د . سيد البحراوي
أبي
كان لابد لأبي أن يموت في غيبتي. كان هذا يقينه طوال الأربعين سنة الأخيرة من حياته، وكذلك من حوله من البشر لأنه رفض أن يذهب إلي أبيه لحظة احتضاره، فمات دون أن يرضي عنه. ولقد حاولت منذ أدركت هذا الهاجس أن أخلف النبوءة، فرفضت أسفارا كثيرة في الخارج ، وداومت علي الحضور إلي البلدة بانتظام مطلق، كل أسبوع أو كل أسبوعين، حسب الظروف، وحينما أصبح ممكنا أن تتعامل قريتنا مع التليفون، أدخلت واحدا إلي منزلنا، ومع كل ذلك فقد وقعت النبوءة بإرادتي وعلمي ويقيني. فحين تركته لأذهب إلي عمل (ربما كان هاما، ولكني علي كل حال لم أتمه بسبب الوفاة) في هذا الوقت، كان قد توقف عن تناول الطعام او الشراب، وكان واضحا أن الموت قادم يقينا، وإن لم يكن معلوما متي بالضبط. لذلك سافرت. وحين أبلغت أنه في حالة متأخرة، سارعت بالحضور، فوجدته قد مات. وكان كما أكدوا يسأل إذا كنت قد حضرت حتي لفظ أنفاسه الأخيرة بهدوء وبطء. ولست أدري منذ ذلك الحين إن كان قد مات راضيا عني أم لا؟
قبلة
كانت القبلة الأولي أمام مسجد المعز، فوجئت وبدا أنها قد اندهشت من أن يحدث هذا في هذا المكان.. المقدس.
لم تكن المرة الأولي التي نذهب فيها إلي شارع المعز. كانت الثالثة. في المرة الأولي تجولنا في الشارع حتي قرب النهاية، لكني كنت مرهقا ولم استطع الاستمرار في حين كان شوقها جارفا للاحتضان ولو في وسط الشارع. في المرة الثانية، كان التجوال أمتع.. اليد في اليد والروح في الروح.. فجأة حين وصلنا إلي نهاية الشارع وتذكرت المكان.. كان يغور في منطقة مظلمة من الوعي. أخذت أدقق وأتمعن في المحلات ودكاكين الخضر والفاكهة. أليست هذه هي المنطقة التي كنا نأتي إليها أنا وأبي، لبيع البصل؟ نعم هي كيف تنسي إلي هذه الدرجة.؟
قبل ذلك كنت قد تذكرت، وحكيت لها عن مولدي بنبوءة من سيدنا الحسين، حين زار أبي (الذي كان قد فقد الأمل في الإنجاب) في المنام، فأخبره أنه سيرزق بمولود وعليه أن يسميه باسمه. حين ولدت كان جدي قد مات وكان لابد من تخليد اسمه، فلم يسمني باسم الحسين، لكنه نذر ان يطاهرني بجواره وهذا ما أذكره بكل وضوح. أول ألم عظيم في حياتي.
وحكيت لها عن زيارتنا السنوية لمولد الحسين. وإقامتنا لمدة أسبوع في شارع أم الغلام عليٌ رصيف الشارع الضيق نجلس وننام (في الخدمة) حتي الليلة الكبيرة. وعدتها أن نزور معا أم الغلام.. لم نفعل لأن القبلة جاءت في المرة الثالثة امام مسجد المعز. بعدها لم نذهب الي هناك.
هل كانت القبلة مقدسة ام مسمومة.. قادتك إلي عشق مجنون أيقظ روحك، أعاد إليك الأمل في الحياة، وعشت شهورا من مشاعر الحب العنيف المضطربة المتقلبة بين المتعة والخوف والقلق والانتظار.. كان عشقا بلا أمل في المستقبل، لكنك غامرت بالولوج دون حساب للعواقب. لم يكن امامك غير ذلك. كانت ساحرة وكنت راغبا مسحورا. وتذوقت السم المقدس ثم اخذت تتجرعه قطرة قطرة حتي تشبع جسمك. ومع ذلك فإنك لم تمت حتي الآن. هل يرعاك من كان ينبغي أن تكون سميٌه؟ أم أن الأمل الذي استيقظ في الحياة، أصبح قادرا علي حمايتك وتحويل السم إلي بلسم؟
هبة
وقفت في منتصف الصالة لا تحرك ساكنا، بدا واضحا أنها فوجئت بوجودي فأرخت رموشها، ولكن مشيتها كانت مترددة في انحاء الصالة. كانت ترتدي فستانا جميلا لا أدري ما الذي شدني فيه. ثمة صلة ما بيني وبينه. كان فستانا احمر غامقا، تقليديا ولكنه كان جميلا.
حاولت أن أشد انتباهها بطرق شتي: لوحت بيدي، ومططت شفتي بالطريقة التي تحبها. لكن ذلك كان دون جدوي. تركت موقعها وتحولت إلي جدتها وارتمت في أحضانها.
كانت قد جاءت مع خالتها التي حكت أنها نادت علي عدة مرات عندما مرت أمام بيتي، لكني لم أحبها فذهبت إلي بيتهم غاضبة مني تبكي وتصيح: سيد ما ردش علي هبة.
قفزت من مكاني، وذهبت إليها وحملته بين ذراعي واحتضنتها بقوة فلم تتأب وبعد وقت قليل كانت طبيعية تضحك وتلهو. لكن كلما سألتها عن سبب غضبها مني، كانت تصمت.
سألتها: مين جاب لك الفستان الحلو ده، أرخت جفونها وقالت: سيد، بخفوت، قالت أمي: فستان عمتها المرحومة هبة. تذكرت أنني كنت قد اشتريته لها من باريس منذ خمسة عشر عاما، لكنها لم تلبسه قط. فقد كان صغيرا عليها. كانت في الثالثة، حين اشتريته، ولم اكن أدري أنه لطفلة في الثانية من عمرها.
كان لابد لأبي أن يموت في غيبتي. كان هذا يقينه طوال الأربعين سنة الأخيرة من حياته، وكذلك من حوله من البشر لأنه رفض أن يذهب إلي أبيه لحظة احتضاره، فمات دون أن يرضي عنه. ولقد حاولت منذ أدركت هذا الهاجس أن أخلف النبوءة، فرفضت أسفارا كثيرة في الخارج ، وداومت علي الحضور إلي البلدة بانتظام مطلق، كل أسبوع أو كل أسبوعين، حسب الظروف، وحينما أصبح ممكنا أن تتعامل قريتنا مع التليفون، أدخلت واحدا إلي منزلنا، ومع كل ذلك فقد وقعت النبوءة بإرادتي وعلمي ويقيني. فحين تركته لأذهب إلي عمل (ربما كان هاما، ولكني علي كل حال لم أتمه بسبب الوفاة) في هذا الوقت، كان قد توقف عن تناول الطعام او الشراب، وكان واضحا أن الموت قادم يقينا، وإن لم يكن معلوما متي بالضبط. لذلك سافرت. وحين أبلغت أنه في حالة متأخرة، سارعت بالحضور، فوجدته قد مات. وكان كما أكدوا يسأل إذا كنت قد حضرت حتي لفظ أنفاسه الأخيرة بهدوء وبطء. ولست أدري منذ ذلك الحين إن كان قد مات راضيا عني أم لا؟
قبلة
كانت القبلة الأولي أمام مسجد المعز، فوجئت وبدا أنها قد اندهشت من أن يحدث هذا في هذا المكان.. المقدس.
لم تكن المرة الأولي التي نذهب فيها إلي شارع المعز. كانت الثالثة. في المرة الأولي تجولنا في الشارع حتي قرب النهاية، لكني كنت مرهقا ولم استطع الاستمرار في حين كان شوقها جارفا للاحتضان ولو في وسط الشارع. في المرة الثانية، كان التجوال أمتع.. اليد في اليد والروح في الروح.. فجأة حين وصلنا إلي نهاية الشارع وتذكرت المكان.. كان يغور في منطقة مظلمة من الوعي. أخذت أدقق وأتمعن في المحلات ودكاكين الخضر والفاكهة. أليست هذه هي المنطقة التي كنا نأتي إليها أنا وأبي، لبيع البصل؟ نعم هي كيف تنسي إلي هذه الدرجة.؟
قبل ذلك كنت قد تذكرت، وحكيت لها عن مولدي بنبوءة من سيدنا الحسين، حين زار أبي (الذي كان قد فقد الأمل في الإنجاب) في المنام، فأخبره أنه سيرزق بمولود وعليه أن يسميه باسمه. حين ولدت كان جدي قد مات وكان لابد من تخليد اسمه، فلم يسمني باسم الحسين، لكنه نذر ان يطاهرني بجواره وهذا ما أذكره بكل وضوح. أول ألم عظيم في حياتي.
وحكيت لها عن زيارتنا السنوية لمولد الحسين. وإقامتنا لمدة أسبوع في شارع أم الغلام عليٌ رصيف الشارع الضيق نجلس وننام (في الخدمة) حتي الليلة الكبيرة. وعدتها أن نزور معا أم الغلام.. لم نفعل لأن القبلة جاءت في المرة الثالثة امام مسجد المعز. بعدها لم نذهب الي هناك.
هل كانت القبلة مقدسة ام مسمومة.. قادتك إلي عشق مجنون أيقظ روحك، أعاد إليك الأمل في الحياة، وعشت شهورا من مشاعر الحب العنيف المضطربة المتقلبة بين المتعة والخوف والقلق والانتظار.. كان عشقا بلا أمل في المستقبل، لكنك غامرت بالولوج دون حساب للعواقب. لم يكن امامك غير ذلك. كانت ساحرة وكنت راغبا مسحورا. وتذوقت السم المقدس ثم اخذت تتجرعه قطرة قطرة حتي تشبع جسمك. ومع ذلك فإنك لم تمت حتي الآن. هل يرعاك من كان ينبغي أن تكون سميٌه؟ أم أن الأمل الذي استيقظ في الحياة، أصبح قادرا علي حمايتك وتحويل السم إلي بلسم؟
هبة
وقفت في منتصف الصالة لا تحرك ساكنا، بدا واضحا أنها فوجئت بوجودي فأرخت رموشها، ولكن مشيتها كانت مترددة في انحاء الصالة. كانت ترتدي فستانا جميلا لا أدري ما الذي شدني فيه. ثمة صلة ما بيني وبينه. كان فستانا احمر غامقا، تقليديا ولكنه كان جميلا.
حاولت أن أشد انتباهها بطرق شتي: لوحت بيدي، ومططت شفتي بالطريقة التي تحبها. لكن ذلك كان دون جدوي. تركت موقعها وتحولت إلي جدتها وارتمت في أحضانها.
كانت قد جاءت مع خالتها التي حكت أنها نادت علي عدة مرات عندما مرت أمام بيتي، لكني لم أحبها فذهبت إلي بيتهم غاضبة مني تبكي وتصيح: سيد ما ردش علي هبة.
قفزت من مكاني، وذهبت إليها وحملته بين ذراعي واحتضنتها بقوة فلم تتأب وبعد وقت قليل كانت طبيعية تضحك وتلهو. لكن كلما سألتها عن سبب غضبها مني، كانت تصمت.
سألتها: مين جاب لك الفستان الحلو ده، أرخت جفونها وقالت: سيد، بخفوت، قالت أمي: فستان عمتها المرحومة هبة. تذكرت أنني كنت قد اشتريته لها من باريس منذ خمسة عشر عاما، لكنها لم تلبسه قط. فقد كان صغيرا عليها. كانت في الثالثة، حين اشتريته، ولم اكن أدري أنه لطفلة في الثانية من عمرها.