نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


الصراع مع السرطان ..محمد ابو الغيط على خطا الشاعر أمل دنقل




لندن - شيعت لندن الكاتب والحافي والناشط محمد ابو الغيط الذي وافته المنية في العاصمة البريطانية بعد صراع طويل مع مرض السرطان وقد امتازت تجربته عن غيره من مقارعي ذلك المرض الخبيث بانه سجل يوميات معاناته والمه كما فعل مواطنه الشاعر امل دنقل شعرا في ديوان" اوراق الغرفة ٨ " وقد تصدر أبو الغيط محركات البحث في غوغل، بعد أن أعلنت زوجته وفاته صباح اليوم الإثنين 5 ديسمبر 2022.


محمد ابو الغيط مع زوجته اسراء شهاب - فيسبوك
محمد ابو الغيط مع زوجته اسراء شهاب - فيسبوك
 وشاع نبأ الوفاة بعد ان نشرت زوجته «إسراء شهاب» عبر صفحتها الشخصية على «فيسبوك» خبر وفاته قائلة: «إنا لله وإنا إليه راجعون، إنتقل إلى رحمة الله تعالى زوجي حبيبي محمد أبو الغيط بعد مقاومة باسلة ضد مرض السرطان.. الرجاء الدعاء له بالرحمة والمغفرة ولنا بالصبر الجميل.. يتم تحديد موعد الدفن وتفاصيل صلاة الجنازة لاحقًا».

 ولاحقا نعت نقابة الأطباء الطبيب الشاب محمد أبو الغيط، قائلة: «أنه برغم رحيله شاباً إلا أنه ترك تاريخاً من المواقف والكتابات الموضوعية والتحقيقات الاستقصائية كفيلة ببقاءه حياً في قلوب قراءه، ودعت الله أن يرحم الطبيب الشاب وغفر له وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وأحبابه الصبر"

ولد في محافظة أسيوط، وتخرج من كلية الطب، وعمل في أحد مستشفيات القاهرة، وأمتلك موهبة الكتابة الصحفية، وعمل صحفيا لدى جريدة الشروق حتى عام 2014، وكان أحد كُتاب المقال بها.
ويعد محمد أبو الغيط من أبرز الكتاب الصحفيين في مجال الصحافة الاستقصائية عربيا،
 وكما فعل الشاعر امل دنقل بكتابة يوميات صراعه مع السرطان شعرا في "  اوراق الغرفة ٨ " قام محمد ابو الغيط رغم المرض بتسجيل يومياته نثرا باسلوب رشيق وفي ما يلي مقتطفات مما كتبه محمد ابو الغيط اثناء صراعه الطويل مع السرطان   .

__________________
وردتي البيضاء الخارقة (٢-٢) - الجزء الثاني
٩ نوفمبر ٢٠٢٢
أرفع رأسي من النوم فجراً محاولاً أن أصل لصحن القيء الورقي دون أن أحدث صوتاً يوقظ إسراء. من حقها أن تنام قليلا. كان الأطباء قد أعطوني جرعة "جاسترو جرافين" وهو مادة مُسهلة قوية تحرك الأمعاء، وكذلك تستخدم كصبغة ليظهر مدى الانسداد.
لكن إسراء تصحو فورا، تناولني بصمت وسرعة صحن القيء فأتقيأ ثم تمتد يدها بمنديل في اللحظة المناسبة بالضبط لتمسح لي فمي، ثم برشفات مياة، ثم تهمس: عايز حاجة تاني يا حبيبي؟ أطلب منها الانتظار لينتظم تنفسي بينما أنا واقف. ترفع إسراء ساقاي الثقيلتين واحدا تلو الآخر لإعادتي للسرير. أطلب تعديل وضع وسادتي، بعد عدة محاولات لضبط ارتفاع المرتبة. تغطيني. أخيرا ستعود لنومها بعد فاصل استغرق نحو ساعة، وسيتكرر بعد ساعة ساعتين على الأكثر.
ذات يوم أخبرني ابني أن من قدرات الرجل العنكبوت "سبايدر مان" الخارقة هي شعوره بالخطر الآتي من خلفه دون أن يراه. قلت له هل تعرف أن أمك لديها نفس القدرة؟. فبدأ في الهتاف لها: ماما سوبر هيرو. ماما سوبر هيرو.
لم يكن تعبيري مجازيا.
منذ عام، بعد عملية استئصال الورم، فقدت تماما قدرتي على النوم المتصل ٨ ساعات كما كنت طيلة حياتي. كل يوم أصحو خلال الليل عدة مرات لأسباب متنوعة: آلام، ضيق تنفس، آلام صدر، كوابيس، جفاف الحلق وأحيانا الجفون حتى اني أحتاج فتح التصاقهما بأصابعي.
في المقابل لا أعرف بالضبط متى اكتسبت إسراء تلك الحاسة السادسة: بمجرد أن أصحو تشعر بي، دون أن أصدر أي صوت، تتحدث بينما عيناها مغمضتان: انتا كويس؟ محتاج حاجة؟
كل يوم، كل ليلة.
غالبا أكتفي بطمأنتها فتواصل النوم، وأحيانا أطلب مساعدة ما.
في اليوم التالي أسألها لو تذكر ما حدث، أحيانا تذكره وأحيانا لا تعرف أي شيء.
منذ المرض فاجئتني إسراء بما يكفي من القدرات الخارقة حتى صار الطيران احتمالا غير بعيد.
قالت ورقة علمية من جامعة سالزبورج الأسترالية إن أدمغتنا لا تنام بشكل كلي، بل تحتفظ بقدر من الوعي يوازن بين الحاجة للنوم والحماية. يقوم المخ بتنبيه الجسد إذا استمع لصوت غير مألوف، عبر إطلاق موجات اسمها "كيه"، بينما يواصل النوم إذا كانت الأصوات المحيطة مألوفة.
لعل هذا من أقسى ما يفعله ذلك المسخ السرطاني: تغييره لكل ما نعرفه عن أنفسنا والآخرين. تلك القدرة بعقل إسراء قد تطورت بشكل عكسي، فأصبح صوتي المألوف هو علامة الخطر المحتمل لا العكس!
وبالمثل من أشد لحظات المرض ألما نفسيا هي حين وجدتني أبتعد عن إسراء لا إراديا، لأن الغثيان الحاد جعلني لا أطيق أي رائحة بما فيها رائحتها..
منذ زواجنا وأنا أقول أني أعشق تلك الرائحة. دائماً أطلب منها ألا تضع عطوراً أو أي شيء يغير رائحتها. أحب ملء رئتاي بعبير رائحة شعرها وجسدها.
مرة أخرى يتدخل العلم بلهجته الجافة محاولا ترجمة العواطف إلى كيمياء: ربما سر الحب هو "الفيرمونات"، وهي مواد كيميائية هرمونية يفرزها الجسد مثل العرق بمناطق الإبطين والأعضاء التناسلية، من المؤكد أثرها في انجذاب بعض الحيوانات لبعضها، بينما مازال دورها في البشر محل جدل.
بوجه عام أؤمن أن العواطف البشرية أعقد بكثير من تلك التفسيرات الخطية، رغم حقيقة اعترافي بدورها الهام في ذات الوقت، كواحد من العناصر المركبة للعملية.
أؤمن بالجانب العلمي للحب، كما أؤمن بجوانبه العملية، كما لا يمكنني إلا الاعتراف إلا بمكون آخر غيبي ما تتلاقى فيه الأرواح أو "هالات الطاقة" أو غيرها من مسميات سر الحياة العميق الغامض داخلنا.
إن ادعاء أن الحب هو مجرد تفاعلات كيميائية فقط، يشبه ادعاء أن الرسم ينبع من المكونات الكيميائية للألوان، أو أن الموسيقى هي محصلة الأخشاب والبلاستيك التي تكون الآلات الموسيقية.
١٣ نوفمبر ٢٠٢٢
من جديد أنتفض وسط الليل صارخاً من الألم، فتقفز إسراء من سريرها لتناولني رشفات مياة أرطب بها حلقي الجاف المتلصق، وبنفس اللحظة تضغط على التنبيه الخاص باستدعاء التمريض عاجلا.
أتلوى وأتأوه فقط، بينما تطلب إسراء بسرعة إسعافي بحقنة المسكن الإضافية.
منذ نحو ٢٥ ساعة أنا بين الألم والغيبوبة والهلاوس.
أغمض عيني لحظة فأرى نارا ودخانا، فأستيقظ مفزوعاً. أرى إسراء تبكي. أغمض عيني باللحظة التالية فأرى أنيابا، فأفزع من جديد، حتى يغلب النوم كل شيء.
كانت الأمور قد بدأت تتحسن، توقف عدم تحكمي بالبول والبراز فجأة كما بدأ. كان الأطباء قد شكوا في أن السبب ضغط من العظام على عصب ما، فقاموا بعمل أشعة رنين مغناطيسي أظهرت عدم تضرر الأعصاب. قالوا ربما السبب عرض جانبي لدواء معين مضاد للغثيان، فخفضت جرعة الدواء، وجنباً إلى جنب لجأت لسلاح "طب مكمل" نادراً ما خذلني، وهي تمارين العلاج الطبيعي. استعنت بمقاطع فيديو على "يوتيوب" لأطباء ومعالجين مختصين، وبدأب أصبحت أكرر بمساعدة إسراء تلك التمارين مرتين يومياً.
نجحت!
استعدت التحكم بأعضائي الحساسة، وما أدق ذلك التوصيف المستخدم لها في اللغة العربية، وكذلك بدأت استعيد قدرتي على الأكل حيث سمحوا بالانتقال من مستوى "سوائل شفافة" إلى "سوائل حرة" إلى "طعام مهروس فئة ٤".
فجأة حدث الانهيار بعد فحص الأعصاب مباشرة.
يومها مساءا اندلع ألم شديد في كتفي، ظننته في البداية من أعراض بقائي لأكثر من ساعة في وضع غير مريح، بينما انا دائما حساس لتلك الأمور بسبب مشاكل التواء عمودي الفقري، لكن الأمر تفاقم.
باليوم الثاني والثالث انفجر ألم رهيب لا يوصف، مجرد بقاء كتفي مكانه أصبح مؤلماً.
سمعتني إسراء أهلوس: أنا باكره جسمي. فهمست بين دموعها: لكن أنا بحبه.
سمعتني أصرخ: أنا عايز أقطع دراعي. فهمست: بعد الشر.
العلاج الفوري كان قفزة كبيرة بمعدل المسكن مشتق "المورفين" الذي أتعاطاه، نجح ذلك فعلا في تخفيف الألم، لكنه على الجانب الآخر أفسد تماماً كل تحسن أحرزته بانسداد الأمعاء، عاد الشلل كما كان بالظبط، قيء مستمر، لا شيء ينزل للأسفل، ولد هذا بدوره المزيد من المغص والتقلصات.
ما كل هذا الجنون؟
بالأمس أتلمس رقبتي فوجدت كتلة صلبة بيضاوية في حجم اللوزة يسار خط المنتصف مباشرة. بمجرد أن ضغطت قليلاً زأرت آلام كتفي، وتحديداً توزيع العصب المميز الذي يعطي الشعور للإصبعين الخنصر والبنصر. لقد وجدت اللعين! .. أم هو من وجدني؟!
شك الأطباء في كونه تضخماً للغدة للدرقية، ثم أثبتت الأشعة إنها عقدة لمفاوية متضخمة.
اليوم أصبحت "اللوزة" في حجم ثمرة مشمش صغيرة. تضخم مرعب في يوم واحد!
اتفق الأطباء أنه لا بديل عن إزالتها موضعيا، وسيتم ذلك بالعلاج الإشعاعي الدقيق. أجريت اليوم فحصاً لتحديد هل يمكن استبدال البرنامج الاعتيادي الذي قد يستغرق جلسات إشعاع يومياً ببرنامج آخر يضرب مرة واحدة مكثفة.
ثم استجدت ظاهرة أخرى: انحباس الغازات!
مع كل رشفة من أي سائل أشعر بفقاعة غازية محشورة. مع الوقت فهمت أنها بالضبط آلية مشاكل الأطفال في سن الرضاعة مع التجشؤ أو "التكريع" كما نسميه بمصر.
اكتشفت الحل، وهو بالضبط نفس الحل مع الأطفال: ضربات خفيفة متكررة منتظمة بعد كل بضع رشفات.
أشعر بإحباط شديد بسبب كل هذا الارتداد.
كل يوم أخسر عضوا أو وظيفة من عضو. كأني أتساقط بالتدريج. هل أموت بالتقسيط؟.
أصارح إسراء بأفكاري الرثائية فتطلب مني التوقف عن هذا التفكير، وأنظر لجوانب إيجابية.
أتأملها نائمة على سرير مستواه منخفض للغاية تحتي، فأقول لها: يا إسراء كإنك بتعملي الي بيقولوه في الأفلام "فضلت قاعدة عند رجل جوزاها تخدمه" فتقول إنها تفخر بهذا التشبيه مادام هي من اختارت أن تفعل ذلك لحبيبها، بل تؤكد أنه “ده العادي” لأني كنت سأفعل المثل لو تبادلنا الظروف، “مش كدة ولا إيه؟” فأقول لها أني أقسم أني لو كنت مكانها ما فعلت إلا ذلك، ويشرقني أن أكون عند قدميها لأخدمها، لكني أحمد الله أنني أنا المصاب لا هي. نتشارك البكاء..
بالتوازي تستمر إسراء الخارقة في فعل مالم أتوقعه:
تواصل عملها في مجالها ب"بحوث السوق" بواحدة من الشركات الكبرى عالميا، بل أبلغوها رسميا قبل أيام بحصولها على علاوة نهاية العام، أي حققت مستهدفاتها فلا مجاملات في الأرقام.
كانوا قد منحوها بسبب ظروفي استثناء العمل الدائم من المنزل. لكنه حقا "عمل". تسهر معي بهذا الجحيم الليلي ثم أفتح عيني في الثامنة فأجدها تفتح شاشتها المليئة بالجداول والأرقام. كلانا يفضل الاعتماد على الذات طالما كان ذلك ممكنا لآخر لحظة متاحة.
بالتوازي كل خطط و"روتين" يحيي تمضي حسب المعتاد إلى حد كبير، تذهب به مواعيد تمارين السباحة والفنون واجتماعات المدرسة. حتى أنا في لحظات وعي بالمستشفى قمت كالمعتاد بمهمة اختيار وجباته للأسابيع القادمة.
ولا ينفي ذلك طبعا حصولنا على مساعدات كبيرة من أصدقاء
رائعين تم دمجهم بالخطة بتنسيق بطرق كثيرة تشمل مجالسة يحيي وتوصيلات لمدرسته أو للمستشفيات وشراء متطلبات وغيرها..
لا أعدد هنا أسماء الأصدقاء ورفاق الرحلة من المصريين والعرب زملائي وأحبائي، كي لا أنسى أحدا فأغفل سهوا فضل كثيرين، بل إني لا أنسى أطباء وأفراد تمريض كانوا حقا لا مجازا ملائكة رحمة. من أصبحت أعده صديقي العزيز الدكتور ديفيد فوير مختص إدارة الألم، ولطالما أنقذني بحلوله المبتكرة لتخفيف آلامي، والطبيب ذو الأصول الإفريقية د.إلكيم الذي يسمعني بكل صبر ويستطيع نقل أشد المعلومات ضراة بحفاوة. الممرضة الآسيوية شير التي صادقت أمي بكل لطف، وكذلك بالطبع طبيب الأورام بروفيسور أركناو الذي يحاول معي لآخر لحظة لمساعدتي للوصول لتجارب جديدة، وكذلك بروفيسور جورج حنا الذي منحني من وقته وعلمه بصراحة ولطف. الجميع منقوشون في قلبي وأقول لهم جمائلكم لا أنساها ما حييت..
****
لكن بالعودة إلى مسار حياتنا الماضية أجد أيضا أنها لم تسر دائما بذات سلاسة تحدي الإدارة المالية، وعلى رأسها تحديات الإنجاب وما يتطلبه من ترتيبات الحياتين المهنية والشخصية.
كنا قد اتفقنا أثناء الخطوبة على تأجيل الإنجاب، قلنا بصراحة إنها فرصتنا الوحيدة لنكون منفردين بعلاقة لشخصين لا لثلاثة، واتفقنا بصراحة أنها أيضاً فرصة لنا لننفصل إذا ظهر أننا غير مناسبين لبعض.
لكن بعد ستة أشهر فقط، همست لها باسما: إسراء، أنا عايز أخلف منك.
كانت إسراء تعي تماما متطلبات القرار وتأثيراته، وحاولت أن تشرح لي أن كل شيء في حياتنا سيختلف بعدها، لكني كنت مندفعا بعاطفية وقد أحببت مظهري وأنا والد في أسرة صغيرة.
كانت إسراء وقتها تدرس للحصول على شهادة التدريس الدولية " مونتسوري" لحبها في الأطفال، وبالفعل سرعان ما وجدت عملاً في حضانة أيرلندية بحي المعادي.
بالتوازي كنت أنغمس في أعمالي العديدة المتوازية، حتى أن أغلب فترة الحمل أمضيناها في منزل أسرة إسراء كي تساعدها أمها.
كنت قد وعدتها أننا سنقسم عبء الطفل علينا بالتساوي بالضبط. وعد أحمق. كيف سنفعل بينما اتفقنا على اختيار الرضاعة الطبيعية للطفل مادام بإمكانها ذلك صحيا، وكذلك اخترنا أنها لن تتركه أبداً مع مربية إلا حين يمكنه التعبير عن نفسه.
لم أكن أفهم ما تتطلبه تلك الخيارات من وقت ومجهود، وقصرت في تقديم المطلوب مني، والنتيجة أن إسراء كانت لعامين لا تنام تقريبا، تصحو لترضع يحيي، بينما أنا أغط في نوم عميق. قالت لي إنها أحيانا احتاجتني ونادتني فلم أرد من فرط عمق نومي متأثرا بيوم عملي الطويل فبكت قهرا.
لكن زادت الأزمة تفاقما بعدما سافرنا إلى لندن قبل نهاية العام الثاني من زواجنا، في قفزة كانت خارج المخطط.
فجأة لم يعد حولنا أي دوائر دعم أسري، نبدأ من جديد ببطء صنع دوائر أصدقاء صار بعضهم اليوم من أحب البشر وأكثرهم تقديما للمساعدة، بينما ابتعد آخرون، فضلا عن ارتفاع أسعار كل الخدمات المعاونة لتنظيف المنزل وخلافه.
صار خلافنا الدائم يدور حول نقطة محددة: إسراء ترى أنها تعمل طيلة اليوم مع يحيي، وبالتالي فمجرد عودتي للمنزل صار هو مسؤوليتي أنا الأولى، وهذا لا يجعلنا متساويين فأنا هكذا أرعاه فقط ساعتين أو ثلاثة يومياً بالإضافة إلى الإجازات
.
لكن زاوية رؤيتي مختلفة تماما: أنا في الخارج أعمل أيضا ولا ألعب!
أنا لا أتفه أبدا من مدى مشقة العمل المنزلي، لكني لا أقبل أيضا التتفيه من مشقة العمل غير المنزلي!
لذلك فالحساب العادل هو أن وقت عملي بالخارج يكافيء تماما عملها بالداخل، وما بقى هو ما نقتسمه 50٪ - 50٪.
وأنا أصلا أريد هذه الـ 50٪ ليس لملذاتي وأهوائي، بل لأعمل أيضا، أعمالا تحتاجها هذه الأسرة التي تعيش في أحد أغلى مدن العالم المصممة ليعيل الأسرة بها دخلين لا دخل واحد.
لكنها ترد علي محقة بأني أقول ذلك فقط، لكني أفعل كذا وكذا تطوعا بلا مقابل، وكذا بمقابل زهيد، فأرد عليها أنه حتى هذه العمل التطوعي اليوم قد يتحول مصدرا ماديا مستقبلا، فضلا عن أن هذا الجانب التطوعي وحتى “المزاجي” من حياتي وكتابتي موجود منذ عرفتيني، منذ متى وأنا لا أفعل؟ فترد: يفترض منذ أنجبت.
منذ تزوجنا إلى اليوم لم نذكر أبدا كلمة "انفصال" إلا في مرات على أصابع يد واحدة مرتبطة تحديدا بهذا الملف فقط، أو في مرة أخرى خارقة الاستثنائية حين ابتدع ضابط ما بجهة أمنية أن يمنع سفر إسراء ويحيي ويسحب جوازات سفرهما كوسيلة لابتزازي دون أي طلب محدد، لم أفهم لليوم دوافع سيادته، لكن اسراء تعاملت مع القصة بصلابة مدهشة، ومنها قرار بتقدمي لتوكيل طلاق للسفارة المصرية في لندن! وكما حدثت الأزمة فجأة انحلت فجأة، بعد استجوابات ونحوها عادت الحوازات دون أن نفهم هل تم حل المشكلة ذاتيا أو عبر وساطات خير أشكر أصحابها.
لكن ما يعنيني حقا هو تلك المرة التي أنا مسؤول عنها، وقلت لإسراء لاحقا، ومنذ ما قبل السرطان، إنها أسوأ ما أخطأت به في حياتي معها، وهي قراري الأناني بالسفر إلى زمالة دراسية في البوسنة عام 2018. فجأة وجدتني إسراء أخبرها أني سأتغيب شهراً لأدرس زمالة إعلامية ما.
وضعتها أمام الأمر الواقع كأنه من الاعتيادي أن تعيش وحدها تماما مع ابنها ببلد غريب.
وكالعادة لا تأتي المصائب فرادى، شهد ذلك الشهر تحديدا سيولا جارفة أدت لانهيار سقف منزلنا المتهالك حرفيا (أمضينا خمس سنوات في منازل كانت تابعة سابقا للبلدية، كلها قديمة البنية وضيقة، قبل أن “يوسعها ربنا علينا” كما أصبحت أقول بعدها، حين أمكننا الانتقال لمنزلنا الأخير المستقل ذو الحديقة بذلك الحي الأبعد والأرخص والأجمل). شاهدت منظر سقف غرفة النوم الصادم حيث انهار جزء من خشبها وتحته ألياف العزل المبطنة وجبل من الطين دمر السرير الفارغ وقتها لحسن الحظ. ترعبني إلى اليوم فكرة أنه كان يمكن أن يسقط فوق إسراء ويحيي، كما يرعبني تخيل شعورها يوم سمعت صوت الانهيار فجرت مفزوعة لحجرة النوم وشاهدت ما حدث.
تابعت إسراء مع العمال وصاحب المنزل إصلاح السقف، ثم تركيب أرضيات جديدة، وموكيت جديد، ووحدات تدفئة جديدة، وفي أثناء ذلك ساهمت في نقل أثاث المنزل كلها لغرفة واحدة وإعادته، ومبيتها مع ابنها منفردة بغرفة بديلة..الخ الخ من المهام الشاقة.
منذ "واقعة البوسنة" تلك انكسر بيننا شيء عاطفيّ ما لم يعد بعدها أبدا للأسف..
قبلها كانت إسراء أحيانا تناديني بينما أنا ساهر لأكتب لتطلب أن آتي الآن فورا لأنه لا يمكنها النوم وحدها، لكن منذ ذلك اليوم انتهى ذلك تماماً. قالت لي أني أنا من جعلتها تعتاد النوم وحيدة بلا أي مشاكل، وما أقسى ذلك الشعور. اعتذرت طويلا، لكن لا تغير الاعتذارات من الواقع.
وإن كان ثمة عزاء فإنه بوقت مقارب أتم يحيي سنواته الأربع، فحان دور إسراء للعودة إلى سوق العمل، وصممت إسراء أن يكون ذلك مستقلا عني وبعيدا عن مجالي الإعلامي أو الطبي، وكذلك بعيدا عن "المونتسوري" والأطفال حيث يكفيها طفل واحد بالمنزل. سهرت إسراء يوميا تغرق مواقع التوظيف الإنجليزية برسائلها التي غيرت فيها بالسيرة الذاتية ترتيب المؤهلات والخبرات حسب مجالها الأقرب لدراستها بالكلية: إدارة الأعمال والتسويق، حتى حصلت بلا أي واسطة على عملها الحالي.
قالت إسراء بعدها إنها تدريجيا أصبحت أيضا تتفهم بعض الأمور بشكل مختلف، مثل أنماط معينة من ضغوط العمل والانغماس فيه.
في آخر عيد زواج سعيد لنا في مايو 2021، حجزنا يومين في فندق، استغللناهما للاستجمام والتقارب ونقاش ما مضى. كلانا اتفق على ما نشعر به من رضا بحمدالله بعد ثمان سنوات من الزواج أو عقد من العلاقة.
عبر السنوات نضجت علاقتنا أكثر، صارت العواطف أهدأ، لكنها أكثر استقرارا.
كلانا تغير في أفكاره وآراءه وبعض طباعه، تطورنا معاً بهدوء، واحترمنا مواضع الاختلاف، وحاولنا المقاربة بمواضع التقارب.
أنا كسبت صديقا ذكيا لا أثق إلا فيه قبل أي شخص آخر.
تكفيني نظرة رضا في عينيها لملابس جديدة لأقتنع بها فورا، أو نظرة استهجان لأكرهها بشدة. أقول لها: "أنا بألبس لزبون واحد".
دائما كانت إسراء أول من يقرأ لي مقالاتي وأعمالي قبل النشر وكم أفادتني بشدة، وكم أجريت تعديلات بناء على ملاحظاتها البناءة.
لم أصل إلى معاييرها بالنظافة المنزلية لكني ارتقيت، كما أن بعض العواصف مازالت تنجم من مبالغتي في العمل لكنها صارت أكثر تفهما.
سبق لي أن شبهت الكتابة بالطبخ، المقادير في كل الوصفات واحدة، لكن لا توجد طبختان متطابقتان تماما، يتداخل عدد لا نهائي من العوامل، بعضها يمكن حسابه مثل مصدر الخامات، أو نوع الفرن، وبعضها خارج الحسابات ما نصفه شعبياً بـ "النَفَس" أو يُترجم احترافياً إلى عامل الخبرة.
العلاقات الإنسانية أيضاً وعلى رأسها الحب كذلك.
مثلا لا يوجد "ترموميتر" لقياس الدرجة التي تتحول عندها صفة الاهتمام المرغوبة إلى صفة الحصار المرفوضة. وثمة شعرة بين التمسك بالرأي وبين العناد، بين الكرامة والغرور، بين احترام الخصوصية واللامبالاة.
ما يحدد الدرجات المضبوطة لكل متطلب من الشريك هو توازن دقيق يتطلب من الطرفين سعياُ، وصبراً، ومصارحة.
تم إنضاج علاقتنا على نار هادئة جدا.
لم أعد أنظر بانبهار إلى إسراء بشكل مثير لضحك من حولنا، لأنها أصبحت جزءا مني.
إسراء أصبحت "أنا".
هل أفكر لو كانت يدي أو قدمي يمكن أن تغادرني؟
أذكر أننا تسائلنا هل يمكن أن تمضي بنا الحياة سعيدة هكذا رغم كل شيء؟
قلت لإسراء ربما تستمر ولو لبعض الوقت، ولسنا هانئين بكل شيء بالنظر لما حدث منذ وفاة والدتها تحديدا.. قلت هذا قبل أيام فقط من التشخيص.
كأن اللعنة كانت شبحا يحلق فوقي ويستعد لإسدال ستاره الأسود على حياتنا بينما نحن نتحدث ونضحك ولا ندري شيئا بعد عن النبأ الرهيب..
****
أربع إیدین، أربع شفایف على الفطار، وشاى بلبن
أربع إیدین، وأربع شفایف على الفطار
یبوسوا بعض ویحضنوا نور النهار
بین صدرها وصدره وبین البسمتین
بیحضنوا الحب اللى جامعهم سوا على الفطار
ویحضنوا الشمس اللى بتهز الستار
وتخش من بین الخیوط وبعضها مع الهوا
في الأوضة ترسم نفسها على أرضها
على البساط اللى اشتروه مع الجهاز
على الغرام اللى اشتروه
من غیر تمن، وع الإزاز
ویشربوا الشاى باللبن فى فنجانين
بیصحو ا قلبى كل لیلة فى المنام
وبیكتبوا بلون منور فزدقى
على الهوا الأسود وع الجفن اللى نام
بیكتبوا بلون منور فزدقى كلمة: سلام
من أغنية شاي بلبن - كلمات الشاعر صلاح جاهين - غناء يسرا الهواري (والتي كانت سابقا عضوة بفرقة الطمي)
اعتبرناها إسراء وأنا الأغنية المعبرة عن حياتنا ولطالما تشاركنا غنائها.
***
14 نوفمبر 2022
رائحة فضلات البشرية تملأ غرفتي.
في البداية لا أفهم هل هناك مشكلة صرف في مستشفى مرموق بقلب لندن.
ثم أستوعب أن المشكلة من عندي. هل عدت لفقد التحكم في فضلاتي؟! أتحسس ملابسي الداخلية فأجدها سليمة.
تدريجياً أفهم، إنه ذلك السائل البني الذي تقيأت منه كثيراً في لأطباق المفتوحة المنثورة حولي، وكذلك في كيس نزح السوائل.
إنني أخرج من فمي الآن فضلاتي البشرية .. خرائي!
كانت القصة قد بدأت بليلة مجنونة بالأمس، حيث استيقظت منتصف الليل فجرا وأنا في حالة من الهلع والهذيان لم أعهدها أبدا. حقا أنا لا أعلم من أنا وأين أنا؟ أحاول تذكر من صاحب هذا الجسد؟ من هذه الفتاة الحزينة أمامي؟ أحاول التواصل إلى جسدي ولا أصل إليه، كأن روحي انفصلت تماما عنه. أراني من الخارج وأتحدث إليّ لكن صوتي لا يخرج. قرأت لاحقاً أن هذا يشبه ما مر به بعض من تناولو العقارات المهلوسة "سايكيديليك" ويسمونها رحلات "تريبس". لكني لم أتناول أي شيء.
بهلع فكر جزء مني: هل أنا جننت وهذاما يفعله المجانين؟ يبقون للأبد بذلك الوضع المعلق؟ ام أنا أموت وتخرج روحي الآن؟ أخذت أهتف بالشهادتين بصوت مرتفع وهستريا أمام حوض الحمام، ما أفزع إسراء بشدة، لكنها رغم ذلك احتفظت بقدرتها على استدعاء التمريض ليعطوني جرعات أدوية عاجلة أعادتني للحياة بشكل ما.
اليوم صباحا قالوا إن ما يحدث من اعراض استمرار الانسداد التام، واحتجاز مادة الجاستروجرافين، خاصة أنه الممرضة فشلت بالأمس في إدخال الأنبوب الذي انحشر مرتين. لذلك قرروا اليوم تركيب الأنبوب تحت أشعة "إكس" مع طبيب متخصص ومخدر موضعي.
وهكذا وجدتني قد تحولت إلى مشهد السيارة تحت يد الميكانيكي، جسدي أقرب لمجرد آلة يتم تسليكها. كان الطبيب يغير مقاسات القسطرة ويدفع بشدة فانفجر القئ مني واختنقت، فتوقف الطبيب وخيرني إن كان يكتفي بهذا القدر أم يكمل ويدفع بشدة محاولا فتح ذلك الانسداد الرئيسي. أراني المشهد في الشاشة فشعرت فتملكتني قوة هائلة، هذه
روح المقاتل التي يتحدثون عنها، فقلت لنكمل فورا مهما حدث؛ وهنا دفع الرجل القسطرة بشدة مرة وأخرى، ثم انفجر السيل أخيرا.
سيل من "خرائي" الكريه المحشور منذ نحو أسبوعين، وهاهو يملأ حولي صحون القيء الورقية فضلا عن كيس الأنبوب الذييحاول التمريض ملاحقته.
شعرت بالرثاء الشديد لإسراء وهي التي كانت تأنف من أدنى خدش للنظافة أو الرائحة فهي تتحمل الآن كل هذا بطيب نفس.
تذكرت أبيات المعتمد بن عباد الرثاءية لبناته اللاتي شهدهن يلعبن متسخات، بعد أن كن متعطرات بأغلى العطور حتى أن المعتمد بواقعة شهيرة استبدل الطين بمزيج المسك والعنبر لزوجته:
.
يطأن في الطين والأقـدام حافيـةً .. تشكو فراق حذاءٍ كـان موفـورا
قد لوّثت بيد الأقـذاء اتسخـت .. كأنها لـم تطـأ مسكـاً وكافـورا
لكن المعتمد يعترف بذنبه، فالزمان قد دار عليه بعدما كم حكم "على الأقوامِ في صلفٍ"، بينما أنا لم أحكم في صلفٍ أو غيره على أحد، فما ذنبي؟
انتهزت فرصة مغادرة إسراء لأحد شؤون يحيي فقررت أن أغير ما بيدي، تراجعت كمية القيء فقررت التوقف عن استخدام كل الأطباق الورقية المفتوحة وتخصيص واحد فقط مغلق بالحمام، وكذلك تناولت جرعات إضافية من مضادات القئ، وعطرت الغرفة بمعطر للجو. ناديت الممرضة لتساعدني في تغيير ملابسي التي اتسخت هي الأخرى بالسائل البني الكريه، ورششت على نفسي عطرا أعرف أن إسراء تحبه.
هكذا ستقتصر رائحة فضلاتي (خرائي) في داخل هذا الكيس ذا السوائل القريبة من أنفي، ولأجد انا حلولي الخاصة.
كانت إسراء تنوي ان تساعدني على تغيير ملابسي حين تأتي، لكنها فوجئت بما حدث وسعدت به.
إن كان بيدي شئ أقدمه لها فليكن هذا؛ أن أخفف من رائحة خرائي، فيالها من هدية سرطانية رومانسية!
****
في مقطع من كتابها "باولا" تروي إيزابيللا الليندي أنها حاولت إقناع زوج ابنتها المحتضرة بالتسرية عن نفسه، تقنع نفسها عبر إقناعه بتقبل فكرة فقدها، لكن إرنستو يرفض بإصرار:
"لا معنى لأيِّ شيء من دون باولا. ليس هناك ما يستحقّ الذكر. فمنذ أن أغمضت عينيها انزاح الضوء عن الدنيا. لا يمكن للربّ أن ينتزعها منِّي، وإلاَّ فلماذا جمعني وإيَّاها؟ ما زالت أمامنا حياة طويلة لنتقاسمها معًا! إنَّه امتحان فظيع، ولكنَّنا سنتمكَّن من تجاوزه.."
لكن لاحقاً لا يجد أرنستو مفراً من التساؤل الحائر:
"أنكون أنا وباولا قد أحببنا كثيرًا، واستنفدنا بشراهة السعادةَ المخصَّصة لنا؟ أنكون قد التهمنا الحياة؟"
*****
١٧ نوفمبر ٢٠٢٢
هواء!
أبحث عن ذرة هواء واحدة فلا أجد!
أشعر بضيق تنفس فأرسل رسالة لأمي أطلب منها ان تدعو لي أن يفرج عني.
الساعة الحادية عشر، كنت تناولت أدوية ما قبل النوم ذات المواد المُغيبة وتم توصيلي بالتغذية الوريدية المعتادة التي أبقى عليها ١٢ ساعة يوميا، لكن هذه المرة ما اختلف هو توصيلي بكمية إضافية من المحلول الملحي لتنظيف مجرى الكلى الذي تزايدت فيه أرقام "اليوريا".
فجأة أعجز عن سحب نفس واحد.
خرج مني زفير ولا شهيق بعده.
أرى الموت حرفيا.
أقفز واقفا بشكل يفزع إسراء، بينما أهمس بصوت متحشرج بالشهادتين.
بالأرقام بدأ معدل الأوكسجين يهبط في الدم رغم أني أضع قناعاً يمدني به.
بآخر ما بقى من رمق الحياة نزل عليّ الإلهام، كاسم أمي: السبب هو هذا المحلول الإضافي. رأيته وقد تراكم في آخر مساحة باقية في صدري وجذعي، حيث كنت لاحظت قبل أسبوع أن يوما كهذا ترك أثرا لم يزل في كمية الانتفاخ بقدم الفيل عندي.
صحت بجنون بينما أرى الموت في الممرضة التي استدعتها إسراء أنه يجب الآن فورا فصل كل شيء عني. مفزوعة أوقفت التدفق لكنها ذهبت لتسأل الطبيبة الأكبر عن الفصل، لأنه يعني عدم إمكان استعادته طيلة الليلة. سرعان ما أتى الرد بالإيجاب وإن هذه المضاعفات قد تحدث!
أمضيت ليلة جحيمية. بالكاد تمكنت من استعادة بعض التنفس بعد ساعة. ثم صرت أغفو وأصحو وأهلوس بين أدوية المسكنات والمنومات المتلاحقة، وأنظر إلى عقرب الساعة بينما هو لا يكاد يتحرك.
يمر عمر كامل في الأحلام، أرى فيه أصدقاء قدامى وذكريات طفولتي المبكرة. أول طبيب أطفال لي، وأول شجار مدرسي أحمق. ثم أجد أنها خمس دقائق فقط مرت، وأن إسراء قربي تمسك يدي وتبكي. أسمع إسراء تهمس: لا حول ولا قوة إلا بالله.
لكني في نهاية الليلة نزل عليّ هدوء وسكينة بشكل مفاجيء ونمت ساعتين، ثم ساعتين.
في اليوم التالي تحول هذا إلى هاجسي الجديد: التنفس.
لحسن الحظ كان لدى الأطباء ما يفعلون. جعلوا الأمر أولوية جسدية ونفسية لهذا اليوم. هكذا تم عمل اجراءات تتضمن عملية جراحية لنزح سوائل الرئة اليمنى، وهكذا تمت إضافة صديق آخر "صديق الوزن" لي، هو علبة بلاستيكية كبيرة ممتدة من أنبوبة غليظ يحمل سوائل الرئة.
وكذلك كان أفضل قرار هو خفض كمية السوائل التي أتلقاها عبر التغذية الوريدية.
أسفر هذا عن تحسن فعلي لحظي كبير. لا أصدق عيني وأنا أرى أكياس سوائل ودماء كبيرة تخرج من بطني ورئتي.
وهكذا اليوم فقط التقط انفاسي اللاهثة وبسرعة أدون الأحداث الماضية وأعيد تركيبها مع نصوص قديمة عبر أشهر لانتاج هذا الفصل الخاص بإسراء، والذي طالت كتابته لأشهر وانتهت بي الآن أملي السطور عليها شفويا محاولا عدم بعثرة الفقرات، وبنفس الوقت ألا أتحدث باسم إسراء، لتكون كما هي دائما، ذات صوت مستقل لا يتداخل مع صوتي.
بالعودة لمسار ذاك اليوم: عانيت مساءا تعقيدات جحيمية من نوع آخر، فلم يعد بإمكاني النوم على جانبي الأيمن الذي اعتدته بعد تركيب الأنبوب، وهكذا صار على إسراء أن تقوم كل ساعة أو اثنين بتباديل وتوافيق عديدة على ترتيب وسادتي لأنام فقط على ظهري، بالإضافة لإمدادات دوائية لا تنقطع.
باليوم التالي بحمدلله تمت إزالة "مسمار جحا" هذا من رئتي فكأنما أعتقوني.
أحاول الابتعاد عن الحكم المكررة، لكني لا يمكنني مقاومة التفكير في أنه ما أهون دنيا لا تساوي دخول أو خروج نفس هواء أو شربة ماء أو لقمة طعام.
هي أمور طالما سمعتها، لكن معايشتها مختلفة تماما، وحقا وصدقا "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى
***
ابني الحبيب يحيي،
لأول مرة أوجه لك الحديث في هذا الكتاب، والذي لم أضع اسمك في اهداءه، لا لشيء إلا لرغبتي في عدم تحميلك أي عبء نفسي ولو بإلزامك بقراءته.
هذه ليست رسالة لتقرأها كوصية بعد وفاتي، بل أرانا نقرأها معاً كمحاولة لإمضاء "كواليتي تايم" كما يسمونه هنا، أو ربما تحب أن تتعلم أفضل عن اللغة العربية، وقتها سيكون أبوك وكتابه بالخدمة إن لم تجدنا مملين. أفهم تماما الفارق بين من لغته الأولى العربية والإنجليزية وأنا عازم على احترام اختياراتك واختلافاتك.
كم أبهرتني يا بني منذ سنواتك الأولى.
في لحظة ما من عامك الثاني انفجرت داخلي مشاعر الأبوة نحوك بلا حدود. أنبهر وأنا أرى معجزة تكوني تتكرر. هناك "محمد" آخر صغير أراه لكنه ليس أنا بالضبط، بل هو.
حرفياً أشعر أني أنظر "للذي قلبيَ الآنَ تفاحة ٌ في يدَيه،
للذي قلبيَ الآنَ كرةٌ بين رِجْليه
للذي لو نامَ روحي ترفرفُ مثلَ الفراشةَ فوقَ سريرهِ
ولو استيقظ َ الآن ينتعلُ القلبَ قبلَ حذائِهِ".
أعرف أنك نبت انجليزي من أصول مصرية، ولست مثلي مصري ثم لتقل جوازات السفر ما شاءت، وكم أحترم اختلافنا هذا.
أنت ابن جيل نجومه "يوتيوبرز" و"تيك توكرز"، كثيرا ما حاولت فهمهم معك، وكثيرا ما أحببت نجاحنا سويا في الاتفاق على آليات لبحث مصداقية كلامهم، ومن هم الأفضل في تبني القضايا المفيدة.
كم أحببت حين فاجأتني في "السوبر ماركت" بإشارتك إلى علامة "فري تريد" وأن معانها ان المزارعين يحصلون على رواتب أفضل لذلك يجب أن أدعمهم، أو حين فاجئتنا أنك طرحت في مناقشة الفصل قضية عدم تساوي المرأة والرجل في الدخول، أو حين طلبت مني التبرع لدعم فريقك المفضل لتنظيف المحيطات. كانت أفكاري مختلفة تماما ومحدودة تماما في سن الثامنة!
كلي شوق لأرى أفكارك مراهقا، لكني منذ الآن مطمئن عليك، فقد شهدت كيف تعاملت بنضج شديد مع إبلاغ إسراء لك بصراحة بحقيقة وضعي الصحي.
كما حاول جدي يوما ما أن يحمي أطفاله بفقاعة عن مآسي الحياة، وكذلك حاول أبي وأمي، حاولت أنا أيضا واكتفيت بالحديث العام عن أني مريض في بطني.
لكن إسراء أخذت المبادرة، واستشارت متخصصة نفسية للأطفال، وهكذا سمعت منها للمرة الأولى اسم مرضي: السرطان، وأخبرتك عن صعوبة العلاج. كم أسعدني أنك كنت عمليا، تؤكد أني أحصل على أفضل الأطباء والأدوية.
تدريجيا أظهرت عواطفك أكثر. ألحظ حرصك على تقديم كل ما بيدك لإسعادي، كالقراءة ونقاش المعلومات معي، أو كالهمس بصوت منخفض وقت نومي، أو كالحذر عند احتضاني.
كنت دائما ترفض فكرة أن ننجب لك أخا أو أختا ثم فجأة غيرت رأيك، تحديدا بعد توقيت تشخيصي، لعل ذلك تأثرا بلقاءك بأبناء اخوتي واخوة إسراء بمثل عمرك، لكنك توقفت عن ذلك بعد أن أخبرناك.
كم تأثرت حين حكى ابن جارنا أنك طلبت منه أن يكون أخاك لمدة عشر سنوات لأن "بابا مريض بالسرطان ولا نعرف لو كان سيعيش أم لا". يومها ناقشت مع إسراء خيار تجميد حيواناتي المنوية كاحتياط لا يضر ثم القرار لكما.
حين توفي "تكنوبليد"، نجم يوتيوب الشهير، الذي كنت أنت تتابع مقاطعه عن لعبة ماينكرافت، بسبب خشيت أن تصدمك القصة، لكني أحببت رؤيتك الإيجابية لها: قلت لقد توفي بعد أشهر قليلة فقط بينما أنت عشت أكثر من عام، أنت بطل يا بابا.
بل أنت البطل يا حبيبي. نعم سنفعلها معا.
وبطاقة الأمل بالمستقبل تلك، ورغم أني لم أتلق أي علاج منذ نحو شهرين، وكلما سألت طبيبا يتردد في فعل أي شيء بالمرحلة الحالية إلا “إدارة يوم بيوم”، حتى أن أحدهم خرق المعايير العلمية وقال لي : “ليس أمامنا إلا أن ترفع يدك للسماء”. أقول أنه رغم كل ذلك فقد بدأت أراسل تجارب علاجات أقرب لخيال اليوم وواقع الغد،
الأول هو "الفيروسات قاتلة السرطان" Oncolytic viruses
الفكرة بسيطة، إذا كان تعريف الفيروس هو غلاف بروتيني يحقن مادته الوراثية داخل خلايا معينة فيستخدمها لتكاثره ثم يدمرها، فلماذا لا نعدل فيروسات تهاجم الخلايا السرطانية؟ سنُمرض المرض!
الثاني هو "العلاج بالخلايا المناعية" CAR-T cells
سيتم سحب الخلايا الخاصة بي من جسدي، ثم تعديلها وراثيا بحيث تتعرف على الخلايا السرطانية، ثم إعادة حقنها لي هي نفسها.
للأسف بدأت أتلقى ردودا بالرفض بالفعل، "فات الأوان"، "العبء الورمي في جسدك أعلى من معاييرنا"..الخ. لكني كلما أغلقت ملفا لا ألتفت وأحاول النظر لما بقي بعده.
وبنفس الوقت أحاول مقاومة الأعراض المفاجئة المتجددة والآلام. قبل أيام قال الأطباء أن ما بقى قد لا يجاوز شهرا أو اثنين على الأكثر، لكني أدير الحياة ولو ساعة واحدة باقية تلو ساعة، لا يوما تلو يوم.
وأحاول السلام على من أحب من الأسرة والأصدقاء ولو برسائل فقط.
ابني الحبيب،
أودي أن أحكي لك قصة: تم تشخيص إصابتي بالسرطان بعد وفاة جدتك بنحو عام بنفس المرض. كانت إسراء حزينة جدا لكنها أيضا عملية جداً وفورا تسلمت مكاني حضور دروس قيادة السيارة لعلمنا بمدى أهميتها في الفترة القادة.
ذات يوم عادت أمك سعيدة جدا، قالت لي إن أمها سلمت عليها اليوم. أرتني مقطع فيديو مبهرا. شاهدت ببغاءا ملونا جميلاً نادر الوجود، ريشه أزرق سماوي وبرتقالي وأبيض، ظل يسابق البشر والسيارات ليبقى طائرا جوار شبام إسراء بالضبط لمسافة طويلة بينما هو ملتفت إليها.
جربت تغيير سرعتها واتجاهها عدة مرات فظل الطير الجميل يتابعها.
قالت إنها شعرت في قلبها إن هذا الطائر هو أمها يطمئن عليها ويحييها.
سبق أن حاولت أن أسأل وأقرأ من النواحي العلمية أو الماورائية أو الدينية أين تذهب روح الإنسان أو وعيه العقلي؟ هل أبقى في قبري أعاني الملل؟ هذا سيكون حاسما بمسألة اختيار دفني في لندن أم مع الأسرة في مصر، أم هو مجرد جسد وتطوف الروح حول العالم بحرية؟
لكن الأكيد أني لم أرتح أبداً في أي مرحلة من مراحل علاقتي الخاصة بالدين أو العلم لفكرة الفناء العبثي.
أنا أصدق أن جدتك اطمئنت على إسراء في صورة ذلك الطائر يومها.
وأنا أيضا لو غبت عنك يا بني بعد عشرين يوما أو شهراً أو عشرين عاماً فثق أني سأكون في مكان ما أنظر إليك. لعلي في نسمة هواء أو تراكم قطرات الندى، أو في أصغر وردة بيضاء تذكرني بأمك.
لعلي أظهر في "تشابك كمي" لا يُرى بالعين المجردة بين أجزاء أصغر من الذرات.
أنت جئت لتحكي لي ما شاهدته على "بي بي سي راوند" عن هذا "التشابك الكمي" الذي هو موضوع جائزة نوبل عام 2022، حيث قد يفتح الباب لتحقق خيال الانتقال الآني.
لا يفهم الفيزيائيون إلى اليوم كيف تتصل جزئيات تحت ذرية بينها مجرات كاملة، لكن هذا ما يحدث ورأو نتائجه بالمعمل بالفعل.
لا أحد يفهم بالضبط جوانب عديدة من فيزياء الكم، تجعلها أقرب لتلك المساحة الرمادية بين العلم و"الغيب".
وفي تلك المساحة أعرف أنه ستظل تلك الطاقة من حبي تحيط بك وبأمك سواء كنت أنظر إليكما بعيناي، أو أنظر إليكما بعيون كل ذلك الكون الفسيح الجميل.

المحرر الادبي لصحيفة الهدهد الدولية
الاثنين 5 ديسمبر 2022