من مصلحة الساعين إلى الهيمنة أو التحكم، أن يكون الموالون لهم في الصدارة، حتى يضمنوا تأثيراً واسعاً لخطابهم
حافظ الأسد مع الروائي محمد إبراهيم العلي (يمين) ومع الشاعر نجم الدين الصالح والد الممثلة سوزان نجم الدين (يسار)
إن الالتفات إلى الثقافة باعتبارها أداة سيطرة، أو وسيلة للتمكين الاقتصادي والارتزاق من مؤسسات الدولة، أو حيازة السلطة والمكانة الاجتماعية، جعل الساعين إلى تحقيق هذه الأهداف معنيين كثيراً وعميقاُ بحصار كل ثقافة تعمل ضد ما يقصدون، وإبعاد كل مثقف لا ينتج ما يفيدهم. على العكس من ذلك تماماً، ينتصر هؤلاء لكل خطاب أو رؤية أو فلسفة تساعدهم في فرض مسارهم، بل يصنعون هذه الثقافة وينشئونها في كثير من الأحيان.
لا يقتصر هذا على سلطة النظام الشمولي، وإنما ينتج خطاب طائفي شعبوي مثير للغثيان، علونة الثقافة مثلما هي علونة السياسة، مشروعان سارا بالتوازي، فنشر ثقافة الأقليات بقيادة العلوي، كان جزءاً أصيلاً لحكم الطائفة المنهار في سوريا. حينها كان الحديث عن العلمانية حبوب بندول يوزعها النظام بين الداخل والخارج، ورافعة من روافعه الطائفية، وباب للدعاية والمخاتلة والتلاعب، وفطن نظام البعث وحكم الطائفة إلى أهمية الثقافة في مشروعها الرامي لتكون قوة محلية عظمى لا يقبل بحكم ثنائي أو متعدد الأقطاب، وشرعت في فتح مؤسسات وجمعيات للغرض هذا. لا توجد رؤية متعددة للثقافة؛ وإنما رؤية واحدة أردت اجتثاث ثقافة شركاء الوطن قبل السنة وزرع الثقافة العلوية عنوةً.
نخب مصنوعة
هذه الرؤى لا تُطلق في الفراغ، ولا تقف عند حد الأمنيات والرغبات والتطلعات، إنما تُترجم في إجراءات محددة، وكل إجراء ينادي صاحبه، وكل هدف يجذب أتباعه، ليس عن اقتناع بالضرورة، إنما لتحصيل منفعة ما. فالنظام، وقبلهما إنجلترا وفرنسا، كانت لها نخب شجعتهم، أو صنعتهم على عيونها، لحمل الأفكار وإشاعتها في المجتمعات قاطبة، وفتحت لهؤلاء مؤسسات وهيئات، وأطلقت لهم منابر ومنصات ومطبوعات يصدرونها، وتم في خفاء وبتحايل تصدير ما ينتجونه إلى الناس، الذين لم يكن بوسع أغلبهم أن يمسكوا بأيديهم الخيط الذي يربط هؤلاء بمشروعات هيمنة ما.
وسار كثير من المثقفين على النهج ذاته، إذ كان عليها أن تبحث عن حاملي خطابها إلى الناس، أو من ينتجون خطابًا؛ لتبرير سلوك أهل القرار وتدابيرهم، وتجميل صورتهم، وتسويق السائد والمتاح للناس باعتباره أفضل ما يمكن بلوغه، ثم دعوتهم إلى الصبر على الفقر والضيم والإهانة.
ولأن من مصلحة الساعين إلى الهيمنة أو التحكم، أن يكون الموالون لهم في الصدارة، حتى يضمنوا تأثيراً واسعاً لخطابهم، فإنهم يسخون بالمال والجهد في سبيل أن يضعوا هؤلاء في صدارة المشهد، ويصنعوا من بينهم رموزًا، وفق آليات صناعة النجم المعروفة، ما يضمن أن العائد من وراء هذا، مهما زادت كلفته، سيكون كبيرًا.
لا يخلو عهد من أمثال هؤلاء المتصدرين للمشهد بتدبير وربما تآمر، رغم أن أمثالهم يكونون في الغالب الأعم ليسوا أصحاب إنتاج ثقافي عميق وراسخ وغزير ونافع للناس حتى يكونوا جديرين بحيازة الصدارة، أو مستحقين لانهمار ما يقولونه أو يكتبونه أو يرسمونه على أسماع الناس وعيونهم ليل نهار.
أدونيس مع ابن طائفته سفير الأسد في لبنان سابقاً الشاعر علي عبد الكريم علي: الشعر والطائفة والمخابرات!
التغول الطائفي في المؤسسات الثقافية
في زمن الثورة السورية، ظروف الحكم والطائفية التي كان ينشرها القتلة على الهوية والذبح بالسكاكين من شركاء الوطن مع ترديد ثارات تاريخية عقيمة، فرضت علي مثلما هو عليه حال مجموعة من المثقفين أبرزهم صادق جلال العظم وحكم البابا وآخرون انتهاج مسار سياسي وثقافي وظهرت مصطلحات “العلوية السياسية” وشعارها “الأسد أو نحرق البلد” لدى الرعاع، و”بتروح سوريا إذا راح الأسد” لدى النخبة… و”السنية السياسية” وشعارها: “حرية للأبد غصبا عنك يا أسد” ثم بعد التشفي بما رأوا أنها هزيمة الثورة: “ولسه بدنا حرية” للتأكيد أن الهدف لم يمت حتى بوجود كليشهات على نهج الفلول والأقليات وشراذم اليسار الفاشل وحثالات السنة من المتمسحين والمنسفحين أمام التغول الثقافي العلوي بحجة علمانيتهم، مع أن ما صنع هذا التغول هو الاستغراق العميق والوقح في الممارسة الطائفية في معظم المؤسسات الثقافية التي بات للعلويين فيها حصة الأسد من الموارد والنشر والتوظيف.
هذا الأمر تكرر في عديد الحضارات، خاصة في عهد الحروب والصراعات المريرة لكسر استبداد طويل الأمد، كما هو الحال في سوريا… أما ما بعدها فظهرت ظروف أخرى إضافية، لوقف هذا الشحن غير الصحي، لا غالب ولا مغلوب ولا أفضلية لطائفة على الأخرى أو مثقف على الآخر، سأتوقف عن هذه الأيدلوجية بعد سقوط النظام؛ أريد أن أكون إبن سوريا وقلب سورية، أن يعلوا كل السوريين بشأني، وأن أتقدم بموهبتي الصحفية، وأغزر نتاجاً، وأفيد للسوريين كل السوريين بلا اسثناء.
إن فرض الأسماء والأفكار الموالية لمشروعات سلطوية أو طائفية أو لأيديولوجيات، أو تلك المشمولة برعاية أموال على حساب أصحاب الاستحقاق والجدارة، يبدو عملية عابرة رغم أنها أكلت أعمارنا وفرصنا، إذ إن الإبداع الحقيقي هو ما يبقى في النهاية، فإن مثل هذه التصرفات طالما ظلمت كثيرين من المثقفين في طريقها، وألقت بهم في الهامش البارد.
أريد أن أعيش تحت الشمس الدافئة كاتبا وصحافيا وناقدا سوريا؛ مثلما كنت قبل الثورة، لكن على ألا يأخذ أحد فرصتي لأنه علوي، قريبه الضابط الفلان، وبثينة شعبان داعمته، وأدونيس يبارك كينونته… ونبيل سليمان يسوق له، وديانا جبور تتبنى نصوصه أو تشاركه فيها مع زوجها… وحسن م يوسف يسكب جنون عظمته وهو يمتدح وطنيته وألمعيته بسفه وهذيان…
تلك كانت جوقة المؤازرة الطائفية… والأسماء التي طالما سممت حياتنا الثقافية بشلليتها كثيرة وأكثر من أن تحصى رغم أنها انفتحت على موالين من مكونات أخرى… كي تخفي دعم أبناء الطائفة في سياق وطني متوهم.
الروائي حيدر حيدر الذي دعا إلى حرق دمشق في روايته (الزمن الموحش)
لن أشارك في أي تجمع أو حزب أو مؤتمر أو شلة؛ إن مجد الصحفي يوم واحد، ليكون هو الأنا المبدع الموهوب الحر أو المستقل، وذلك المنحاز للناس، كل الناس عليه أن يبذل جهداً مضنياً، ويجمع دوماً بين الجدية والإجادة والتجديد، في سبيل أن يبقى في المتن ولا يُلقى به في الهامش، وقد يغرق تمامًا في الظلام. وإذا كانت قلة من المبدعين تقاوم وتصمد وتراهن على الناس وتنتصر لإبداعها، فإن الأغلبية تنكسر وتنسحب في قنوط، وتكون الثقافة هي الخاسر، والأكثر خسارة هو المجتمع.
ولتكن هذه آخر مقالة أو منشور على شبكات التواصل الاجتماعي، أتتطرق فيها همزاً أو لمزاً بمشاعر الضحية، وليكن صراخ ذاك الشاب الكردي السوري بالمقهى أن سوريا لكل السوريين، صوتنا جمعياً.