في السبعينيات والثمانينيات، تَشكّلت ملامح ما يمكن وصفه بعمليات “خصخصة مُقنّعة”، حيث جرى تحويل العديد من الشركات العامة والمؤسسات الإنتاجية إلى ملكيات خاصة تُدار لصالح نخبة مُقرّبة من النظام. هذه السياسة لم تكن لأجل تطوير الاقتصاد أو تحسين الإنتاج، بل كانت أداة لاحتكار الثروات وجعلها تحت سيطرة أفراد مُتنفذين من أبناء السلطة أو شركائهم. بينما كان الشعب يُعاني من الفقر وتراجع الخدمات، تحوّلت القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة إلى واجهات تُستغل لتحقيق مصالح شخصية بعيداً عن أي رقابة أو شفافية.
هذه الممارسات لم تتوقف مع انتقال السلطة إلى بشار الأسد، بل استمرت بأساليب أكثر “حداثة” تحت غطاء الانفتاح الاقتصادي في الألفية الجديدة. ظهرت شركات الاتصالات، والبنوك الخاصة، واستثمارات أخرى، لكن كل ذلك خدم طبقة جديدة من رجال الأعمال المرتبطين بالسلطة، أمثال رامي مخلوف. فبدلاً من أن تكون الخصخصة خطوةً نحو اقتصاد قوي يخدم السوريين، تحوّلت إلى أداة إضافية لإضعاف مؤسسات الدولة وتكريس الفساد الذي استنزف ثروات البلاد وحرم الشعب من حقه في التنمية والازدهار.
منذ بداية السبعينيات وحتى بداية القرن الحادي والعشرين، لم تقتصر مشكلات سوريا على الفساد، بل امتدّت إلى تدمير البنية التحتية للبلاد. حرب لبنان، ودعم النظام اللبناني لحزب الله، والانفتاح على إيران أدى إلى تدخلات عسكرية، فضلاً عن تورط سوريا في العديد من الأزمات الإقليمية. هذه الحروب والنزاعات تسببت في تدمير الموارد البشرية والاقتصادية للبلاد. بالإضافة إلى ذلك، انفجرت سوريا في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في مواجهة داخليّة، وبدأت المجازر التي ارتكبت بحق السوريين تظهر للعيان في تلك الفترة.
كذلك يجب أن يشمل التحقيق أيضاً انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت على مدار عقود. التحقيق مع الضباط العسكريين والأمنيين الذين كانوا على اتصال مباشر مع النظام، وكذلك الضباط الذين نفذوا الأوامر القمعية. أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو مجزرة حماة في عام 1982، التي راح ضحيتها آلاف المدنيين من المعارضة، إلى جانب قصف المدن السورية وتدميرها خلال الأحداث في 2011 وما بعدها. عُرفت هذه الفترة بانتشار التعذيب في السجون، والتغيب القسري، والاعتقالات العشوائية، والتهجير القسري، وجميع هذه الممارسات تتطلب محاكمة شفافة للمسؤولين عنها.
إن التحقيق مع الضباط الذين عملوا في الأجهزة الأمنية خلال حكم الأسد الأب ومن بعده الابن، وكذلك القادة العسكريين الذين كانوا ينفذون أوامر النظام وحتى المدنيين الذين كانوا في مفاصل مهمة في السلطة، له أهمية قصوى. حيث كان هؤلاء المسؤولون في قلب العمليات التي أدت إلى سقوط عشرات الآلاف من الضحايا، فضلاً عن تدمير أحياء كاملة في المدن الكبرى. من خلال التحقيق معهم، يمكن كشف كيف تم تنفيذ الأوامر المتعلقة بالاعتقالات الجماعية، والتعذيب، والقتل تحت إشراف النظام. هؤلاء الضباط هم المفتاح لفهم ما كان يدور في غرف القيادة داخل النظام، وكيف تمت إدارة البلاد في ظل هذه السياسات القمعية.
إن من أهم الأسئلة التي يجب الإجابة عليها هو: من كان المسؤول عن المجازر التي ارتكبت بحق الشعب السوري؟ هذه المجازر تشمل، على سبيل المثال، الهجمات على حلب واللاذقية، وقتل المتظاهرين في 2011، وتدمير المدن السورية. تدمير البنية التحتية وتفريغ المدن من سكانها كان جزءاً من استراتيجية النظام لبسط سلطته على المناطق التي خرجت عن طاعته. التحقيق مع الضباط والمجموعات الأمنية يمكن أن يحدد بشكل دقيق المسؤولين عن هذه الجرائم.
من المهم أن يكون الهدف من التحقيقات هو الوصول إلى الحقيقة وإحقاق العدالة، وليس الانتقام. العدالة التي تضمن محاكمة عادلة لكل من ارتكب جريمة ضد الإنسانية، سواء كان عسكرياً أو مدنياً. من المهم أن تكون المحاكمات شفافة، وأن تكون آليات العدالة مستقلة عن التأثيرات السياسية، بحيث يتمكن الشعب السوري من معرفة الحقيقة كاملة، ومن ثم بناء دولة جديدة تقوم على العدالة والشفافية.
أخيراً، لا يمكن الحديث عن مستقبل سوريا دون أن يكون ذلك ضمن إطار العدالة الشاملة. هذه العدالة يجب أن تكون قائمة على كشف الجرائم، محاسبة المسؤولين، وضمان عدم تكرارها. لا أحد فوق القانون، وإذا تم التحقيق بشكل شامل وشفاف، فسيتمكن السوريون من بناء سوريا جديدة، تستند إلى العدالة، والشفافية، والمساواة لجميع أبنائها، بغض النظر عن انتمائهم أو خلفياتهم.
----------
نينار برس