وعن العدالة وعفويته ومواضيع راهنة تتعلق بمواقفه كان لجريدة “ليفانت” حديث معه , حديث سوري بامتياز.
رغم مواقفك المبدئية المعروفة، تعرّضت في الآونة الأخيرة لحملة انتقادات واسعة على خلفية منشور لك على وسائل التواصل الاجتماعي، هل تعتقد انك مستهدف شخصياً؟
لا أعتقد أن الاستهداف موجه لي شخصياً، وإنما هو من رواسب الديكتاتورية العميقة في الحالة السورية التي مارسها النظام، كما يمارسها بعض من يقفون في الموقف المعارض نتيجة ردود أفعالهم السريعة، أو الطابع الإقصائي لمنبتهم الإيديولوجي.
وفق هذه الرؤية ترى أن من المهم هو طريقة تفكير المعارض وليس الخندق الذي يتموضع فيه؟ ألا يتقاطع ذلك مع النظرية الثقافوّية التي يروّجها النظام باعتبار ثقافة المجتمع هي الإشكالية الرئيسية وليس الاستبداد.
بالطبع، مهم الخندق الذي يتموضع فيه السوري، فموقفه من النظام هو الأساس الإنساني والأخلاقي الحامل لمفهوميّ الحرية والكرامة، ولكنه أيضاً غير كاف، لأن وقوفك في وجه ظالم يحتم عليك أن تحمل قيم العدالة والمساواة، وإلا تحولت في حالة انتصارك اللاحق إلى ظالم بديل، ونحن نسعى إلى إزاحة المستبد، كما نسعى في الوقت ذاته إزاحة مفاهيم الاستبداد والأفكار الموّلدة لها، فيما يسعى النظام إلى تحميل الشعب مسؤولية التخلف والاستبداد، كما يحمّل الإسلام السياسي مسؤولية التخلف للشعوب لإبتعادها عن الدين.
يحيل البعض مواقفك إلى كونك تنتمي فيزيائياً إلى الأقليات، وبالتالي قصورك في رؤية اللوحة بوضوح.
يشجع النظام هذا الفرز، ويلعب على تناقضاته، وهو من أسس له ليسهل عليه تفريق الشعب السوري وإحكام القبضة عليه، فيما اللوحة الوحيدة التي أراها هي وحدة الشعب السوري بكل أطيافه وتكويناته، والفرز الوحيد الذي يمكنني الحديث عنه بين السوريين هو الفرز بين أنصار الحرية والعدالة وبين أنصار الاستبداد والإجرام، وهو ما تعبّر عنه ” ناجون”.
يسعى فارس مع رفاقه في “ناجون” إلى مواكبة أخبار كل من الفنانين والكتّاب والحقوقيين والناجين السوريين، والتأكيد على ملاحقة المجرمين، بقوله: “سنلاحق المجرمين، أفراداً ومنظمات ودولاً، ممّن ارتكبوا جرائم بحق السوريين حتى أولئك المجرمين الذين في القبور”.
هو يحاول في “ناجون” ملاحقة أحلام السوريين وتحويلها إلى أعمال إبداعية، ومنذ فترة قريبة أنجز “الناجون” فكرة مشروع إقامة نصب برونزي كبير للمعري، ليبقى معروضاً في إحدى المدن الأوروبية ريثما يحل السلام في سوريا، السلام القائم على محاكمة كل مجرمي الحرب وضد الإنسانية. ليعاد بعدها الى موطنه في المعرة.
تعاقد فارس وعاصم على إنجاز المشروع، فارس يرى في عاصم أحد الناجين من المعتقلات السورية، فقد نجا عاصم بنفسه في الثمانينات إلى غرناطة الإسبانية، ثم عاد إلى سوريا ليكون حاضراً في اللوحة السورية، ولكنه اعتقل كما اعتقل شقيقه، هو لساعات بينما قضى شقيقه تحت التعذيب في معتقلات الأسد، بالتزامن مع فقدانه 40 عاماً من إنتاجه الفني في مدينته يبرود التي سيطر عليها النظام وميليشياته. وأنجز المشروع بعد مساهمات تمت من 214 مساهماً، أرسلت لهم تقارير خاصة بسير المشروع.
وفي رده على سبب اختيار المعرّي رمزاً، أجاب الفنان الحلو: “تم اختيار المعرّي لأنه رمز لتلك العدالة والحرية، ولأنه ثورة يتيمة في عصره على مفاهيم الاستبداد، وخير مثال لكرامة المثقّف الذي لم يرتهن لأي سلطة سياسية أو دينية”.
وبحسب الحلو: “المعرّي هنا، هو ناج مثلنا، أحييناه بمالنا وجهدنا كأفراد سوريين، اعتمدنا على طاقاتنا وأنفسنا، ولا ننكر أن الظلاميين بتحطيمهم لتمثال المعرّي في معرة النعمان، لفتوا نظرنا إلى مدى تقصيرنا الشديد بإعلاء شأن المعرّي، رمز العقل والشك، نقيض التسليم بالقدر”.
قام “الناجون” بنصب وعرض التمثال بشكل مؤقت في مدينة ملقا الإسبانية، وكتب عليه أنه مُهدى إلى (أرواح المعتقلين والمفقودين والذين قتلوا تحت التعذيب في المعتقلات السورية).
وليس العمل الثقافي والمجتمعي بجديد على الفنان فارس الحلو، فسبق له في سوريا رغم كل ظروف القمع والتضييق، أن يوسّع هوامشه موظفاً شهرته ومكانته الفنية لخلق حراك ثقافي فاعل، هدف منه كسر احتكار السلطة لمجال الأنشطة الفنية، كما هدف إلى رعاية واطلاق الطاقات الشابة، والطاقات الإبداعية المغيّبة عمداً عن الفعل، أو الاهتمام الرسمي.
فنظّم ملتقيات دولية للنحت والرسم في بلدته الصغيرة مشتى الحلو في محافظة طرطوس في الأعوام 2006 -2007-2008، وليبدأ بعدها بمشروعه البستان للثقافة والفنون في دمشق في بساتين أبو جرش 2008- 2009 -2011، ساعياً أن يكون ملاذاً فنياً وثقافياً لنشاط الفنانين الشباب السوريين الذين أغلقت الأبواب في وجوههم لأسباب غير فنية. بالإضافه إلى أعماله التلفزيونية والسينمائية والمسرحية المميّزة، والتي حاز من خلالها على العديد من الجوائز الدولية الهامة.
نشر الحلو منحوتاته الرخامية في بلدة مشتى الحلو، وجوارها، في الساحات ومفارق الطرق، لتكون صرخة للحب والجمال في إعلان صريح لبدء المعركة مع القبح.
أعلن بحنجرته تضامنه مع ثورة السوريين في آذار 2011، فأصبحت فرص نجاة البستان قليلة، خاصة مع علو صوت الحلو، فتوجهت معاول الهدم للمشروع وبدأت بتحطيمه على مدى يومين في محاولة لإرهابه وتهديده بالتوقف وإلّا!.
وفي عالم المأساة السورية الراهن، يحاول فارس أن يواكب تجمعات السوريين إلكترونياً وجغرافياً، يدافع عنهم، وعن آلامهم، وينجو بهم بطريقته، فتراه حاملاً صور السوريين من المعتقلين والشهداء في ساحات باريس، يرسل من خلالها رسائل النجاة، بأن سوريا هي بمن نجوا بأحلامهم وأفكارهم وأعمالهم.
لكن رغم ذلك تحاول بعض الشخصيات المنضوية تحت كتلٍ سياسية يمينية ويسارية تشويه صورة الحلو، وتأويله أفكاراً ليست لها علاقة بما يتبناه الحلو من إنسانية.
آخرها كانت تعليقات ومقالات مضادة من قبل جماعات من الإخوان المسلمين، شنّوا فيها هجوماً على منشورٍ للحلو، قال فيه: “كما سُحقت النازية، سيسحق السوريون الأحرار الفكر الإخواني والأسدي”، وجاء المنشور رداً على قتل السوريين على الحدود التركية وترحيلهم التعسفي إلى مكان خطر يجول ويصول فيه المجرم من دون أي ردع، في مخالفة صريحة للقانون الدولي مترافقة مع عجز الأطراف السياسية السورية وخاصة تنظيم الإخوان المُدلّل لدى السلطات التركية، على أخذ موقف أخلاقي تجاه ترحيل الشباب بشكل تعسفي عن تركيا.
ولم يخلُ منشور الحلو من رد ضمني على منشور آخر لعضو الإخوان المسلمين ملهم الدروبي الذي وقف إلى جانب الحكومة التركية بترحيل السوريين، عامداً إلى تحميل الضحايا السوريين مسؤولية مصائرهم، موبخاً إياهم بوصفهم أساؤوا الأدب.
هل ترى أن هجومك على الإخوان في هذه المرحلة يعد أمراً صائباً، وبالأخص أنك استخدمت مفردة “السحق” في منشورك؟
أكثر ما أثار البعض هو مفردة “السحق” في عبارتي: “سيسحق السوريون الأحرار الفكر الأسدي والأخواني”، حيث المفردة هنا شائعة سياسياً حتى ضمن الأدبيات الديمقراطية ونسمعها على الدوام ممثلة بعبارات مثل تلقى هزيمة ساحقة أو حاز انتصاراً ساحقاً، أو سحق الحزب الفلاني منافسيه بأغلبية الأصوات، فهل تسحق الأفكار بالدبابات والمدافع؟ أم تسحق بأفكار بديلة؟ أو حتى ضمن صناديق الاقتراع؟”.
ويكمل الحلو: “أما فكرياً، وهذا هو الأهم لديّ، فإن سحق الأفكار الظلامية والاستئصالية ذات التكوين الشمولي، يكون بنشر التنوير والأفكار المعاصرة القائمة على الحرية والديمقراطية والاعتراف بالآخر ضمن دولة المواطنة والقانون التي ثرنا من أجلها، دولة يتساوى فيها الجميع بعيداً عن انتماءاتهم الفكرية أو المذهبية أو العقائدية”.
وعن الردود العدائية، يقول الحلو: ” تشي بعض الردود التي ذهبت إلى حد معاداتي للإسلام وإصابتي بالإسلاموفوبيا، إلى تأكيد مقولتي ونظرتي إليها كأحزاب استئصالية فهي لا ترى في “الإخوان المسلمين” حزباً سياسياً، وإنما تراه “حزب الأمة” الوحيد وحامل عقيدتها المفترضة، وهي بذلك تحتكر التوصيف كما تحتكر الحقائق، فتماهي بين الحزب وبين الإسلام والمسلمين، ليصبح أي انتقاد للحزب كما لو أنه انتقاد للدين الإسلامي، كما أنها تتعامى عن التعددية الدينية والمذهبية القائمة في المجتمع السوري لصالح حضورها الأوحد”.
ويضيف: “هي بذلك تتقاطع مع الأسدية والبعثية في جوهرها القائم على الأحادية والحصرية، وتقدم لها أكبر الخدمات من حيث تدري ولا تدري، ومعارضتها في هذا السياق لا تتجاوز إزاحة الأسدية للحلول مكانها، كما تتقاطع، تماماً، مع التصريحات البوتينية التي تحاول تمويه احتلالها لسورية بعبارات صليبية كما في تصريح لافرنتيف قبل أيام القائل بحماية الروم الأرثوذكس في سوريا.
وينهي الحلو حديثه حول ذلك، بقوله: “نعم أكررها أنا مع سحق كل الأفكار الظلامية والاستبدادية الرامية إلى استعباد الإنسان وسلبه حقوقه الإنسانية والسياسية، ولكن بوسائل سياسية مشروعة، وضمن الأطر الديمقراطية، وهذه أحد الحقوق التي نثور ليحصل عليها الجميع” أنا وغيري على قدم المساواة”.
رغم الحروب العسكرية التي تدار في سوريا، والتي يشنّها النظام وميليشياته على الشعب السوري، بالتزامن مع تلك الحروب الإلكترونية التي تستهدف الناجون من المقصلة، يحاول فارس الحلو بأن يعيد كل مرة الدفة إلى مكانها الصحيح، مطالباً بالحرية والعدالة التي ستمنح كل السوريين حقوقهم المشروعة ضمن عملية ديمقراطية متساوية ومنصفة للجميع، ولكن بعد إقصاء كل من أجرم بحق الشعب السوري.