لم يخف المتحدّثون باسم النظام الإسلامي/الشيعي في إيران علاقتهم وتحكّمهم بهذه الأدوات، وأصبح معلوماً أن هناك قيادة ورأساً لهذه الأوركسترا هناك، على رأسها المرشد خامنئي، وخزّانها ومصدر طاقاتها في الحرس الثوري، وقيادة عملياتها وتدريبها والتنسيق بينها والمشاركة معها في فيلق القدس، الذي أسّسه وقاده لأكثر من عشرين عاماً قاسم سليماني حتى مقتله، وخلفه قاآني بعد ذلك.
علامة الاستفهام مرسومة على دور نظام الأسد في هذه الشبكة، وليس على دور القوى العسكرية والميليشيات التي يقودها، وينظّم عملها فيلق القدس في سوريا… هذا الأخير واضح تماماً للعيان، وواضح تداخله مع دور النظام نفسه، ككتلة كاملة، أو كمجموعة كتل بلاستيكية متحرّكة، تحاول المناورة مع دائرة النفوذ الروسي، وخلق مساحاتها الخاصة بها، مثل جنوب سوريا، والعاصمة وضواحيها الجنوبية، ومنطقة البوكمال ودير الزور على الحدود العراقية، مقابل الوجود الأمريكي شمالاً في الجزيرة السورية، وجنوباً في منطقة التنف على المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن.
تشغل سوريا منذ عقد من الزمان موقعاً متدنّياً جداً في أيّ دليل بحثي حول الحريات والديمقراطية أو الاستثمار، وقد احتلّت في مؤشّر الدول الهشّة للعام الماضي الموقع الأخير في» شرعية» الدولة
ألقت إيران ثقلها المباشر وغير المباشر إلى جانب النظام – إلى جانب مصالحها بالأحرى- منذ عام 2014 بشكل مكشوف وظاهر بقوة، بعد أن كان حزب الله اللبناني قد تدخّل منذ عام 2012، ابتداء من منطقة حمص ومنطقة القصير التي خاض فيها معارك مهمة مع المعارضة السورية، وسيطر بعدها عليها لتكون امتداداً لسيطرته في منطقة الهرمل والبقاع اللبنانية. في ذلك الوقت لم يكن التدخّل الإيراني إنقاذاً للأسد ونظامه، كافياً على الإطلاق، بحيث أفسح المجال لتدخّل روسي ساحق في نهاية سبتمبر 2015. ما بين الساحات الخمس، يبدو حال النظام مثيراً للشفقة، في عجزه عن المساهمة في المعركة، ما عدا ساحة إعلامه البائس. لقد ظهر تأثير وإمكانيّات الساحة الفلسطينية واللبنانية واليمنية بقوة، وحتى العراقية استطاعت إحراج الولايات المتحدة، الداعم الرئيس بالسلاح والذخيرة لإسرائيل في حربها على غزّة. لم تكن الساحة السورية حتى الآن إلّا مسرحاً للقصف المتلاحق، لكلّ ما يتعلّق بإيران وفيلق القدس فيها، وربّما بعض ما يتعلّق بالنظام، إن أمكن فصلهما بوضوح. ربّما يكون موقف النظام ومساهمته «روسيين» أكثر من كونهما» إيرانيّين». فروسيا؛ رغم مصلحتها الكبرى في التنغيص على الولايات المتحدة – والغرب- ومناكدتها وكسب النقاط عليها، ورغم موقفها المعارض بقوة لإسرائيل في هذه المعركة؛ تحافظ على سياستها وتنسيقها مع إسرائيل في ضرباتها الجوية، تنفيذاً للبروتوكول بينهما منذ سنوات، «تحارب» روسيا في ساحة أخرى، هي ساحة نيويورك ومجلس الأمن وحسب، رغم مصلحتها العميقة مع إيران، خصوصاً بعد أن صارت مصدر دعم رئيس بالطائرات المسيرة للأولى في أم معاركها في أوكرانيا، ذلك لا يمكن أن يعني أن هنالك ثغرة يمكن أن ينفكّ منها النظام السوري من مركز تنسيقه الإيراني، فالعلاقة أكثر عضويةً من ذلك، من دون أن تعني أيّ مقدار من التكافؤ بالطبع، ورقبة الأسد بين أيدي شبكة أكبر وأعقد من أن يستطيع تجاهلها في أي فترة مقبلة. حين ظهرت، مثلاً، مؤخّراً اتهامات متكرّرة وعلنية من قبل باحثين وساسة إيرانيين، لأجهزة أمن النظام بأنها مصدر الاختراق الإسرائيلي الذي يجعل العمليات التي يتمّ من خلالها اصطياد منسّقي العمليات الإيرانية في سوريا، أمراً بتلك الدقة والسهولة، تجاهلها أهل النظام وتركوها معلّقة في الهواء، كان ذلك انعكاساً لانعدام التكافؤ بين الطرفين، ولاحتقار أحدهما للآخر.
من جهة أخرى، ليس في علاقة ذلك النظام مع روسيا ما يسمح له بالاتّكاء عليها حين تحاصره السلطة الإيرانية، لا بشكل جدي ولا كمناورة. روسيا ذاتها هي التي ابتدأت ذلك النمط من السلوك المتغطرس العلني والمعلن، منذ أعاد ضابط روسي الأسد إلى الوراء ليترك بوتين وحده في الواجهة في زيارته إلى مطار حميميم، عاصمة الروس في البلاد المفتوحة. موقع المعوز المحتاج هذا هو الذي يجعل السلوك السوري في سياق قضية غزة أقرب إلى المنطق الروسي، المتحفّظ في دعم الفلسطينيين، إلّا بالسياق السياسي والإعلامي، والمستمرّ في تيسير هيمنة إسرائيل على الأجواء حين تحتاجها. في سوريا علاقة روسيا وإيران تنافسية غالباً، في حين أنها تعاونية ناجحة ومثمرة جداً في غير مكان، في أوكرانيا خصوصاً! ليس هناك من داعم لاستمرار النظام واستدامته إلّا تجاهله واستصغار شأنه، مع استمراره بتقديم الخدمات التي يعرف أنها ضرورية لذلك الموقف. قد يكون هذا تفسيراً للحديث حول غياب البديل والافتقاد إليه، لكنّ التفسير الأهمّ ـ ربّما – يكمن في أن تلك البلاد لم تعد مطمعاً لا في ثرواتها ولا حتى في موقعها الاستراتيجي، لأن الاستنزاف المستمرّ لتلك المطامع قد استوفى وظائفه: هنالك تركيا في الشمال، والولايات المتحدة في الشرق والجزيرة، وروسيا على الساحل وفي الإدارات والجيش، وإسرائيل تراقب الجنوب الغربي، حيث لبنان ودرعا والسويداء.. وتستثمر ما تبقّى كونفدرالية للجريمة المنظمة، تتغيّر تموضعاتها كلّ عام أو أقل.
تشغل سوريا منذ عقد من الزمان موقعاً متدنّياً جداً في أيّ دليل بحثي حول الحريات والديمقراطية، أو الاستثمار، وقد احتلّت في مؤشّر الدول الهشّة للعام الماضي الموقع الأخير في» شرعية» الدولة، ومثله في» التماسك»، الذي يدلّ على احتكار العنف من قبل الدولة، وهيمنة المدني على العسكري، وآليّات توزّع القوى على أساس القبيلة والمنطقة والطائفة. يشير ذلك أيضا إلى استنزاف شريحة أصحاب الكفاءات وهجرتهم إلى بلاد الله الواسعة طلباً للأمان والرزق، تعزْز هذه الوضعية حالة التجاهل المذكورة، وتعطي لنظام كهذا إمكانية النفاذ بريشه في الوضع الراهن، وتقطيع الوقت المتبقّي له يوماً بيوم. في غمرة معاركها في المنطقة: تعمل إيران المهدوية على تحفيز عاصفة في فلسطين، وأخرى على باب المندب تعرقل التجارة العالمية، وثالثة تحرّك جماعتها بها في العراق للضغط على الوجود الأمريكي، ما يحرج إسرائيل والولايات المتحدة ويؤكّد مكانة حكومتها الدينية الإقليمية والدولية، وتسهّل عليها مفاوضاتها المقبلة؛ لا تفكّر النخبة الإيرانية السائدة إلّا في ضبط وحدة الساحات وحركاتها، ومنع فضائح الساحة التي كان دورها مشهوداً في السابق، وتآكل حالياً بطريقة تفتح على المشاكل والمعضلات، وتهدّد بقطع برنامج تحريك الصراع الشيعي – السنيّ والتهديد والتوسّع به وبالابتزاز عن طريقه… وما لا يمكن إعرابه تماماً، هو دور النظام السوري في أوركسترا الساحات وضجيجها!
كان بشار الأسد قد تورّط واستبق طوفان الأقصى ببضعة أسابيع قليلة وتكلّم عن «غدر حماس ونفاقها»، ليجعل اهتمامه اللاحق بما يجري في فلسطين عديم التأثير والفاعلية، ويبدو كأنه ليس هنا ولا هناك… هذا من ملامح النظام الآفل أيضاً، لو كان له من بديل، إنه لا يحضّر نفسه إطلاقاً للامتحان المقبل حتماً، بل يخسر أية إمكانية للنجاح أيضاً.
--------
القدس العربي