من المعروف أيضا أن وقائع هروب الكاتب والمؤرخ الإسباني التسعيني، تم تحويلها إلى عمل سينمائي عام 1998 من إخراج فرناندو كولومو تحت عنوان "السنوات المتوحشة". وبعد كل هذه السنوات يجلس البورنوث في منزله الريفي بقرية أبيلا التي اعتاد تمضية شهور الصيف بها، ليستعيد ذكرى ما حدث.
في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) يقول الكاتب الإسباني "على عكس معسكرات الاعتقال النازي في ألمانيا، لم تكن تحيط بوادي الشهداء لا أسوار أو حتى أسلاك شائكة... في إسبانيا لم يكن هذا ضروريا، لأن البلد بالكامل كان بمثابة سجن كبير. وكل من كان يحاول الهرب، سرعان ما كان يقبض عليه، لم ينجح في الهرب من هذا الجحيم سواي أنا وأحد رفاقي".
وكان البورنوث (مدريد 1926) قد ألقي القبض عليه عام 1947 مع اثنين من رفاقه الجامعيين، لانتمائهم إلى جماعة سرية، وبعد أقل من عام في المعتقل، نقلوا إلى موقع وادي الشهداء، شمال مدريد، حيث أرغم المعتقلون من أنصار الجمهورية على العمل بالسخرة في تشييد أحد أشهر رموز فرانكو، والذي أطلق عليهم زورا "الحمر" أو "الشيوعيون"، لأنه تاريخيا كان زعيم حكومة الجمهورية مانويل أثانيا المنتخب 1931 من الحزب الشعبي اليميني المحافظ.
حالف الحظ البورنوث فقد تم اعفاؤه من العمل في رفع الأحجار، نظرا لحاجة القوة المسيطرة على الموقع لعامل آلة كاتبة، بسبب رحيل العامل السابق، ولما رأوا أنه طالب يجيد القراءة والكتابة وتحرير المكاتبات على الماكينة، أسندوا إليه هذه المهمة، أما رفاقه فيروي الكاتب الإسباني "لم يحالفهما الحظ مثلي. مانويل لامانا، واجناثيو فاوري أجبرا بمجرد وصولهما على العمل في تقطيع ورفع الأحجار، حيث كان اجناثيو يدرس الهندسة المعمارية". كما يعلق ساخرا "اعتقد أنه كان الشخص المناسب في المكان المناسب، وقد استفاد كثيرا من الدراسة في هذا التدريب العملي".
بمرور الوقت تحول موقع وادي الشهداء إلى قبر جماعي، من كثرة سقوط ضحايا السخرة تحت وطأة التعذيب أو من قسوة الأوضاع، ويقال أن أكثر من 33 ألف جثة دفنت بالوادي غالبيتهم من المعتقلين الجمهوريين. حسب رواية البورنوث، "كان العمل يبدأ مع شروق الشمس، ولم يكن يقدم للعمال أكثر من طبق حساء خضار الشيكوريا (نوع من الخس) وقطعة خبز جاف". ويضيف "لم يتوقف الأمر على هذا، بل كان السجناء يجبرون على الاصطفاف في طوابير كل ثلاث ساعات. وظل الحال على هذا المنوال، طيلة أيام الأسبوع، ما عدا الأحد، الذي كان مخصصا للراحة والزيارات".
استغل البورنوث وزميله في المعتقل لامنا عطلة صباح يوم أحد عندما كانت تخف حدة الرقابة ولم تكن هناك دوريات إحصاء لأعداد المساجين، وشرعا في الهروب، بمساعدة المنظمة الطلابية السرية التي كانا ينتميان إليها، ودعم بعض الزملاء في المنفى من باريس، ومن بينهم عالم الأنثربولوجيا باكو بينيت، شقيق الروائي الإسباني خوان بينيت.
انطلق الهاربان عبر الدروب الجبلية الوعرة، إلى أن وصلا إلى دير الاسكوريال، على مسافة 15 كيلومترا من وادي الشهداء، حيث كان في انتظارهما فتاتان شابتان أميريكيتان في سيارة رينو. عندما صدر الأمر للسلطات بضبط وإحضار الهاربين، كانا في طريقهما بالفعل إلى برشلونة مع باربرا ماير وباربرا بروبشت. يوضح البورنوث دون أن يتمكن من السيطرة على ابتسامته "أحضرا معهما ثياب جديدة لنا. وفي منتصف الطريق، اختبأنا خلف دغل كثيف واستبدلنا ثياب السجن بالثياب الجديدة، فأصبحنا نبدو بالمظهر اللائق لشابين يرافقان سائحتين أميركيتين".
على الرغم من وصول الشابين الفارين بسلام إلى فرنسا، لم تخل رحلة الهروب من مصاعب، فقد تعطلت السيارة في منتصف الطريق، فوصلوا متأخرين إلى برشلونة، والمرشد الذي اتفقت معه الجمعية السرية لمرافقتهما عبر جبال البرانس لتجاوز الحدود الإسبانية الفرنسية، رحل وتركهما، وخوفا من بقائهما لمدة أطول في برشلونة بدون ملاذ آمن قررا المجازفة بعبور الحدود معتمدين على أنفسهما، استغرقت الرحلة ثلاثة أيام من المعاناة والصراع الحقيقي للبقاء على قيد الحياة. يقول البورنوث "مضينا بدون بوصلة أو أي شئ على الإطلاق. ولما كانت الشمس تتوارى خلف ستار من السحب، ضللنا الطريق أكثر من مرة، إلى أن عادت للشروق مرة أخرى في اليوم الثالث. فقلنا، لن يحدث لنا أسوأ مما مررنا به، فقررنا المصير بتصميم على بلوغ باريس". المؤلم أن بطل رحلة الهروب قطع هذه المسافة كلها على قدميه بكاحل مكسور.
منهكان من التعب والجوع والبرد، وصل الرفيقان الهاربان إلى فالسبويري، إحدى بلدات البرانس الشرقية، جنوب فرنسا، حيث التقيا هناك ببعض المعارف المنفيين، ساعدوهما على السفر إلى باريس، لتنتهي بذلك واحدة من أكثر القصص الدرامية المأسوية عن المعاناة من الهروب والملاحقة والسخرة والتعذيب في تاريخ إسبانيا الأسود في ظل الحقبة الفرنكوية.
ولعل الفرار من معتقل وادي الشهداء يعد أحد الفصول المذهلة في مسيرة حياة الكاتب والمؤرخ الإسباني، إلا أنه ليس نهاية المآسي في حياته، فبعد وصوله إلى باريس، رحل إلى الأرجنتين، من أجل لم الشمل مع أسرته، حيث التقى بوالده كلاوديو سانشيث البورنوث، والذي نصب رئيسا للجمهورية الإسبانية في المنفى خلال عقد الستينيات. وفي الأرجنتين درس التاريخ، وألقى محاضرات بجامعات بوينوس أيرس والروساريو ولابلاتا. وما لبث الحكم القمعي الشمولي أن حل بالأرجنتين بفعل انقلاب عسكري، ليبدأ البورنوث فصل جديد على طريق المنافي التي مر بها، كانت نيويورك المحطة الجديدة على هذا المسار، مما أتاح له الفرصة لمواصلة دراساته وأبحاثه الأكاديمية.
في 1976، بعد عام من وفاة فرانكو، عاد البورنوث لأول مرة إلى وطنه إسبانيا، بعد "أوديسا نفي" رهيبة، بدأت من وادي الشهداء، لتأخذه عبر جبال البرانس إلى باريس ومنها إلى الأرجنتين، ثم إلى أقصى غرب الكرة الأرضية في الولايات المتحدة. وظل يتردد على إسبانيا حتى عام 1991، حينما قرر في النهاية الاستقرار في مسقط رأسه، وعين أول مدير لمعهد ثربانتس عند إنشائه، وكان من قبل يعرف بالمركز الثقافي الإسباني.
بالرغم من تقاعده، لا يزال البورنوث يتابع تطورات الوضع السياسي في إسبانيا من منتجعه الريفي في أبيلا برفقة كلاب الماستين الضخمة التي تمددت في تكاسل مستمتعة بشمس الريف الدافئة، حيث يقرأ ويستجم، ويعقد المقابلات الصحفية. يحمل أحد كتبه عنوان "سجون ومنافي"، وهو عنوان ينطبق على مرحلة طويلة ومهمة من حياته، ولكنه لا يشعر نحوها بالأسى، بل بالفخر والاعتزاز، حيث يقول "اعتقد انني فعلت الصواب في حياتي، منذ شبابي حين رفضت الفرنكوية، وحين فررت من قمعها والامتثال لأحكام السجن الصادرة منها".
في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) يقول الكاتب الإسباني "على عكس معسكرات الاعتقال النازي في ألمانيا، لم تكن تحيط بوادي الشهداء لا أسوار أو حتى أسلاك شائكة... في إسبانيا لم يكن هذا ضروريا، لأن البلد بالكامل كان بمثابة سجن كبير. وكل من كان يحاول الهرب، سرعان ما كان يقبض عليه، لم ينجح في الهرب من هذا الجحيم سواي أنا وأحد رفاقي".
وكان البورنوث (مدريد 1926) قد ألقي القبض عليه عام 1947 مع اثنين من رفاقه الجامعيين، لانتمائهم إلى جماعة سرية، وبعد أقل من عام في المعتقل، نقلوا إلى موقع وادي الشهداء، شمال مدريد، حيث أرغم المعتقلون من أنصار الجمهورية على العمل بالسخرة في تشييد أحد أشهر رموز فرانكو، والذي أطلق عليهم زورا "الحمر" أو "الشيوعيون"، لأنه تاريخيا كان زعيم حكومة الجمهورية مانويل أثانيا المنتخب 1931 من الحزب الشعبي اليميني المحافظ.
حالف الحظ البورنوث فقد تم اعفاؤه من العمل في رفع الأحجار، نظرا لحاجة القوة المسيطرة على الموقع لعامل آلة كاتبة، بسبب رحيل العامل السابق، ولما رأوا أنه طالب يجيد القراءة والكتابة وتحرير المكاتبات على الماكينة، أسندوا إليه هذه المهمة، أما رفاقه فيروي الكاتب الإسباني "لم يحالفهما الحظ مثلي. مانويل لامانا، واجناثيو فاوري أجبرا بمجرد وصولهما على العمل في تقطيع ورفع الأحجار، حيث كان اجناثيو يدرس الهندسة المعمارية". كما يعلق ساخرا "اعتقد أنه كان الشخص المناسب في المكان المناسب، وقد استفاد كثيرا من الدراسة في هذا التدريب العملي".
بمرور الوقت تحول موقع وادي الشهداء إلى قبر جماعي، من كثرة سقوط ضحايا السخرة تحت وطأة التعذيب أو من قسوة الأوضاع، ويقال أن أكثر من 33 ألف جثة دفنت بالوادي غالبيتهم من المعتقلين الجمهوريين. حسب رواية البورنوث، "كان العمل يبدأ مع شروق الشمس، ولم يكن يقدم للعمال أكثر من طبق حساء خضار الشيكوريا (نوع من الخس) وقطعة خبز جاف". ويضيف "لم يتوقف الأمر على هذا، بل كان السجناء يجبرون على الاصطفاف في طوابير كل ثلاث ساعات. وظل الحال على هذا المنوال، طيلة أيام الأسبوع، ما عدا الأحد، الذي كان مخصصا للراحة والزيارات".
استغل البورنوث وزميله في المعتقل لامنا عطلة صباح يوم أحد عندما كانت تخف حدة الرقابة ولم تكن هناك دوريات إحصاء لأعداد المساجين، وشرعا في الهروب، بمساعدة المنظمة الطلابية السرية التي كانا ينتميان إليها، ودعم بعض الزملاء في المنفى من باريس، ومن بينهم عالم الأنثربولوجيا باكو بينيت، شقيق الروائي الإسباني خوان بينيت.
انطلق الهاربان عبر الدروب الجبلية الوعرة، إلى أن وصلا إلى دير الاسكوريال، على مسافة 15 كيلومترا من وادي الشهداء، حيث كان في انتظارهما فتاتان شابتان أميريكيتان في سيارة رينو. عندما صدر الأمر للسلطات بضبط وإحضار الهاربين، كانا في طريقهما بالفعل إلى برشلونة مع باربرا ماير وباربرا بروبشت. يوضح البورنوث دون أن يتمكن من السيطرة على ابتسامته "أحضرا معهما ثياب جديدة لنا. وفي منتصف الطريق، اختبأنا خلف دغل كثيف واستبدلنا ثياب السجن بالثياب الجديدة، فأصبحنا نبدو بالمظهر اللائق لشابين يرافقان سائحتين أميركيتين".
على الرغم من وصول الشابين الفارين بسلام إلى فرنسا، لم تخل رحلة الهروب من مصاعب، فقد تعطلت السيارة في منتصف الطريق، فوصلوا متأخرين إلى برشلونة، والمرشد الذي اتفقت معه الجمعية السرية لمرافقتهما عبر جبال البرانس لتجاوز الحدود الإسبانية الفرنسية، رحل وتركهما، وخوفا من بقائهما لمدة أطول في برشلونة بدون ملاذ آمن قررا المجازفة بعبور الحدود معتمدين على أنفسهما، استغرقت الرحلة ثلاثة أيام من المعاناة والصراع الحقيقي للبقاء على قيد الحياة. يقول البورنوث "مضينا بدون بوصلة أو أي شئ على الإطلاق. ولما كانت الشمس تتوارى خلف ستار من السحب، ضللنا الطريق أكثر من مرة، إلى أن عادت للشروق مرة أخرى في اليوم الثالث. فقلنا، لن يحدث لنا أسوأ مما مررنا به، فقررنا المصير بتصميم على بلوغ باريس". المؤلم أن بطل رحلة الهروب قطع هذه المسافة كلها على قدميه بكاحل مكسور.
منهكان من التعب والجوع والبرد، وصل الرفيقان الهاربان إلى فالسبويري، إحدى بلدات البرانس الشرقية، جنوب فرنسا، حيث التقيا هناك ببعض المعارف المنفيين، ساعدوهما على السفر إلى باريس، لتنتهي بذلك واحدة من أكثر القصص الدرامية المأسوية عن المعاناة من الهروب والملاحقة والسخرة والتعذيب في تاريخ إسبانيا الأسود في ظل الحقبة الفرنكوية.
ولعل الفرار من معتقل وادي الشهداء يعد أحد الفصول المذهلة في مسيرة حياة الكاتب والمؤرخ الإسباني، إلا أنه ليس نهاية المآسي في حياته، فبعد وصوله إلى باريس، رحل إلى الأرجنتين، من أجل لم الشمل مع أسرته، حيث التقى بوالده كلاوديو سانشيث البورنوث، والذي نصب رئيسا للجمهورية الإسبانية في المنفى خلال عقد الستينيات. وفي الأرجنتين درس التاريخ، وألقى محاضرات بجامعات بوينوس أيرس والروساريو ولابلاتا. وما لبث الحكم القمعي الشمولي أن حل بالأرجنتين بفعل انقلاب عسكري، ليبدأ البورنوث فصل جديد على طريق المنافي التي مر بها، كانت نيويورك المحطة الجديدة على هذا المسار، مما أتاح له الفرصة لمواصلة دراساته وأبحاثه الأكاديمية.
في 1976، بعد عام من وفاة فرانكو، عاد البورنوث لأول مرة إلى وطنه إسبانيا، بعد "أوديسا نفي" رهيبة، بدأت من وادي الشهداء، لتأخذه عبر جبال البرانس إلى باريس ومنها إلى الأرجنتين، ثم إلى أقصى غرب الكرة الأرضية في الولايات المتحدة. وظل يتردد على إسبانيا حتى عام 1991، حينما قرر في النهاية الاستقرار في مسقط رأسه، وعين أول مدير لمعهد ثربانتس عند إنشائه، وكان من قبل يعرف بالمركز الثقافي الإسباني.
بالرغم من تقاعده، لا يزال البورنوث يتابع تطورات الوضع السياسي في إسبانيا من منتجعه الريفي في أبيلا برفقة كلاب الماستين الضخمة التي تمددت في تكاسل مستمتعة بشمس الريف الدافئة، حيث يقرأ ويستجم، ويعقد المقابلات الصحفية. يحمل أحد كتبه عنوان "سجون ومنافي"، وهو عنوان ينطبق على مرحلة طويلة ومهمة من حياته، ولكنه لا يشعر نحوها بالأسى، بل بالفخر والاعتزاز، حيث يقول "اعتقد انني فعلت الصواب في حياتي، منذ شبابي حين رفضت الفرنكوية، وحين فررت من قمعها والامتثال لأحكام السجن الصادرة منها".