--------------------------------------------------------------------------------
ياسين الحاج صالح
«الغزو الشيعي للمجتمعات السنية» الذي تكلم عنه الشيخ يوسف القرضاوي غير مرة في الأسابيع الأخيرة عنوان خطير يحتاج إلى وقفة نقدية هادئة تفكك ما فيه من ألغام. بداية، هل يصح الكلام عن «غزو»؟ وهل يجوز نسبته إلى «الشيعة»؟ وهل من الشرعي عقليا وسياسيا أن نعرّف مجتمعاتنا المعاصرة بأنها سنية أو شيعية أو غير ذلك؟ فلنبدأ من النهاية. ليس هناك مجتمع عربي واحد صاف دينيا أو مذهبيا، ورغم أن المسلمين السنيين أكثرية في أكثر البلدان العربية (عدا العراق والبحرين، ولبنان الذي لا أكثرية مطلقة فيه)، فإن وصف مجتمعات البلدان المعنية بأنها «سنية» (خارج إطار البحث السوسيولوجي والتاريخي) يضمر استبعادا للجماعات الدينية والمذهبية الأخرى، أو تقليلا من شأنها. وهذا من شأنه إضعاف الرابطة الوطنية التي لا تتوحد مجتمعاتنا المعاصرة على غير أرضيتها (فنتكلم عن سوريين ومصريين وكويتيين وتونسيين إلخ، لا عن مسلمين ومسيحيين..، أو عن سنيين وشيعة...). ويبدو لنا أن الشيخ القرضاوي ما كان يمكن أن يتكلم عن مجتمعات سنية إلا لأنه يُعلي من شأن الرابطة الدينية والمذهبية على الرابطة الوطنية (الأمر الذي تؤكده كتاباته كلها)، ولهذا بالتأكيد صلة بكون الأولى تمنحه سلطة عابرة للدول والأوطان لا تمنحه مثلها الثانية. ولا ريب أن ما خفف من غرابة كلامه هو هشاشة الرابطة الوطنية بفعل الاستبداد المديد في بلداننا من ناحية وصعود الهويات الفرعية من ناحية ثانية في السنوات الأخيرة. ولعل هذا يفسر أن من اعترضوا على الشيخ صدورا في الأغلب عن فكرة الوحدة الإسلامية (أحمد كمال أبو المجد، فهمي هويدي، طارق البشري) أو من مزيج قومي إسلامي (أو بالطبع من خلفية طائفية شيعية...). ولم أطلع على أي اعتراض يصدر عن اعتبارات وطنية وعلمانية متسقة، لا من زعماء سياسيين ولا من مثقفين بارزين.
اللغم الثاني في كلام الشيخ يتصل بنسبة الغزو المفترض إلى «الشيعة»، وفي حواريه مع «المصري اليوم» (8 و9/9/2008) ثم مع جريدة «الشرق الأوسط» (28/9/2008)، وكذلك في تعليقات مؤيدة له أو متحفظة عليه، تناثرت كلمات وعبارات مثل «الشيعة» و«أهل السنة» كما لو أننا حيال كيانات متماثلة مع ذاتها دوما، مزودة بوعي وإرادة موحدين. والحال ليس الشيعة ولا السنة هويات تستغرق المنسوبين المفترضين إليها جميعا وبالقدر نفسه. افتراض ذلك ممارسة طائفية في اللغة، تقترن عادة بممارسة طائفية في السياسة والمجتمع، ترى هل هناك كيان شبحي اسمه «الشيعة» يغزو كيانا شبحيا آخر اسمه أهل «السنة» أو «المجتمعات السنية»؟ يمكن أن نتكلم عن إيران كقوة موحدة ممثلة بالدولة الإيرانية، أو عن «حزب الله» أو «حركة أمل» مثلا في لبنان، لكن ليس هناك أي شرعية عقلية للكلام عن «الشيعة» كطرف واع، مغرض، مريد.
واللغم الأخير هو الكلام عن «غزو». لعل الشيخ رغب في إثارة استنفار واسع وسط جمهوره المفترض حين استخدم هذه الكلمة المستمدة من قاموس الحرب، لكنه أرسل كلاما مثيرا دون أن يبرهن لا على غزو ولا حتى على حملة تشييع منظمة. يسوؤه مثلا وجود شيعة مصريين مسموعي الصوت اليوم، بينما لم يكن في مصر شيعة قبل عقدين. هذا غريب. فمصر بعيدة عن إيران، ولم تغزها هذه كما نعلم. وسوء العلاقات بين البلدين طوال العقود الثلاثة الأخيرة يبيح لنا الجزم بأن الحكومة المصرية لا يمكن أن تتسامح مع حملة «تبشير شيعي» إيرانية منظمة توظف فيها الأموال والدعاية والوكلاء الإيرانيين، الأرجح لذلك أن تحول مصريين إلى المذهب الشيعي متولد عن اقتناعهم الشخصي الحر، أي يندرج في إطار حرية الاعتقاد التي ينبغي أن يندرج ضمنها أيضا التغيير الطوعي للاعتقاد والتخلي الطوعي عن أي اعتقاد، والسؤال الذي يتعين على الشيخ الإجابة عنه بوضوح هو: هل تقبل بمبدأ حرية الاعتقاد أم لا؟ فإن كنت تقبل، فإن تحول سني إلى شيعي يندرج ضمنه؛ وإن كنت لا تقبل هذا المبدأ العام، فهل سترفض أيضا التحول المحتمل لشيعة إلى سنيين؟
قد يقول الشيخ إن بعض التشيع نتاج عمل منظم، وقد يضرب مثالا، وقد فعل، السودان الذي عملت السفارة الإيرانية عبر مكتب خاص على نشر أدبيات التشيع والتبشير بالمذهب الشيعي قبل أن تبادر الحكومة السودانية إلى إغلاقه. الحالة هنا مختلفة فعلا، بيد أن الجهة المخولة التعامل مع عمل منظم كهذا هي الدول المعنية والرأي العام فيها، ولكن فيما عدا المثال السوداني، وربما السوري، ليس ثمة ما يشير إلى أن ظهور مسلمين شيعة في دول عربية أخرى نتاج حملة منظمة، الأرجح أنه يندرج تحت مبدأ حرية الاعتقاد الذي لا مجال للمساومة عليه. وعلى أي حال فإن من قد يغيرون مذهبهم أو دينهم طمعا بمال أو جاه مرشحون للانقلاب على أنفسهم حين يشح هذان أو يُنالان من جهة أخرى. وقد كان في سورية مثال على ذلك في ثمانينيات القرن العشرين حين نظم أحد النافذين الكبار (جميل الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد) ما سُمي حينها «جمعية الإمام المرتضى الخيرية» التي عملت على نشر التشيع بين قطاعات من المجتمع السوري، مغرية المتحولين بالمال والنفوذ، لكن أحدا ممن انضموا إلى الجمعية التي حُلّت في أواسط الثمانينيات لم يقم بعدها على شيعيته المستجدة.
وقد يستغرب الشيخ القرضاوي إن قلنا إن تشيع مسلمين سنيين هو في العمق أحد وجوه ما يفضل هو أن يسميها «الصحوة الإسلامية». فما أتيح لقطاعات أوسع من المسلمين من الاطلاع على دينهم وتاريخه، ووفرة المعلومات عن المذاهب الإسلامية والطلب الواسع على امتلاك الدين... هو ما يفسر تحول بعضهم إلى شيعة، وتحول بعضهم إلى وهابيين، وبعضهم إلى سلفيين جهاديين، وبعضهم إلى إخوان، وليس غزوا شيعيا مفترضا لا دليل عليه.
وضمن حركية «الصحوة» يشغل الشيعة موقعا ممتازا بسبب السمعة الطيبة لـ«حزب الله» في لبنان بفضل أدائه القتالي المرموق ضد إسرائيل في صيف 2006 بخاصة، وربما أيضا بسبب تحدي إيران للغرب عبر خططها النووية. فإن صح ذلك، على ما نرجح، كان العامل المذهبي (عقيدة آل البيت وانتظار المهدي...) هو الأضعف في تفسير التحولات المذهبية التي لا نرى سببا للمبالغة بشأنها.
ياسين الحاج صالح
«الغزو الشيعي للمجتمعات السنية» الذي تكلم عنه الشيخ يوسف القرضاوي غير مرة في الأسابيع الأخيرة عنوان خطير يحتاج إلى وقفة نقدية هادئة تفكك ما فيه من ألغام. بداية، هل يصح الكلام عن «غزو»؟ وهل يجوز نسبته إلى «الشيعة»؟ وهل من الشرعي عقليا وسياسيا أن نعرّف مجتمعاتنا المعاصرة بأنها سنية أو شيعية أو غير ذلك؟ فلنبدأ من النهاية. ليس هناك مجتمع عربي واحد صاف دينيا أو مذهبيا، ورغم أن المسلمين السنيين أكثرية في أكثر البلدان العربية (عدا العراق والبحرين، ولبنان الذي لا أكثرية مطلقة فيه)، فإن وصف مجتمعات البلدان المعنية بأنها «سنية» (خارج إطار البحث السوسيولوجي والتاريخي) يضمر استبعادا للجماعات الدينية والمذهبية الأخرى، أو تقليلا من شأنها. وهذا من شأنه إضعاف الرابطة الوطنية التي لا تتوحد مجتمعاتنا المعاصرة على غير أرضيتها (فنتكلم عن سوريين ومصريين وكويتيين وتونسيين إلخ، لا عن مسلمين ومسيحيين..، أو عن سنيين وشيعة...). ويبدو لنا أن الشيخ القرضاوي ما كان يمكن أن يتكلم عن مجتمعات سنية إلا لأنه يُعلي من شأن الرابطة الدينية والمذهبية على الرابطة الوطنية (الأمر الذي تؤكده كتاباته كلها)، ولهذا بالتأكيد صلة بكون الأولى تمنحه سلطة عابرة للدول والأوطان لا تمنحه مثلها الثانية. ولا ريب أن ما خفف من غرابة كلامه هو هشاشة الرابطة الوطنية بفعل الاستبداد المديد في بلداننا من ناحية وصعود الهويات الفرعية من ناحية ثانية في السنوات الأخيرة. ولعل هذا يفسر أن من اعترضوا على الشيخ صدورا في الأغلب عن فكرة الوحدة الإسلامية (أحمد كمال أبو المجد، فهمي هويدي، طارق البشري) أو من مزيج قومي إسلامي (أو بالطبع من خلفية طائفية شيعية...). ولم أطلع على أي اعتراض يصدر عن اعتبارات وطنية وعلمانية متسقة، لا من زعماء سياسيين ولا من مثقفين بارزين.
اللغم الثاني في كلام الشيخ يتصل بنسبة الغزو المفترض إلى «الشيعة»، وفي حواريه مع «المصري اليوم» (8 و9/9/2008) ثم مع جريدة «الشرق الأوسط» (28/9/2008)، وكذلك في تعليقات مؤيدة له أو متحفظة عليه، تناثرت كلمات وعبارات مثل «الشيعة» و«أهل السنة» كما لو أننا حيال كيانات متماثلة مع ذاتها دوما، مزودة بوعي وإرادة موحدين. والحال ليس الشيعة ولا السنة هويات تستغرق المنسوبين المفترضين إليها جميعا وبالقدر نفسه. افتراض ذلك ممارسة طائفية في اللغة، تقترن عادة بممارسة طائفية في السياسة والمجتمع، ترى هل هناك كيان شبحي اسمه «الشيعة» يغزو كيانا شبحيا آخر اسمه أهل «السنة» أو «المجتمعات السنية»؟ يمكن أن نتكلم عن إيران كقوة موحدة ممثلة بالدولة الإيرانية، أو عن «حزب الله» أو «حركة أمل» مثلا في لبنان، لكن ليس هناك أي شرعية عقلية للكلام عن «الشيعة» كطرف واع، مغرض، مريد.
واللغم الأخير هو الكلام عن «غزو». لعل الشيخ رغب في إثارة استنفار واسع وسط جمهوره المفترض حين استخدم هذه الكلمة المستمدة من قاموس الحرب، لكنه أرسل كلاما مثيرا دون أن يبرهن لا على غزو ولا حتى على حملة تشييع منظمة. يسوؤه مثلا وجود شيعة مصريين مسموعي الصوت اليوم، بينما لم يكن في مصر شيعة قبل عقدين. هذا غريب. فمصر بعيدة عن إيران، ولم تغزها هذه كما نعلم. وسوء العلاقات بين البلدين طوال العقود الثلاثة الأخيرة يبيح لنا الجزم بأن الحكومة المصرية لا يمكن أن تتسامح مع حملة «تبشير شيعي» إيرانية منظمة توظف فيها الأموال والدعاية والوكلاء الإيرانيين، الأرجح لذلك أن تحول مصريين إلى المذهب الشيعي متولد عن اقتناعهم الشخصي الحر، أي يندرج في إطار حرية الاعتقاد التي ينبغي أن يندرج ضمنها أيضا التغيير الطوعي للاعتقاد والتخلي الطوعي عن أي اعتقاد، والسؤال الذي يتعين على الشيخ الإجابة عنه بوضوح هو: هل تقبل بمبدأ حرية الاعتقاد أم لا؟ فإن كنت تقبل، فإن تحول سني إلى شيعي يندرج ضمنه؛ وإن كنت لا تقبل هذا المبدأ العام، فهل سترفض أيضا التحول المحتمل لشيعة إلى سنيين؟
قد يقول الشيخ إن بعض التشيع نتاج عمل منظم، وقد يضرب مثالا، وقد فعل، السودان الذي عملت السفارة الإيرانية عبر مكتب خاص على نشر أدبيات التشيع والتبشير بالمذهب الشيعي قبل أن تبادر الحكومة السودانية إلى إغلاقه. الحالة هنا مختلفة فعلا، بيد أن الجهة المخولة التعامل مع عمل منظم كهذا هي الدول المعنية والرأي العام فيها، ولكن فيما عدا المثال السوداني، وربما السوري، ليس ثمة ما يشير إلى أن ظهور مسلمين شيعة في دول عربية أخرى نتاج حملة منظمة، الأرجح أنه يندرج تحت مبدأ حرية الاعتقاد الذي لا مجال للمساومة عليه. وعلى أي حال فإن من قد يغيرون مذهبهم أو دينهم طمعا بمال أو جاه مرشحون للانقلاب على أنفسهم حين يشح هذان أو يُنالان من جهة أخرى. وقد كان في سورية مثال على ذلك في ثمانينيات القرن العشرين حين نظم أحد النافذين الكبار (جميل الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد) ما سُمي حينها «جمعية الإمام المرتضى الخيرية» التي عملت على نشر التشيع بين قطاعات من المجتمع السوري، مغرية المتحولين بالمال والنفوذ، لكن أحدا ممن انضموا إلى الجمعية التي حُلّت في أواسط الثمانينيات لم يقم بعدها على شيعيته المستجدة.
وقد يستغرب الشيخ القرضاوي إن قلنا إن تشيع مسلمين سنيين هو في العمق أحد وجوه ما يفضل هو أن يسميها «الصحوة الإسلامية». فما أتيح لقطاعات أوسع من المسلمين من الاطلاع على دينهم وتاريخه، ووفرة المعلومات عن المذاهب الإسلامية والطلب الواسع على امتلاك الدين... هو ما يفسر تحول بعضهم إلى شيعة، وتحول بعضهم إلى وهابيين، وبعضهم إلى سلفيين جهاديين، وبعضهم إلى إخوان، وليس غزوا شيعيا مفترضا لا دليل عليه.
وضمن حركية «الصحوة» يشغل الشيعة موقعا ممتازا بسبب السمعة الطيبة لـ«حزب الله» في لبنان بفضل أدائه القتالي المرموق ضد إسرائيل في صيف 2006 بخاصة، وربما أيضا بسبب تحدي إيران للغرب عبر خططها النووية. فإن صح ذلك، على ما نرجح، كان العامل المذهبي (عقيدة آل البيت وانتظار المهدي...) هو الأضعف في تفسير التحولات المذهبية التي لا نرى سببا للمبالغة بشأنها.