025 - ميشيل كيلو

لا تنخدعوا بأوهام تجربة نيلسون مانديلا

22/02/2025 - د.محيي الدين اللاذقاني

ماكس فيبر وسوريا الجديدة

22/02/2025 - غسان زكريا

حُباً بالسوريين.. وأملاً بسوريا

17/02/2025 - هوشيار زيباري

الشرع والموعد السعودي

13/02/2025 - غسان شربل


في دمشق نسيتُ الفوتوغراف




جئتُ إليها قبل أقل من شهر، وكأنني كنتُ أركض نحو حلم مؤجل، مدينةٍ حلمتُ أن أملأها بصوري، أن أقتنص لحظاتها الهاربة، وأُبقيها شاهدة على عودتي إليها بعد غياب طويل. كنتُ أعتقد أنني سأكون هنا في ذروة نشاطي الفوتوغرافي، أتنقل بين الأزقة، وأحمل كاميرتي كجندي صغير يسعى لتوثيق انتصاره على المنفى.


كان يقيني البسيط: أن روحي، المتعبة من الغياب، تتوق إلى تصوير كل شيء في بلاد حُرمت منها لعشر سنواتٍ عجاف.

في الماضي، كانت الصورة محرّمة. كل زاويةٍ هنا كانت تُحرس بلافتةٍ تقول: "ممنوع التصوير".

لكن دمشق هذه المرة فتحت ذراعيها لي بلا شروط. صار بإمكاني التجوّل في شوارعها كيفما شئت، والكاميرا رفيقتي الحقيقية. الناس هنا لم يخشوا عدسة غريبة، بل ابتسموا لها، رحّبوا بأن أصوّرهم كأنهم يريدون أن يثبتوا للعالم أنهم لا يزالون أحياء.

"التصوير مقاومة للحذف والنسيان"، قال لي أحدهم بابتسامة حزينة. لكنني، رغم كل شيء، تركتُ الكاميرا جانبًا. غريبٌ كيف هجرتُ ما كان يومًا عصاي التي أتوكأ عليها في الغربة، هوايتي التي لطالما أنقذتني من الوحدة والعزلة.

بلادي أجمل، حتى حين تتشح بالتعب. شوارعها وإن ضاقت، تفتح لي صدرها كأمٍّ حنون. أرصفتها ليست براقة، لكنها تهمس لي بحكايا لم تُكتب بعد

عدتُ إلى التأمل فقط. صارت دمشق مشهدًا يتجاوز الصورة.

فما الذي يجعلني أنسى عدستي وأكتفي بالمراقبة؟ كنت ألتقط صورًا في كل بلاد الدنيا، لأثبت لنفسي أنني عشتُ هناك، لكن في دمشق، في بلادي المتعبة، الصورة لا تستطيع أن تحيط بهذا الألم، ولا بهذا الجمال الغامض.

بلادي أجمل، حتى حين تتشح بالتعب. شوارعها وإن ضاقت، تفتح لي صدرها كأمٍّ حنون. أرصفتها ليست براقة، لكنها تهمس لي بحكايا لم تُكتب بعد. هنا، تحت سمائها الرمادية، حيث تحكم البلاد قبضة الديكتاتور، هناك سرٌّ عجيب يجذبك ولا يُفلتك، يجعلك أسيرًا لها، دون أن تعرف المفتاح، دون أن تملك فكاكًا من هذا السحر الغامض.

اليوم، وجدت دمشق تحملني إلى فيلم "سارق الدراجة" للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا. تلك الشوارع المتعبة، التي تحمل في طياتها القهر والكدح والكرامة المهدورة، تشبه شوارع الفيلم. بطل الفيلم، مثل كثيرين هنا، لا يملك شيئًا سوى حلم بسيط يتهاوى فجأة. كأنني رأيت ملامحه تتكرر في وجوه الأطفال الباعة وفي عيون الرجال الذين ينظرون إلى الحياة كمعركة يومية لا تنتهي. دمشق الآن ليست صورة، بل مشهد سينمائي طويل، بلاغته في الألم والنجاة، مثله مثل ذلك الفيلم الإيطالي العظيم.

لكن دمشق أيضًا تأخذني إلى عوالم فيلم "سينما باراديسو" للمخرج جوزيبي تورناتوري. في تلك القصة، عاد المخرج الصبي الذي غادر قريته صغيرًا ليجد نفسه أمام دار السينما، حيث مشهد القبلات الذي مُنع من العرض ذات يوم صار الآن جزءًا من ذكرياته العتيقة. وهكذا، وجدت نفسي في دار الأوبرا السورية، بعد سنوات طويلة من الغياب، أقدم فيلمًا عن بلادي أمام وجوه أعرف بعضها، وأجهل معظمها، لكنها جميعًا كانت تنتمي إليّ بشكل غامض. كأنني عدت لأغلق دائرة الفقد، وأفتح بابًا جديدًا، أملأه بمشاهد صادقة لا تحتاج إلى كاميرا، بل إلى قلب متيقظ.

اليوم، كان صديقي يردد نفس ما أفكر فيه. صمتنا قليلًا، ثم خطرت في ذهني كلمات أغنية قديمة: "إذا رجعت بجنّ، وإن تركتك بشقى. لا قدرانة فلّ ولا قدرانة ابقى".

أليس هذا حال كل من غادر ثم عاد؟ نحن عالقون في المسافة بين النهايات المستحيلة والبدايات الموجعة.

في هذه البلاد، تغدو الكاميرا زائدة دودية، بلا فعل حقيقي، لأن الحياة هنا تفوق الصورة في قوتها. الحياة هنا تذيبك، تأخذك في دوامة من التفاصيل الصغيرة: صوت الباعة في الصباح، رائحة الياسمين المختلط بالغبار، بيوت متعبة لا تنهار، لكنها أيضًا لا تستسلم.

نيتشه يقول: "من يتأمل طويلًا في الهاوية، تتأمله الهاوية بدورها".

ربما لهذا نسيتُ عدستي. وقفتُ أمام دمشق طويلًا، تتأملني كما أتأملها، ثم ابتلعتني في طياتها. وربما، بعد كل هذا الغياب، لا أحتاج إلى كاميرا. ربما يكفي أن أعيشها بكل الحواس، كفيلم لم يكتمل بعد، دون فلترة، ودون محاولة احتجازها داخل إطار.
---------
الترا سوريا


غطفان غنوم
الثلاثاء 4 مارس 2025