وتبين الدراسة أن لبعض المتغيرات الاجتماعية والشخصية دورًا فاعلًا في عملية الاندماج، فمسألة العمر والوضع العائلي تلعب دورًا كبيرًا في مسألة الاندماج، حيث إن الأشخاص الذين وصلوا إلى ألمانيا في أعمار 35 أو 40 وما فوق ما زالوا يواجهون صعوبات في تعلّم اللغة والانخراط في سوق العمل، مقارنة بفئة الشباب. وتلعب مسألة الجندر دورًا مهمًا أيضًا، حيث اتضح أن لدى السيدات إمكانية أكبر للاندماج مقارنة بالرجال، وذلك مرتبط بالدور النمطي للرجل المتعارف عليه في سورية. ومن جانب آخر، يلعب المكان الجغرافي دورًا كبيرًا في عملية الاندماج، حيث بدا أنّ عملية الاندماج في المدن متوسطة الحجم أكثر يُسرًا منها في المدن الكبيرة والأرياف، وبدا أيضًا أن المقاطعات الشرقية أقلّ ترحيبًا بالمهاجرين واللاجئين من سائر المقاطعات، ما يزيد من تحديات الاندماج فيها.
وفي ما يتعلق بمسألة تعلّم اللغة والمساهمة المهنية في سوق العمل، تُظهر الدراسة أن السوريين في ألمانيا قد اهتموا بتعلم اللغة الألمانية، وعملوا على الانخراط في سوق العمل، حيث إن نسبة عالية منهم تتكلم اللغة جيدًا، وتعمل في القطاعات الاقتصادية المختلفة التي تظهر تطوّرًا إيجابيًا سريعًا، خلال مدة زمنية قصيرة نسبيًا. وتُظهر الدراسة مؤشرات إيجابية في تجارب أفراد عيّنة الدراسة ضمن سوق العمل، من حيث القدرة والرغبة في العمل مع الجنسيات الموجودة في ألمانيا، ومن حيث الشعور بالتقدير والاحترام ضمن العمل وتلقّي التسهيلات في المؤسسات. في الوقت نفسه، تبين الدراسة أن العثور على فرصة عمل ما زال أمرًا تعوقه العديد من التعقيدات القانونية والعملية، متمثلة في الاعتراف بالشهادات وعامل اللغة، إضافة إلى مسألة العنصرية التي تحول دون الحصول على الوظيفة في بعض الأحيان.
وتُظهر الدراسة مؤشرات تفاعلية إيجابية في بناء السوريين علاقات اجتماعية مع المجتمع المضيف، خصوصًا في السنوات الأولى لموجة اللجوء. ومع ذلك، فقد حدث تراجع في انفتاح العلاقات والتواصل بين السوريين والمجتمع المضيف في السنوات الأخيرة، نتيجة لتغيّر احتياجات السوريين والمجتمع المضيف واهتماماتهم، فضلًا عن تأثير جائحة كورونا في مسألة التواصل بشكل عام، ووجود مجتمع سوري يسمح بالتواصل مع أفراد المجموعة نفسها.
وتبين الدراسة بروز تحدي الاندماج الثقافي وآثاره في المسائل القيمية، ولا سيما في العلاقات الزوجية والأدوار الجندرية، وقد أدى ذلك في كثير من الحالات إلى نشوب خلافات أسرية، حيث ظهرت اختلافات واضحة في مسائل تتعلق بحقوق المرأة والقضايا النسوية. وبرزت تحديات في العلاقة بين الأهل والأولاد، نتيجة مخاوف الأهل من الاختلافات القيمية في التعامل مع قضايا اجتماعية، مثل الحرية الجنسية والفردانية وطرق التربية. أما في ما يتعلق بمسألة ممارسة الشعائر الدينية، فتظهر الدراسة أنه في الوقت الذي تراجعت فيه ممارسة الشعائر لدى بعض السوريين، بسبب تغيرات في فهم المواضيع الدينية والعلاقة مع الجامع أو بسبب عوامل مثل جائحة كورونا وطبيعة الحياة في ألمانيا (ضغط العمل)، هناك ردة دينية لدى البعض، بسبب حالة الرفض التي يعيشونها في ألمانيا، إذ لم تترك لهم خيارات سوى العودة إلى الدين.
وبينت الدراسة أن لعلاقات القوة غير المتكافئة والعنصرية تأثيرًا واضحًا في العلاقة مع الوسط الألماني، فالعلاقة بجزء كبير كانت قائمة على اللاجئ الضعيف الذي يحتاج إلى مساعدة من جهة، والشخص الذي يقدم المساعدة من جهة أخرى، الذي بطبيعة الحال هو الألماني. لكن بعد سنوات تمكّن كثيرون لغويًا ومهنيًا، وأصبحوا أندادًا في العمل أو حتى في علاقات الصداقة والعلاقات العاطفية، وانعكس ذلك على هذه العلاقة، وجعلها تتوتر عند مناقشة موضوعات خلافية، كالموضوعات السياسية أو المسائل القيمية. وشكلت الحرب الأخيرة على غزة نقطة تحول في كيفية فهم العلاقة مع الدولة والمجتمع في ألمانيا، بالنسبة إلى كثير من السوريين، فبعد الاصطفاف الواضح لألمانيا (سياسيًا وإعلاميًا وحتى اجتماعيًا في بعض المستويات) في دعمها إسرائيل، بدأ كثيرون في إعادة النظر في هذه العلاقة التي انعكست أيضًا في المستوى الاجتماعي.
وتبين الدراسة أن السوريين في ألمانيا يواجهون ضغوطات نفسية مرتبطة بالوضع في سورية، ليس فقط نتيجة الأوضاع السيئة المرتبطة بالبلد والمنطقة عمومًا وكيفية التعامل مع الأخبار التي تنعكس على الحياة في ألمانيا والمسؤوليات المادية تجاه العائلة والأقارب في سورية، بل أيضًا في ما يتعلق بالتعامل مع الأهل في سورية، فهناك فجوة كبيرة بين مستوَيي المعيشة في ألمانيا وفي سورية وشرخٌ في مستوى العلاقة نتيجة البعد عن العائلة واختلاف مشكلات الحياة الاجتماعية والقيمية بين البلدين.
وتُظهر الدراسة أن عددًا من السوريين المقيمين في ألمانيا لا يرغبون في الانخراط في المنظمات السياسية والمدنية والنقابية، وذلك يعود إلى الهواجس السلبية التي خبروها من تجربة الانتماءات السياسية والمدنية والنقابية في سورية، إضافة إلى عوامل أخرى، منها طبيعة الحياة وضغوطاتها في ألمانيا وعدم توفر الوقت والمؤهلات اللغوية، ومسألة العنصرية، وعدم بذل الأحزاب الألمانية الجهد الكافي لاستقطاب المهاجرين واللاجئين للانتساب إليها. غير أن هناك نشاطًا ملحوظًا لعدد من السوريين في العمل السياسي الألماني في السنوات الأخيرة، واستطاع السوريون تشكيل عدد من منظمات المجتمع المدني بعد عام 2011 في ألمانيا، وذلك في قطاعات مختلفة، وهذا يعدّ مؤشرًا جيدًا على تزايد أهمية الجالية السورية في ألمانيا وإمكانية لعبها دورًا في في السياسات الألمانية لخدمة مصالح السوريين في ألمانيا أو التـأثير في سورية المستقبل من خلال نقل الخبرات والقدرات إلى سورية.
وتُظهر الدارسة أن هناك رغبة (وإن بقيت نظرية)، لدى عدد من السوريين في ألمانيا، في الانتقال إلى بلد آخر (وهذا مؤشر على عدم الرغبة في الاستقرار في ألمانيا إن سمحت الظروف)، وذلك لدوافع يرتبط بعضها بالرغبة في الانتقال إلى مكان أكثر دافئًا أو في تنشئة الأطفال وتربيتهم في بيئة مشابهة لبيئتهم، أو بالضغوطات النفسية الناتجة من التعامل مع المؤسسات والبيروقراطية الألمانية، وضغوطات الحياة والمواقف العنصرية، وصعود اليمين المتطرف، وأخيرًا طريقة التعامل مع حرب غزة.
وأخيرًا، بينت الدراسة أن نسبة عالية من السوريين لا ترغب في العودة والاستقرار في سورية، أو أن مسألة العودة بالنسبة إليهم مرتبطة بالوصول إلى حل سياسي شامل يُفضي إلى تغيير النظام السياسي وإلى استقرار اجتماعي واقتصادي في سورية، فموضوع العودة مرتبط أيضًا بتوافر الظروف الاجتماعية والمعيشية الممكنة للعودة، نتيجة لحالة الفجوة في طريقة الحياة بين سورية وألمانيا.
يمكنكم قراءة البحث كاملًا من خلال الضغط على علامة التحميل أدناه: