بمنتهى البراعة والبساطة يصور جوناثان غليزر ذلك العالم الأسري الآسر؛ البيت الواسع، حديقة الورود البديعة، بركة السباحة، الأطفال والقصص الحالمة. وبمنتهى البراعة أيضاً يصور العالم النقيض وراء الأسوار، حيث يقع عالم أوشفيتز الرهيب.
دائماً هناك أصحاب ضمير يستحيل عليهم اعتياد ذاك الهواء المليء بالجثث، وهناك الباقون الذين لا يكترثون بهذا القدر أو ذاك،.. من التجاهل إلى الاعتياد، إلى المشاركة
والمكانان لا يتجاوران بالمصادفة، فأحدهما يولد من الآخر، الزوج والأب في هذا البيت هو قائد أوشفيتز، ولولا تفانيه لما كان معسكر الاعتقال ذاك، والبيت «الحُلم» لم يكن بهذا الجمال والدقة لولا الأشياء المسروقة من ثياب معتقلي أوشفيتز، لولا رماد جثثهم الذي صار سماداً للحديقة، لولا الخدم المتفانين بلا حدود، على نحو يذكّر بخَدَم جان جينه، المتفانين إلى حدّ الالتصاق والذوبان بالأغراض التي يقومون بتنظيفها، أحذية كانت، أم شجراً أو تراباً أو براز كلاب.
الفيلم إذاً عن الهولوكوست، لكن من دون أن يصور الضحايا ولا غرف الغاز وأكوام الجثث، كما سائر أفلام النوع، وبالطبع لا ليكون أقل عنفاً، أو حتى أقل كلفة إنتاجية، فـ «التلميح» بعالم الاعتقال الرهيب هو جزء من حبكة السيناريو؛ إنها بالضبط الصورة التي تبدو لنا دائماً للحروب والكوارث التي تقع لصقنا تماماً، نتنشّق هواءها، ودائماً هناك أصحاب ضمير يستحيل عليهم اعتياد ذاك الهواء المليء بالجثث، تماماً كما تفعل والدة الزوجة في الفيلم، فتسارع لإغلاق النوافذ، وهناك الباقون الذين لا يكترثون بهذا القدر أو ذاك، من التجاهل إلى الاعتياد، إلى المشاركة..
أضف إلى روعة الفيلم أنه لا يتحدث فقط عن الهولوكوست، وحسب ما قال مخرجه فهو لا يتحدث عن الماضي، عن تلك الفظائع التي ارتُكبت منذ أقل من ثمانين عاماً، إنه، مثل أي فن أصيل، مشغول بـ «الآن وهنا»، ما يفسر تالياً كلام المخرج بأن لا بد من مشاهدته في ضوء ما يجري اليوم في غزة.
المخرج البريطاني اليهودي يقول، في كلمة تاريخية شجاعة، إثر تسلّمه جائزة أفضل فيلم أجنبي في حفل الأوسكار الأخير: «نرفض السماح بإساءة استخدام يهوديتنا والمحرقة من أجل احتلال تسبّب بمعاناة الأبرياء»، و«جميعهم ضحايا هذا التخلي عن الإنسانية». وتساءل: « كيف نقاوم ذلك؟».
الهواء إذن، الشمس، والأخضر البديع خلف الجدار العالي، كلها مشبعة برائحة الشواء الآدمي، فكيف نقاوم ذلك، وفي الأساس هل نريد أن نقاوم ذلك! أم أن لدينا ما نتشاغل به، ما يبرر لنا أن نشيح النظر.
الدخان وراء وفوق الأسوار (وقد بدا مثل أدخنة قطار) ذكّرنا بموسيقي سوري مختص بتأليف الموسيقى للمسلسلات التلفزيونية التي تشهد أوج ازدهارها هذه الأيام. ففي يوم من أيام العام 2014، لم يُرِد الموسيقي السوري طاهر مامللي أن يغلق النوافذ، أو يسدل الستارة كي تحميه من رؤية الموت، فلقد نشر صورة، على صفحته في فيسبوك، لمشهد من مدينة دمشق يعلوها الدخان الأسود، ويبدو أنها مأخوذة إثر قصف للنظام السوري على حي جوبر شرقي دمشق، أرفَقَها بكلمات تقول «من شرفتي أستلهب الموسيقا.. الله محيي الجيش».
كانت الصورة مكتظة بالبنايات والمآذن والبشر، كأي صورة معتادة (أو متخيلة) لدمشق منذ ألفي سنة، لكن الموسيقي (وهو كان أخيراً من بين أبرز الفنانين الذين استضافهم رأس النظام، عشية الدخول في شهر رمضان) اشتقَّ من اللغة فعلاً للمبالغة بحماسته حين قال «أستلهب»، لا «أستلهم» فحسب، فإذا كان جيران معتقل أوشفتز يكتفون بالصمت والتجاهل، فإن المايسترو السوري كان يستلهم (أو يستلهب) موسيقاه من تلك الأدخنة بالذات.
أما مواطنه الممثل أيمن زيدان فقد أطلق، إثر إحدى مجازر النظام الكيميائية، تصريحاً قال فيه: «كيميائي بالوطن، ولا بارفان بالغربة».
إلى هذا الحدّ موغلون بالجريمة، إلى حدّ لن ينفع السؤال عن مجرد إشاحة النظر عنها.
الفيلم مثل أي فن أصيل، مشغول بـ «الآن وهنا»، ما يفسر تالياً كلام المخرج بأن لا بد من مشاهدته في ضوء ما يجري اليوم في غزة
أتذكر الآن لوحة من الفيلم السينمائي الإيراني «لا وجود للشيطان»، إذ يصوّر المخرج محمد رسولوف يوميات رجل أمن إيراني في حياته العادية، أي بعيداً عن لباسه الميداني، وبعيداً في البداية عن وظيفته الرسمية. تراه كمواطن هادئ البال، مستمعاً جيداً لثرثرة زوجته، ملبياً لمتطلبات العائلة، يزور بيت والدته كل يوم، تقوم زوجته بتحميمها، فيما يقوم هو بِكَنْس بيتها، رقيق القلب حين يساعد الجيران في تخليص قطة عالقة بين أنابيب المبنى، وفي الختام سينهض فجراً إلى عمله، وعندما يصل سنكتشف أن عمله اليومي هو الضغط على كبسة زر إعدام جماعي. إنه بالضبط رب العائلة (الذي يقرأ القصص الحلوة لأطفاله كل ليلة) وقائد أوشفيتز في فيلم المخرج البريطاني، لكن على نحو أقرب لحياة المواطن العربي السعيد والمكتفي بهناءة العيش البسيط.
في كل كارثة، في كل حرب، وإثر كل مجزرة، كان جميعُنا يَسأل السؤال ذاته: أين هو العالم؟ أين العرب؟ أين المسلمون؟ أين هم الآخرون؟ ودائماً لا جواب.
منذ يومين شاهدت فيديو لشاب غزي واقفاً قرب الجدار الحدودي بين غزة ومصر، أشار للجدار وهو يخاطبنا بالقول: «تخيلوا! هذا جدار بيننا وبين أقوى جيش عربي، جيش لا يستطيع أن يسعفنا ولو بقارورة ماء.. متخيلين المشهد؟ متخيلين أخت المشهد؟». إنه شكل آخر من سؤال: «أين هو العالم؟».
روعة فيلم «منطقة الاهتمام»، عدا عن شجاعة مخرج يتخطّى خطاباً سائداً ومتوقّعاً من يهودي بريطاني، أنه نوع من الجواب على سؤال أين هو العالم. هل يصلح أرضاً لجواب: لن يحدث هذا مطلقاً مرة أخرى!
---------
القدس العربي