(الدكتور...زميلنا في الكلية، من جماعتنا، لا علاقة له بالإسلاميين أو بالمعارضة، يحب الرئيس أكثر مما يحب زوجته، يعده طلابه مربياً كبيراً "طبعاً لا يعرفون صولاته وجولاته" يحبُّ النسوان خارج العلاقات الرسمية، - يبتسم ابتسامة خبيثة ويغمز بعينيه- أفضل مشروب عنده الويسكي، لعيب طرنيب من طراز فريد. كان طموحه أن يصبح صهرنا، أحبَّ صبية من جبلة لكن أهلها لم يوافقوا).
يكشف التعريف السابق عن صفات ذلك الأستاذ الجامعي /المواطن الصالح/ في العقل المخابراتي في سوريا، وعن أفضل صفاته:
شخص ليس لديه ثوابت، ليس لديه إيديولوجية إسلامية تدفعه ليكون محافظاً على منظومة ما، ولاء أعمى لصاحب السلطة، لا يحبذ الحياة الأسرية وميال لعدم الالتزام بالثوابت، كاسراً لصورة "السوري الآخر" عند الطائفة الحاكمة، ليس لديه وعي سياسي ليفكر خارج صندوق السلطة!
أما ما يجعل كلام زميلنا عند المخابرات مسموعاً كونه من نفس طائفة معظم ضباط المخابرات. يعطي معظم محاضراته زملاء نيابة عنه. لديه منصب مرموق في الدولة. لديه أموال طائلة جناها من مناصب خارج البلد لذلك يكثر من الولائم. شقيقه ضابط مخابرات كبير.
أما لماذا يقوم زميلنا بخدمتنا عند فروع المخابرات فيعود إلى: تثبيت حضوره وهيبته. تقديم صورة إيجابية عن المخابرات ونظام الحكم. كسب المزيد من المثقفين "يعدون كل أستاذ جامعي مثقفاً والواقع ليس كذلك. يحب أن "يعلِّم" علينا لنصبح من دائرة الممتنين له.
وساطاته أقرب ما تكون إلى ترويض روح التمرد في شخصية الأستاذ الجامعي، وجعله كائناً ممتناً للسلطة ومسبحاً بحمدها، وإعادته إلى مربع المطبلين إنْ فكر، مرة، بمغادرته.
الوساطات التي لها علاقة بالمعارضة والاعتقال لا يقبل الاستماع إليها، ويرفضها رفضاً قاطعاً لأنه يكرر: المواطن الصالح هو المواطن الذي يكون ضد المعارضة. وضد كل من يعمل بالسياسة خارج حزب البعث العربي الاشتراكي!
لا يكاد يوجد مواطن سوري إلا وله حكاية ما مع المخابرات، مباشرة أو من خلال أقاربه أو شبكة معارفه
الوساطات التي يقوم بتلبيتها زميلنا، محورها: تسريع الموافقة الأمنية لمتقدم إلى وظيفة. راغب بافتتاح محل. موافقة سفر. الإفراج عن معتقل نتيجة خلاف مع شخصية مدنية. حماية مشروع تجاري من متسلطين لا يتبعون للمخابرات. قريبٌ يبحث منصب. استثناء. ضحية تقرير أمني ملفق!
الحديث عن المخابرات بين السوريين حديث ساخن دائماً، لأنها في حالة تماس بحياة المواطنين بل تحدد مسار الكثير من تفاصيلهم، ولا يكاد يوجد مواطن سوري إلا وله حكاية ما مع المخابرات، مباشرة أو من خلال أقاربه أو شبكة معارفه. ولكون تلك الأجهزة هي التي تحتك بالمواطنين السوريين وتعتقلهم أو تقتلهم أو تدير شؤونهم؛ فإن الفرصة كبيرة لتعميق ارتباط هذا الجهاز بالفساد والقمع والقتل ومنع الحريات والاعتداء والتعذيب، واستعمال السلطة غير المحددة.
عناصر المخابرات هم سوريون اختاروا الانتساب إلى هذا الجهاز (العسكرية والجوية والسياسية وأمن الدولة) "في طور إعادة الدمج حالياً!"، ويزيد عدد أفراد المخابرات عن 120 ألفاً، فهل من المعقول ألا يكون بين هذا العدد إلا المتوحشون والقتلة وعديمو الضمير!
قبل ذلك: ما الذي يجعل مواطناً سورياً ينتسب إلى هذا الجهاز؟
في الإجابة يمكن القول: السلطة غير المحدودة، والوصول إلى الثراء السريع بأقصر الطرق، والفشل في جوانب حياتية أخرى، والغيرة من السابقين أو أبناء الجيل، والشعور بالتميز والحماية، وحاجة الناس إليك، والحصول على الحقوق الطبيعية للمواطن في البلدان الطبيعية. وهناك دوافع أخرى مسكوت عنها من مثل: حماية الحكم والطائفة والشعور بعبودية الولاء المطلق للسلطة الحاكمة!
وما يعطي الحديث عن المخابرات هذه الأيام دفعة سخونة جديدة هو مقاربة الدراما التي ينتجها النظام السوري أو سواه من شركات إنتاج عربية تعلم أن هذا النوع من الدراما يحقق مشاهدات عالية.
وتتعدد الآراء بين شريحة المعارضين السوريين من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال فيما يعرض من مسلسلات هذا العام، تصل أحياناً إلى تبادل الاتهامات والتخوين والعدمية التي تساعد عليها لحظة اليأس السورية الحالية وانغلاق آفاق الحل.
خاصة أن هناك عدداً من المسلسلات تقدم جوانب من عمل المخابرات وتحاول إظهار حفنة من الخلافات بين عناصرها وتبييض صفحتها بالقول: إن هناك عنصر مخابرات شريفا ومحترما ومهنيا، وآخر لصاً ونصابا ومرتزقا وبلا أخلاق!
من الصعب أن يتصور معظم السوريين وجود "مهنية أو جوانب أخلاقية" في عمل المخابرات، نظراً لتاريخ هذه الأجهزة وذاكرة السوريين معها.
أما عن وجود شخصيات إيجابية تعمل في المخابرات وتساعد الناس أو تحاول أن ترفع الظلم فلن يعدل الكفة، على الرغم من أن عدداً منهم انشق عن المخابرات بعد بدء ثورة 2011 وانحاز إلى خياراتها، ليظهر السؤال المكرر: هل تجبُّ الثورة ما قبلها؟ وما حدود هذا الذي "تجبه" الثورة؟
سوريون كثيرون تساءلوا بحدّة: لو كنت محترماً، أساساً؛ هل كنت ستعمل في المخابرات؟ ألم تجد ميداناً آخر أقل أذى للناس وأكثر سمعة حسنة من المخابرات لتعمل فيه؟
ولن يستمعوا لمن يقول: عملنا في المخابرات لأننا مصابون باللوثة السورية ولعله ليس من الأفضل ترك ميادين الحياة العامة السورية للسيئين والحاقدين والطائفيين. ألم يخفف وجود "المحترمين" في المخابرات من الأذى عن عدد من السوريين؟ ألم يساعدوا أحداً؟ ألا تعرف قصة نبيلة عن عاملين بالمخابرات؟ هل المشهد كله أسود؟
لا تغيب المخابرات عن كل التفاصيل السورية، ولا يكاد يوجد مواطن سوري، عمل في التجارة أو الصناعة أو الاستثمارات الكبيرة، إلا وله "سند مخابراتي"!
وغالبية من عمل في منصب قيادي في جهاز الدولة السورية له علاقة قوية بالمخابرات شاء أم أبى! عبر مستويات عدة، ليس من الضروري أن يمر بها الجميع:
- الدراسات الأمنية السابقة لاستلامه المنصب وهي تتراوح من دراسة إلى استئناس إلى موافقة شفوية!
- تواصل المخابرات مع صاحب المنصب لوساطات محددة، أو تواصله هو معهم من أجل وساطات محددة لشبكة معارفه.
- تقييمهم للعمل الذي يديره واطلاعهم على تفاصيله كي يتجنب أذاهم، أو لإثبات جودة العمل وأنه من "سماع الكلمة" في إشارة إلى أنه يستحق منصباً أعلى!
- استباق تقارير المخبرين من الموظفين أو قطع الطريق عليهم في استئناس مبطن، استشاري، في إشارة إلى أنهم يعرفون تفاصيل التفاصيل، أكثر من المدير ذاته ربما.
إضافة إلى ما سبق فإن المخابرات السورية تشكل جزءاً من فضاء العلاقات العامة والدعوات والولائم والتواصل والمناسبات في الأفراح والعزاء. أي إنهم بمعنى أو بآخر جزء من النسيج الاجتماعي السوري، وإن كانت طبقتهم الاجتماعية مختلفة ولها سماتها ومحدداتها!
مرَّ معنا شخصيات عدة تعرضت لمظلمة كبيرة، ولم يرفع الظلم عنها إلا التدخل المخابراتي، الناجم عن واسطة كبيرة، أو دفع نقود لجهات مخابراتية نافذة
هل مر معنا نحن الذين عملنا في أجهزة الدولة السورية عاملون في المخابرات محترمون وأصحاب قيم ويساعدون الناس دون البحث عن ثمن؟
الإجابة نعم! لكنهم نفر قليل، وعملهم في هذا الجهاز ذي السمعة القذرة يجعل من كل عامل فيه في موقع اتهام وإساءة!
بل مرَّ معنا شخصيات عدة تعرضت لمظلمة كبيرة، ولم يرفع الظلم عنها إلا التدخل المخابراتي، الناجم عن واسطة كبيرة، أو دفع نقود لجهات مخابراتية نافذة.
في إطار الحديث عن صورة المخابرات في الدراما التلفزيونية، لا بد من الانتباه إلى أن المفاضلة وتعداد السلبيات والإيجابيات ليست مثل المفاضلة العادية أخلاقياً: هذا إنسان نبيل ومحترم ويساعد الناس ولا يعتدي عليهم.... والآخر: ليس لديه ضوابط أخلاقية ومعتد وصفيق ومرتش...!
المقارنة بين رجل مخابرات محترم ومهني، وآخر قذر ومرتش ومجرم تكون:
- هذا لا يسرق مباشرة. بل يميل للحصول على مناقصة من دائرة حكومية!
- هذا لا يفرض قريبه في برنامج تلفزيوني. بل يدعو المدير على العشاء!
- هذا يحصل على استثناء لإدخال ابنه في فرع جامعي. وآخر يلجأ للتزوير!
- هذا يستثمر في الأراضي الزراعية. وهذا يعمل في العقارات ثم يبيعها!
- هذا لا يرتشي من الفقراء، بل من الأغنياء فحسب، إذ يحميهم من مصلحة الضرائب ويساعد في إدخال بضاعة غير مطابقة للمواصفات عبر الحدود أو بضاعة مهربة!
تختلف زيارة فرع مخابراتي تبعاً لاختلاف موقع الشخص ذاته: هل هو ذاهب للتحقيق؟ أم أنه ذاهب لزيارة قريب أو صديق يعمل هناك؟ هل لدى الزائر طموح مناصبي؟ هل سبق أن اكتوى بنارهم؟ هل لأحد من عائلته تاريخ اعتقالي مع المخابرات؟
الكثير من السوريين حسبوا حتى ثورة عام 2011 أن المخابرات السورية هي الأبشع والأكثر ظلماً وعنفاً وعنجهية واضطهاداً! غير أن ظهور مجموعات شبيحة طائفية مارست كل أنواع العنف ضد شريحة من السوريين جعلت المتابعين يؤكدون قناعتهم تلك ويتساءلون عن حدود القعر اللاأخلاقي!
يحدثني صديق أن رئيس أحد الأجهزة الأمنية في سوريا سأله عام 2011: ما وجهة نظرك كجامعي وأكاديمي فيما يطرح حول المخابرات؟
قل رأيك وعليك الأمان!
أجابه زميلنا بعد تردد: لا حلّ لهذا الجهاز إلا بحله كاملاً، وتأسيس جهاز جديد وفق قيم ومعايير مهنية مختلفة!
في اليوم التالي جاءت نصيحة لهذا الزميل من الزميل الذي أشرنا إليه أول هذه المقالة: اللجوءُ خيارٌ جيد لك! نحن سنزوِّدك بالموافقات الإدارية اللازمة وهذا "ما كان، وكان ياما كان..."!
----------
تلفزيون سوريا