لم يحتج الدمشقيون أكثر من يوم واحدٍ لكي يقتلعوا كل مظاهر “البعث” التي كانت متفشّية في كل نواحي حياتهم. وبعد أقل من أسبوعين على هرب بشار الأسد، لم يعد من أثر في الشام لحضور نظامه إلا في أماكن تجميع النفايات.
النظام فعلاً كان “أوهن من بيت العنكبوت”، هذه العبارة التي ساقها حزب الله ليصف إسرائيل، ترافق المتجوّل في أحياء دمشق بعد تحريرها السهل من أبشع نظام يمكن أن تبتلي به مدينة أو بلد أو جماعة.
تبخر النظام بين ليلة وضحاها، ولم يبق منه إلا نفاياته. صور الرئيس المخلوع ممزّقة، وتماثيل والده محطمة، ودمشق استأنفت حياتها على رغم الغموض الكبير الذي يلفّ مستقبلها.
الناس هنا تعيش من دون نظام البعث. لا وجهة واضحة لمسار يومهم إلا أنهم سيستيقظون غداً من دون تلك الصخرة الهائلة التي كانت تجثم على صدورهم. لا شيء أبشع مما كانوا يعيشونه. النظام كان يتعقب كل تفصيل صغير في حياتهم.
بإمكان زائر دمشق أن يعاين ذلك الحضور الرهيب للعائلة الحاكمة في كل شيء. في شركة الهاتف الخلوي، وفي أوراق العملة، وفي البارات والمساجد والفنادق. أينما وليت وجهك ستجد أثراً قاتلاً لآل الأسد. لكنهم اليوم في مستوعبات النفايات، وفي أحاديث الناس الساخرة عن “الرئيس النذل”، وفي أغاني الساروت المنبعثة من السيارات اللاعنة لبشار وعائلته.
دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!
لا عودة إلى زمن آل الأسد. إنها الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يجزم فيها المرء أثناء تأمّله في مستقبل سوريا. والدمشقيون إذ يحارون بما لم يتمكنوا من “اجتثاثه” من آثار العائلة، ابتدعوا أشكالاً من العلاقة مع ما لم يتح لهم إزالته مستعينين بالسخرية. ورقة العملة السورية من فئة الألف ليرة تتوسطها صورة بشار الأسد، فاستبدلوا اسم هذه الفئة من العملة بعبارة “جحش”.
ثمن السندويش جحشان، وسائق التاكسي يطلب 12 جحشاً لكي يوصلك إلى منطقة المزة. إنها ما تبقى من صور بشار، وأكثر ما يستعجله أهل دمشق هو استبدال هذه العملة، فهي ما تبقى من “الأبد” الذي تخلصوا منه.
المدينة تسير غير آبهة بما ينتظرها. كل شيء عاد لينتظم من دون ناظم واضح. المهم بالنسبة الى الناس أن “البعث” انزاح عن صدورهم. المدينة تشتغل على وقع الغبطة بالحدث. الغبطة قوة دافعة للانتظام. إنها الأيام الأولى للانفراج، والناس راغبة في استئناف حياة ما بعد “البعث” وما بعد آل الأسد.
هذا الفندق مثلاً كان يملكه رامي مخلوف، والأخير هرب مع من هربوا. الفندق يشتغل، ولكن لمصلحة من؟ لا أحد يسأل، فالمهم أن هذه المرافق تؤدي وظائفها. لا يريد الدمشقيون أن يعرفوا من يتولى تشغيل مرافئ العائلة وأصولها. لا يريدون أن ينتقموا من غير وجه بشار.
أما الجانب المظلم من المدينة فيتمثل في هذا الكم الهائل من صور المفقودين الملصقة أينما وليت وجهك في أحياء دمشق. استبدل الناس صور الرئيس المخلوع وصور العائلة، بصور أحبائهم الذين أخفاهم النظام في سجونه.
العائلات هي من ألصق الصور، وكتبت عليها عبارات معتمدةً ضمير المتكلم. “هذه الصورة لشقيقي أحمد الذي اختفى في سجن المزة بتاريخ 15 – 11 – 2014، فمن يعرف عنه شيئاً الرجاء الاتصال بالرقم …”.
جدران دمشق كلها مغطاة بهذا النوع من الملصقات. أهل المخفيين اللبنانيين أيضاً وجدوا طريقاً إلى جدران الشام وألصقوا عليها صور أحبتهم.
آثار “البعث” التي لم تُزل، مبثوثة في أماكن لم تصلها بعد يد الدمشقيين، ففي شركة الهاتف مثلاً وفي صف الانتظار، عليك أن تضغط على جهاز يحدد لك دورك لشراء الخط. الجهاز يسألك ما إذا كنت “مدنياً” أم غير مدني! في الفندق يسألك الموظف إذا كنت ترغب في مخاطبتك باسمك مسبوقاً بعبارة “الحاج”، فـ”البعث” في أيامه الأخيرة استقدم “الحجاج الإيرانيين” بدل “الرفاق البعثيين”، وموظف الاستقبال في الفندق عليه أن يسأل الزبائن الجدد.
غادر الأسد مخلفاً دمشقاً متخفّفة من وجهه ومن عائلته ومن حزبه. المدينة التقطت أنفاسها غير آبهة بالغموض الذي يلف مستقبلها. لم تنهر المدينة على نحو ما انهارت بغداد بعد سقوط “بعثها” مثلاً. كل الشوارع تؤدي وظائفها على نحو غريب. الأمر محيّر فعلاً! لا أحد يسوق الناس إلى أدوارهم ومهامهم هنا. يؤدونها بما يوحي بأن النظام لم يكن أكثر من شعيرة قتل، ولا حاجة إليه بما يتعدى تلك المهمة.
شارع الشعلان التجاري في وسط دمشق لا تقفل متاجره قبل منتصف الليل على رغم الظروف التي تمر بها المدينة، والأحياء في الشام القديمة تعج بآلاف العابرين والمتسوقين، والتجار الشاميون يتنافسون على إذهالك برشاقة طاقاتهم التسويقية، إلى حد تسأل نفسك أثناء تجوالك
بين المتاجر، كيف لم يخلف “البعث” بهؤلاء ثقل ظله على رغم أنه خلف كل هذه الدماء؟
--------
درج
النظام فعلاً كان “أوهن من بيت العنكبوت”، هذه العبارة التي ساقها حزب الله ليصف إسرائيل، ترافق المتجوّل في أحياء دمشق بعد تحريرها السهل من أبشع نظام يمكن أن تبتلي به مدينة أو بلد أو جماعة.
تبخر النظام بين ليلة وضحاها، ولم يبق منه إلا نفاياته. صور الرئيس المخلوع ممزّقة، وتماثيل والده محطمة، ودمشق استأنفت حياتها على رغم الغموض الكبير الذي يلفّ مستقبلها.
الناس هنا تعيش من دون نظام البعث. لا وجهة واضحة لمسار يومهم إلا أنهم سيستيقظون غداً من دون تلك الصخرة الهائلة التي كانت تجثم على صدورهم. لا شيء أبشع مما كانوا يعيشونه. النظام كان يتعقب كل تفصيل صغير في حياتهم.
بإمكان زائر دمشق أن يعاين ذلك الحضور الرهيب للعائلة الحاكمة في كل شيء. في شركة الهاتف الخلوي، وفي أوراق العملة، وفي البارات والمساجد والفنادق. أينما وليت وجهك ستجد أثراً قاتلاً لآل الأسد. لكنهم اليوم في مستوعبات النفايات، وفي أحاديث الناس الساخرة عن “الرئيس النذل”، وفي أغاني الساروت المنبعثة من السيارات اللاعنة لبشار وعائلته.
دمشق المدينة الهائلة التي لم يبقِ فيها البعث شيئاً إلا واستباحه، خلعت بليلة واحدة كل مظاهر القباحة التي نشرها “البعث” على مدى أكثر من خمسة عقود!
لا عودة إلى زمن آل الأسد. إنها الحقيقة الوحيدة التي يمكن أن يجزم فيها المرء أثناء تأمّله في مستقبل سوريا. والدمشقيون إذ يحارون بما لم يتمكنوا من “اجتثاثه” من آثار العائلة، ابتدعوا أشكالاً من العلاقة مع ما لم يتح لهم إزالته مستعينين بالسخرية. ورقة العملة السورية من فئة الألف ليرة تتوسطها صورة بشار الأسد، فاستبدلوا اسم هذه الفئة من العملة بعبارة “جحش”.
ثمن السندويش جحشان، وسائق التاكسي يطلب 12 جحشاً لكي يوصلك إلى منطقة المزة. إنها ما تبقى من صور بشار، وأكثر ما يستعجله أهل دمشق هو استبدال هذه العملة، فهي ما تبقى من “الأبد” الذي تخلصوا منه.
المدينة تسير غير آبهة بما ينتظرها. كل شيء عاد لينتظم من دون ناظم واضح. المهم بالنسبة الى الناس أن “البعث” انزاح عن صدورهم. المدينة تشتغل على وقع الغبطة بالحدث. الغبطة قوة دافعة للانتظام. إنها الأيام الأولى للانفراج، والناس راغبة في استئناف حياة ما بعد “البعث” وما بعد آل الأسد.
هذا الفندق مثلاً كان يملكه رامي مخلوف، والأخير هرب مع من هربوا. الفندق يشتغل، ولكن لمصلحة من؟ لا أحد يسأل، فالمهم أن هذه المرافق تؤدي وظائفها. لا يريد الدمشقيون أن يعرفوا من يتولى تشغيل مرافئ العائلة وأصولها. لا يريدون أن ينتقموا من غير وجه بشار.
أما الجانب المظلم من المدينة فيتمثل في هذا الكم الهائل من صور المفقودين الملصقة أينما وليت وجهك في أحياء دمشق. استبدل الناس صور الرئيس المخلوع وصور العائلة، بصور أحبائهم الذين أخفاهم النظام في سجونه.
العائلات هي من ألصق الصور، وكتبت عليها عبارات معتمدةً ضمير المتكلم. “هذه الصورة لشقيقي أحمد الذي اختفى في سجن المزة بتاريخ 15 – 11 – 2014، فمن يعرف عنه شيئاً الرجاء الاتصال بالرقم …”.
جدران دمشق كلها مغطاة بهذا النوع من الملصقات. أهل المخفيين اللبنانيين أيضاً وجدوا طريقاً إلى جدران الشام وألصقوا عليها صور أحبتهم.
آثار “البعث” التي لم تُزل، مبثوثة في أماكن لم تصلها بعد يد الدمشقيين، ففي شركة الهاتف مثلاً وفي صف الانتظار، عليك أن تضغط على جهاز يحدد لك دورك لشراء الخط. الجهاز يسألك ما إذا كنت “مدنياً” أم غير مدني! في الفندق يسألك الموظف إذا كنت ترغب في مخاطبتك باسمك مسبوقاً بعبارة “الحاج”، فـ”البعث” في أيامه الأخيرة استقدم “الحجاج الإيرانيين” بدل “الرفاق البعثيين”، وموظف الاستقبال في الفندق عليه أن يسأل الزبائن الجدد.
غادر الأسد مخلفاً دمشقاً متخفّفة من وجهه ومن عائلته ومن حزبه. المدينة التقطت أنفاسها غير آبهة بالغموض الذي يلف مستقبلها. لم تنهر المدينة على نحو ما انهارت بغداد بعد سقوط “بعثها” مثلاً. كل الشوارع تؤدي وظائفها على نحو غريب. الأمر محيّر فعلاً! لا أحد يسوق الناس إلى أدوارهم ومهامهم هنا. يؤدونها بما يوحي بأن النظام لم يكن أكثر من شعيرة قتل، ولا حاجة إليه بما يتعدى تلك المهمة.
شارع الشعلان التجاري في وسط دمشق لا تقفل متاجره قبل منتصف الليل على رغم الظروف التي تمر بها المدينة، والأحياء في الشام القديمة تعج بآلاف العابرين والمتسوقين، والتجار الشاميون يتنافسون على إذهالك برشاقة طاقاتهم التسويقية، إلى حد تسأل نفسك أثناء تجوالك
بين المتاجر، كيف لم يخلف “البعث” بهؤلاء ثقل ظله على رغم أنه خلف كل هذه الدماء؟
--------
درج