وكان أهم ما أشار إليه الوزير القطري في تعليقه على سؤال حول المصالحة مع القاهرة، هو تأكيده أن المصالحة ستكون على نحو انفرادي، وأنه سيكون هناك لجان واجتماعات ثنائية بين الأطراف لوضع حلول وآليات الرؤية المستقبلية للعلاقات، وأنه سيتم بحث المسائل العالقة ثنائياً، من خلال آلية مع كل دولة على حدة. وفسر الوزير ذلك بأن الخلافات بين قطر وكل طرف من الأطراف تختلف من حيث طبيعتها. وكان لافتاً تأكيد الوزير على احترام قطر لقناة الجزيرة ودورها، وتأكيده على ضرورة أن لا تناصب القناة أي دولة العداء وأن لا تناصبها أي دولة العداء.
وهكذا، يمكن القول باختصار إن المصالحة تمت استناداً إلى قراءة مختلفة عن القراءة السابقة. وتبقى أهم ضمانة لتنفيذ "اتفاق العلا" -وفق قول وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في المؤتمر الصحفي بعد القمة- هي "الإرادة السياسية" للدول، فلا يتضمن الاتفاق أي قوة إلزامية لتنفيذه إلا تقديرات الأطراف لمصالحها الوطنية والمخاطر على أمنها القومي من جراء استمرار الأزمة. ينطبق ذلك على أطراف الرباعي كما ينطبق على قطر؛ فكل طرف يتصرف وفقاً لما يراه حفاظاً على ثوابته ومصالحه الوطنية.
ويشير اتجاه دول مجلس التعاون الخليجي نحو المصالحة إلى أحد تقاليد دول المجلس، الخاصة بتفضيل تسوية الأزمات البينية بعيداً عن الإعلام، وعدم انعكاس الأزمات بين دول المجلس على نصوص البيانات الرسمية. لذلك، وعلى مدى عمر المجلس (40 عاماً حتى الآن)، لا يجد قارئ للبيانات الختامية لقممه الاعتيادية أو الاستثنائية إشارة إلى أي مشكلة بين دوله من أي نوع.
وهناك حسابات عدة دفعت إلى المصالحة الخليجية بقرار سياسي مسبق، وليس لتوفر شروطها أو استيفاء أسبابها، فهناك عوامل ضاغطة على صناع القرار بدول الخليج لأجل إنهاء الأزمة وتغليب المصالحة، أهمها التحديات السياسية والاقتصادية، والخسائر التي لحقت بدول المجلس من جراء الأزمة، بجانب التكاليف الاقتصادية الناتجة عن وباء "كوفيد-19"، وتراجع أسعار النفط، وهو ما انعكس في خفض الموازنات العامة، وعجز الميزانيات، وتسريح العمالة، وتحولات سوق العمل، الأمر الذي جعل خليج 2021 غير خليج 2017. أضف إلى ذلك الاحتفال هذه السنة بمرور 40 عاماً على إنشاء مجلس التعاون الخليجي، واستقبال عقد جديد في تاريخ المجلس، تفرض الضرورات أن يكون مختلفاً عن أصعب عقد مر على دول المجلس (2010 – 2020) من ناحية الأزمات والخلافات البينية و"التفسخات" المجتمعية التي عكست نفسها بوضوح على أدوات التواصل الاجتماعي.
هذه الخلفيات انعكست في التصريحات الأخيرة للمسئولين بدول المجلس، بالأخص وزراء خارجية الإمارات والسعودية، التي بدت مندفعة نحو المصالحة بغض النظر عن المواقف السابقة. وكان تصريح وزير الدولة الإماراتي للشئون الخارجية الدكتور أنور قرقاش في 7 يناير 2020 مهماً في تأكيده على الرغبة في "استعادة الروابط الأساسية بسرعة"، معتبراً أن "بناء الثقة ومعالجة الملفات الجيوسياسية يمثلان مهمتين طويلتي الأمد"، وقد يبدو ذلك من الصعب فهمه على العقلية غير الخليجية، في ضوء ما هو معروف من خلافات إماراتية- قطرية استراتيجية.
ويُرجح أن يشهد مجلس التعاون دفعة قوية من المبادرات خلال الأشهر المقبلة على نحو يفوق وتيرة إيقاعه السابقة؛ فشعوب دول المجلس –وبالأخص الشعبين القطري والسعودي- متعطشة للمصالحة، ذلك ما برز في الاحتفالات الداخلية في قطر ودول المجلس بعد القمة، وتضمين بيان المجلس لـ 117 بنداً تتعلق بإحياء كل مبادراته السابقة في مجالات التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني والعسكري والتعليمي والصحي.. وغيرها.
فرصة لمصالحة مدفوعة بالتحديات
بالعودة إلى أسباب وظروف الأزمة عام 2017، يتضح أنه كانت هناك مبررات قوية لدول الرباعي لتبني هذا الموقف من قطر، بسبب الدعم القطري للقوى والجماعات المتطرفة الساعية لزعزعة الاستقرار، وتبني قطر خطاباً تحريضياً عبر شبكات الجزيرة والقنوات التي تمولها في تركيا. صحيح أن هذا الموقف القطري لم يتغير حتى وقت انعقاد قمة العلا، بل ازداد عدائية بين 2017 ويناير 2021، لكن من الخطأ الاعتقاد بأن قطر لم تتغير أو لم تستوعب الدروس، ولم يكن اتجاه خطابها إلى مستويات أعلى من العدائية خلال تلك السنوات إلا محاولة لدفع أطراف الأزمة لإعادة النظر في مواقفهم، أخذاً في الاعتبار أن قطر ظلت فعلياً محصورة مجتمعياً وسياسياً في الواقع الخليجي خلال تلك الفترة.
هكذا، جرت مقاطعة قطر في 2017 بقرار من الرباعي، وفق قراءة محددة لإدارة العلاقة مع الدوحة والتصدي للنهج القطري، وتقرر البدء بالمصالحة معها في أواخر 2020 أيضاً بقرار من دول الرباعي، وجاء قرار المصالحة في 2020 في ظل حالة خليجية تدعو إلى الارتقاء إلى مستوى الأخطار والتهديدات المحدقة بالجميع.
هذا التغير في قراءة الرباعي للأزمة في 2020، لا ينبغي تفسيره من زاوية منتصر أو مهزوم؛ فذلك ليس المدخل الصحيح لقراءة الأزمة؛ فبينما لن ينظر إلى التنازل الرباعي إزاء قطر على أنه إخلال بسيادة أي من الدول الأربع، فإن التنازل في الموقف القطري إزاء الرباعي، ينظر إليه داخل منظومة الحكم في قطر وداخل بعض الدوائر الخليجية والنخب المثقفة على أنه إخلال بسيادة الدولة والكرامة الشخصية للحكم، وتلك نظرة الدول الصغيرة حال تشكل أحلاف ضدها من قوى كبيرة. هذا المنطق في إدارة العلاقات بالغ التأثير في الواقع الخليجي عموماً، حين يحدث "التمرد" على شيخ القبيلة، وفي مقابل ذلك يسود منطق الأب كبير العائلة الذي عليه أن يستوعب الجميع، باعتبار المملكة عمود الخيمة الخليجية.
فضلاً عن ذلك، فإن موقف مجلس التعاون الآن يلبي حاجة فعلية للشعوب والنخب الفكرية والثقافية بالخليج، التي تضررت كثيراً من الأزمة، فضلاً عن قطاعات من بين صناع القرار كانت تعبر عن آرائها بأساليب وأشكال مختلفة. ولقد عبرت هذه القطاعات عن رغبتها بإنهاء الأزمة والمقاطعة، وكان موقف المجتمعات والنخب وبعض المسئولين ممزقاً بين الهوية الخليجية والولاء الوطني، على نحو انعكس على خطابها الذي تناوب بين النقيضين (في التغريدة الواحدة أحياناً)، ذلك ما ينعكس الآن في الاحتفالات الخليجية بالمصالحة، حتى من جانب نخب وضعت نفسها منذ اليوم الأول في صدارة المواجهة، حيث لا يتحكم في الخليج منطق العداء المطلق بين دول ووطنيات، وإنما يتغلب الشعور بالمواطنة الخليجية.
وخلف المنطق الأبوي في الفكر الخليجي، منطق براجماتي يُغلِّب المصالح بسرعة. يعزز ذلك أنه كان لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان تجربة سابقة، حين تواصل معه أمير قطر، في محاولة فشلت بعد تباين الروايات بين قطر والسعودية حول من بادر بالاتصال ومن قدم المطالب، وهي أمور على الرغم من أنها تبدو صغيرة بحسابات ومنطق الدول في مناطق أخرى، إلا أنها كان لها الدور الأكبر في إجهاض مساعي المصالحة، وفقاً لمقامات الرؤوس في الخليج. فقبل مرور ستة أشهر على بدء الأزمة -التي نشأت في مايو 2017- جرى اتصال هاتفي بين ولي العهد السعودي وأمير قطر، بتنسيق من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبعد أن تضاربت الأخبار بشأن روايات الاتصال، بعد إعلان وكالة الأنباء القطرية أخبار الاتصال بالشكل الذي ينال من الموقف السعودي، ويصور ولي العهد السعودي على أنه من بادر به، أعلنت وزارة الخارجية السعودية أن المملكة "تعلن تعطيل أي حوار أو تواصل مع السلطة في قطر حتى يصدر منها تصريح واضح توضح فيه موقفها بشكل علني، وأن تكون تصريحاتها بالعلن متطابقة مع ما تلتزم به".
وظلت قنوات التواصل بين السعودية وقطر قائمة بمستويات أدنى، حتى تكثفت في أواخر عام 2020، عَبْرَ قنوات الوسيطين الكويتي والأمريكي، وصلت إلى مستوى شجع المملكة على الأخذ على عاتقها ملف المصالحة بالنيابة، واستقرت الدول الثلاث الأخرى في تحالف الرباعي على اعتبار المملكة ممثلاً عنها في الحوار مع قطر.
وقد حافظ الإخراج الشكلي للقمة على صورة التحالف الرباعي؛ فبينما حضر الأمير تميم، رئيس الدولة محل الأزمة، فقد غاب قادة الدول الأربع الرسميين والفعليين (الرئيس عبد الفتاح السيسي، والملك حمد بن عيسى آل خليفة، والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي)، وكان غياب الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود عن القمة -المنعقدة في بلاده- أمراً ذا دلالة مهمة، من ناحية الحفاظ على التواؤم بين موقف الرباعي.
وقد يعزز من احتمالات نجاح المصالحة الملفات التي تضغط على قطر لأجل تصحيح المسار الداخلي والتوجه الإقليمي. وهناك في هذا الإطار أربعة ملفات أمام قطر تدفع جميعها إلى تغيير إجباري -وليس اختيارياً- في سلوكها.
الملف الأول، هو ملف الإصلاح الإعلامي، بهدف العودة مجدداً إلى إعلام احترافي غير مؤدلج بعد سلبيات السنوات الماضية التي أخرجت الإعلام القطري عن الطريق الصحيح.
الملف الثاني، هو الملف الرياضي، وهو الملف الذي أحرزت فيه قطر تقدماً مهماً بتولي تنظيم كأس العالم لكرة القدم في 2022، ومؤخراً الفوز بتنظيم دورة الألعاب الآسيوية 2030.
الملف الثالث، هو الملف المالي، من خلال التركيز على زيادة الاستثمارات القطرية العالمية (موانئ، فنادق ومتاجر، بورصات، أندية، مؤسسات مالية).
الملف الرابع، هو الملف السياسي الداخلي، وربما يؤشر على أهمية هذا الملف حرص بيان قمة العلا على تضمين الإشارة إلى أن "المجلس الأعلى أخذ علماً بإعلان الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر، إجراء انتخابات مجلس الشورى في أكتوبر القادم". والمرجح أن النص على ذلك في بيان العلا جاء بتوصية من قطر.
هذه الملفات الأربعة تدفع قطر نحو تفضيل الاستقرار على نشر الاضطراب الإقليمي. وربما يمكن أن نضيف إلى الملفات السابقة الملف الخاص بمستقبل الحكم في تركيا، والمدى الزمني لوجود الرئيس رجب طيب أردوغان على رأس السلطة، واحتمالات عودة الحكم العلماني وخسارة حزب التنمية والعدالة، ومن ثم يصبح إقدام قطر على المصالحة هو القرار الأصوب، استعداداً لتغير قد يطال نظام الحكم في تركيا، ومن ثم تغير تحالفها مع الأتراك.
اتجاهات التحالفات الإقليمية 2021
السؤال الذي يطرح نفسه بعد قمة العلا يتركز حول اتجاه التحالفات الإقليمية بعد القمة؛ فعلى مدى الأشهر الأربعين منذ بدء الأزمة في 2017، تغير شكل التحالفات والمصالح في الإقليم، وطغى على المنطقة فاعلون جدد وقضايا جديدة، جميعها ستكون في حاجة إلى إعادة نظر في ضوء مستجدات المصالحة. ومن خلال ما كشفه الوزير القطري عن بنود الاتفاق والذي سيتم عبر لجان ثنائية بين قطر وكل دولة على حدة، هناك احتمال لإحراز تقدم بين قطر والرباعي على نحو متفاوت، بالشكل الذي قد ينتهي إلى تبدل في التحالفات، فهل ينتهي تحالف الرباعي كتحالف مؤقت دعت إليه الضرورة وتأسس في مواجهة قطر، أم يستمر كجسر تنمية واستقرار عابر بين الخليج وباقي العالم العربي؟
الإجابة عن هذا السؤال تدفع إلى تفحص أربعة ملفات:
الملف الأول، يتعلق بمستقبل العلاقات السعودية- القطرية؛ فقدوضعت قمة العلا ملف المصالحة في عُهدة المملكة العربية السعودية كممثل عن الرباعي، وقطر كممثلة عن نفسها. وعلى الرغم من التباين بين البلدين في جوهر العقيدة السياسية التي رسختها سنوات الأزمة، وفي استراتيجية مكافحة الإرهاب، وفي الملفات الداخلية، إلا أن عناصر التوافق التي كانت قائمة بين البلدين قبل 2011 (ومن بينها السلفية الدينية وترويض الإسلام الحركي)، وتلك المحتملة بعد اتفاق العلا 2021، قد تجتذب البلدين إلى لعب دور مشترك بين الكتل الإقليمية. المملكة ستكون مشدودة للتوفيق بين التزامها إزاء الرباعي بشأن استيفاء استحقاقات المصالحة، وقطر ستكون مشدودة للتوفيق بين تحالفها مع تركيا وإيران وعلاقاتها المستأنفة مع المملكة، وهنا مساحة للعب البلدين أدواراً متعددة بين الرباعي وتركيا وإيران وإسرائيل. وإذا تبادل البلدان المعلومات والملفات التي استجدت على مدى السنوات الماضية الخاصة بشبكات الإسلامويين والإخوان والإعلام وتركيا وإيران، فإنهما سيجعلان نفسيهما مركزاً لتفاعلات إقليمية مهمة.
والسؤال: هل يتمكن البلدان من إعادة بناء جسور الثقة حول التحالفات والمصالح، وتتمكن المملكة من اجتذاب قطر إلى العقيدة السياسية المناهضة للإسلامويين الحركيين، أم تجتذب قطر المملكة للاستفادة من شبكات النفوذ الإعلامية والمالية وترويض فرس الرهان الإسلاموي الحركي مجدداً؟ في كل الأحوال هذه المسألة تحتاج إلى وقت طويل. والمرجح أن تبقى المملكة وقطر لفترة في هذه العملية التفاعلية والحوارية إلى أن يصلان إلى محطة الثقة التي تمكن كلاهما من الاستفادة من الآخر واللعب على مربعه الاستراتيجي.
الملف الثاني، يتمثل في مجالس التنسيق السعودية الخليجية، فعلى مدى السنوات من 2015 وحتى 2020 أسست السعودية مجالس للتنسيق بينها وبين دول داخل وخارج مجلس التعاون الخليجي، لتعزيز عوامل الاستقرار وتأكيد استراتيجية مكافحة الإرهاب إقليمياً، وترسيخ علاقات التعاون والتنسيق بين المملكة ودول المجلس، بهدف التغلب على تحديات الأزمة التي طرحتها قطر في الواقع الخليجي. وقد مكنت تلك المجالس من إعادة تجديد وتأسيس العلاقات السعودية إقليمياً وخليجياً.
في هذا السياق، أسست المملكة خلال الفترة (2015- 2019) خمس مجالس للتنسيق مع كل من مصر (نوفمبر 2015)، والإمارات (مايو 2016)، والعراق (أغسطس 2017)، والكويت (يوليو 2018)، والبحرين (يوليو 2019). وفي سياق هذه المجالس، عُقدت العديد من الاجتماعات بين كبار المسئولين، وجرى التوقيع على عشرات الاتفاقيات ومذكرات التفاهم والتنسيق والتعاون بين وزارات ومؤسسات المملكة ووزارات ومؤسسات الدول سالفة الذكر. وهنا يثور السؤال حول تأثير عودة الفاعلية لمجلس التعاون الخليجي على هذه المجالس والمؤسسات، وهل تتراجع رغبة المملكة في تكريس المسار الخاص في علاقاتها مع الدول عبر مجالس التنسيق بعد عودة الفاعلية لمجلس التعاون الخليجي؟
هنا ينبغي التذكير بأن مجلس التنسيق بين المملكة وقطر كان سابقاً في التأسيس منذ عام 2008. وقد عُقدت في إطاره خمسة اجتماعات، بالتناوب بين الرياض والدوحة، كان أولها في ديسمبر 2008 وآخرها في مايو 2017 قبل الأزمة بين الرباعي وقطر بأيام. وفي ظل هذا المجلس وقّع البلدان على عشرات الاتفاقيات والمذكرات في مختلف المجالات، منها السياسي، والعسكري، والأمني، والاقتصادي، والدبلوماسي، والمالي، والتجاري، والصناعي، والاستثماري، والثقافي، والإعلامي، والزراعي، والنقل الجوي، والأوقاف، والشئون الإسلامية، والبيئي، والصحي، والبلدي والتخطيط العمراني، والنقل، والبنية التحتية، والطاقة، والتعليم العالي، والبحث العلمي، إضافة إلى التعاون بين القطاع الخاص في البلدين، مما يشير إلى طبيعة العلاقات بين المملكة وقطر السابقة على أزمة 2017، وهو ما يرشح إمكان استعادة هذه العلاقات بقوة.
الملف الثالث، ينصرف إلى ملفات الصراع في الساحات الإقليمية، خاصة اليمن وليبيا والعراق وسوريا؛ ففي السنوات الماضية تواجهت كُتْلَتَانْ في الإقليم مارستا التنافس والصراع على ساحات الدول الأربع، وتأسست توجهات الكتلتين على المفارقة بين مواقف كليهما بشأن مكافحة الإرهاب ومواجهة المشروع الأيديولوجي الحركي للجماعات الإسلاموية في الدول العربية. ومن شأن توجهات المصالحة بين الرباعي وقطر، أن تؤدي إلى قدر من الاستقرار المرحلي لاختبار النوايا بين الجانبين، ومعرفة حدود الالتزام باتفاق العلا.
وخلال هذه الفترة يُرَجحْ أن يُكْشَفْ الغطاء عن حدود التوافق بين المشروعين القطري والتركي والإخواني في المنطقة، وأيهم الأصيل وأيهم التابع، وأيهم المؤقت وأيهم المستدام، ومن يقتصر على التمويل ومن يقوم بالتوجيه، وتأثير غياب أو خفض التمويل على التوجيه. وإلى حد كبير، أشارت الأيام التي أعقبت بيان العلا إلى قدر من التباين؛ بين المنصات القطرية (الجزيرة تحديداً)، وبين المنصات الممولة في تركيا؛ فبينما مالت الأولى للتهدئة، زادت الثانية ربما في خط التصعيد.
لكن مهما سعى المشروع القطري للابتعاد عن المشروع التركي، وهو ما لم يُنص عليه في بيان العلا، فإنه من المرجح أن تظل العلاقة بين البلدين على نفس القدر من الزخم على مدى السنوات المقبلة، وسيكون الابتعاد تدريجياً وبمقدار ما تستعيد فيه قطر دورها وتعيد موضعة ذاتها مجدداً في سياق مجلس التعاون الحليجي والعالم العربي، والأرجح أن تظل علاقة قطر بتركيا كما هي طالما استمر الرئيس أردوغان على رأس السلطة في تركيا. أما إذا حدث تغيير داخلي يخسر فيه حزب العدالة والتنمية، فمن المرجح أن يحدث تباعد بحكم الواقع بين قطر والمشروع التركي. وفي العموم، سوف يقلص نجاح المصالحة مع قطر من قدرة تركيا مالياً وسياسياً وإعلامياً على الاستمرار في تدخلاتها في الدول العربية، خصوصاً ليبيا والعراق وسوريا.
الملف الرابع والأخير، يرتبط بالتطبيع مع إسرائيل؛ فقد تكون المصالحة هي أفضل غطاء خليجي للإقدام على تسوية في هذا الملف، فعلاقات قطر مع الإسلامويين توفر لها شبكة دعاية شديدة العدائية. وقد قامت قطر بتوظيف هذه الشبكة بشكل شديد ضد خصومها في الخليج خلال فترة الأزمة. وازدادت هذه الشبكات عدائية بعد توقيع الإمارات والبحرين اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل. وفي ظل المصالحة، فإنه يمكن لقطر المساعدة على تمرير ملف التطبيع داخل الإطار الخليجي كله، وتوحيد خط العواصم الخليجية مع تل أبيب فيما يتعلق بالتوازن الإقليمي المستقبلي في مواجهة إيران.
-------------------
مركر الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية