هروب الجيش السوري من مواقعه، وفرار عائلة الأسد من قصورها، أمام وحدات عسكرية مسلحة بأسلحة فريدة، خفيفة ومتوسطة، ما زال يطغى على صورة "الانقلاب الأبيض" الذي نفذته الهيئة، وتلقفته واحتفت به على الفور الغالبية الشعبية السورية، بعدما ضاقت ذرعاً بالنظام المخلوع، ونهجه المدمِّر للاقتصاد والامن والاجتماع السوري. لم يكن هناك بديل آخر، وكان الانطباع الشعبي، ولا يزال، هو أن بشار الأسد خان الأمانة، ولم يسلم السلطة لأحد..لأنه فعلا، أراد ان يسلمها الى الهيئة حصراً.
ولا يوصف ما جرى في دمشق في الأيام العشرة الماضية، سوى أنه عملية تسليم وتسلم، سلمية وهادئة ومنظمة، بين النظام وبين الهيئة. وبدا أن الموالين السابقين، كانوا يحذون حذو رئيسهم الفار، ويلتزمون عملياً بآخر أوامره وتوجيهاته، في ما خص نقل السلطة الى الهيئة..في خطوة تشي بأنه كان في فراره المشين، ينتقم من الجيش الذي خذله، ومن المجتمع الذي أنفض عنه. وفي ذلك الخيار ما يبعث فكرة "حرق البلد"، التي لطالما لوح بها نظامه طوال السنوات ال24 الماضية.
لم يكن بشار ينجو بنفسه من المحرقة، بل كان على الأرجح يفتعل حريقاً لن تستطيع سوريا ان تتجنبه إلا بمعجزة. وهذا ليس تقديراً فقط، بل هو في الغالب ميراث أخير من الرئيس الذي لم يعرف عنه، أنه، وحسب علماء وأطباء، كان مصاباً بانفصام الشخصية ( الشيزوفرينيا)، حتى في مستهل رئاسته، مرورا بجميع المحطات الحرجة من حكمه، التي كان يثبت فيها أنه يعيش في عزلة عن الواقع.
أثبت الشعب السوري حتى الأن، أنه لن يعمل بوصية بشار ولن يستجيب لنصيحته. حرق البلد عمل انتحاري مناقض للطبيعة البشرية، والتعاليم الدينية، وهو أيضا خيار سياسي فات أوانه، ولم يعد يخدم أي هدف، لا في السلطة ولا خارجها.. ولا يستجيب لأي نداء يمكن أن يأتي من خارج الحدود السورية، حيث ينفتح نقاش بين تركيا وبين العرب والغرب، حول سبل حفظ الاستقرار الداخلي والوحدة الوطنية..وبناء الدولة الجديدة، ومؤسساتها.
وفي هذا السياق، تستفيد الهيئة، حتى الآن من حقيقة أنها النقيض الفعلي الأقوى والأوحد للنظام المخلوع، الذي ستظل موروثاته شاهداً على أسوأ ما أنتجته سوريا (وبقية الدول العربية، والعالم الثالث) في تاريخها، من سلطة همجية قد يحتاج السوريون الى خمسة عقود جديدة للتخلص من آثارها وعواقبها.
لكن الاعتماد على تلك الصفة الحصرية، أي النقيض للاسدية، لا يخدم طويلاً، ولا ينتظر ثلاثة أشهر، هي عمر الفترة الانتقالية المحددة، وهي أقرب حتى الآن، الى الفراغ الذي يمكن أن يسده آخرون، من داخل السلطة الراهنة، ومن محيطها، قبل خصومها.. تحت الذريعة نفسها التي توفرها الهيئة نفسها، وهي أسلمة سوريا التي تمضي على قدم وساق، ومن المرجح أن تصطدم بقوى تقف على يمين الهيئة، وعلى يسارها ايضاً، حتى قبل ان تبدأ عملية صياغة الدستورالجديد، المؤجلة الى ما بعد شهر آذار المقبل.
تهمة "الاقصاء" التي سارع الائتلاف السوري المعارض الى توجيهها للهيئة، تحدثت بلسان قوى سياسية واجتماعية متعددة، ما زالت تنتظر دعوة من الهيئة للاجتماع، الملحّ فعلا، والبحث في تشكيل المؤتمر( أو المجلس) الوطني من ممثلي مختلف المحافظات والانتماءات السورية المتعددة، باعتبارها خطوة ضرورية لا تحتمل التأجيل لتحديد خطوات ومهل زمنية لتنظيم هيكل الدولة، من دون ربطها بمسألة رفع العقوبات الدولية عن الهيئة، أو عودة النازحين السوريين من الخارج، وهو ما كان رد الغرب عليها سلبياً..بإعتبار ان الشرعية تكتسب من الداخل السوري أولاً، وفي ضوء عملية أسلمة سوريا وحدّها الأقصى.
--------
المدن