حافظ الأسد البعثي وآل مخلوف القوميون السوريون
بقلم: باتريك سيل
في عام 1958 كان الملازم [حافظ] الأسد مصمماً على الزواج من أنيسة مخلوف التي عرفها منذ الطفولة، ثم اختارها دون غيرها وهو في أوائل العشرينات من عمره. كانت إحدى قريباته البعيدات، فعمته سعدى كانت قد تزوجت واحداً من آل مخلوف، وهي صلة أتاحت للأسد أن يقوم بعدة زيارات استطلاعية إلى بيت أنيسة في بستان الباشا. ووقع في حبها بعد عودته من دورته التدريبية في مصر. كانت مدّرسة ذات سلوك رزين محتشم، وكانت شابة رشيقة ذات شعر بني تقاربه في العمر، وقد تلقت ثقافة محترمة في دير راهبات القلب الأقدس الفرنسي في بانياس على الساحل، إلا أن عقبات كثيرة كانت تقف في طريق هذا الزواج، ولكن هذه العقبات زادت تصميم الأسد على التغلب عليها.
كانت العقبة الأولى هي أنه برغم قرابتهما فقد كانت عائلتها أبرز وأغنى من عائلته. وفي الأسر العربية الواسعة لم يكن من الغريب أن ينجب أحد فروع العائلة مثلاً جراحاً متميزاً، بينما يتكون فرع آخر من الفلاحين البسطاء الذين ينتزعون معيشتهم من الحقل. ولم تكن الفجوة بين آل مخلوف وآل الأسد كبيرة جداً بأي حال، ولكنها كانت حقيقية. ولم تكن عائلة الأسد ذات الأصل الفلاحي كبيرة ولا غنية، رغم أنها كانت قد كسبت على أرضها سمعة متواضعة في أنها وقفت بوجه الوجهاء. أما أهل أنيسة فكانوا هم أنفسهم من الوجهاء المحليين المعروفين بإحدى الصفات الفاضلة التي يقدرها العرب جميعاً، وهي الكرم، وبالمعنى الحرفي الدقيق للكلمة فعندما أصيبت المنطقة بالمجاعة خلال الحرب العالمية الأولى، كان كثير من القرويين الجائعين يأتون إلى منزل جد أنيسة الغني للحصول على الطعام. ومنذ ذلك الحين أصبحت العائلة تعرف باسم (مخلوف) أي “الذين أخلف الله لهم ما أنفقوا”، وهذا مشتق من التعبير الدارج بالعامية: “خلف الله عليك” وقد حافظت العائلة على هذا الاسم ومعه تقليد الكرم واليد المبسوطة بالعطاء. فكان لدى والد أنيسة وعمها بيوت مفتوحة لإطعام الفقراء تفرد فيها غرف لإيواء المعوزين، ولم يكن أحد يغادر باب العائلة وهو جائع. وكانت العقبة الأخرى الخلافات السياسية التي ذكرناها بين الأسرتين، ولذلك فإن خاطباً بعثياً لأنيسة لم يكن البتة ليعجب عشيرة مخلوف، المعرفة بتعاطفها مع الحزب القومي السوري، فقد دفع واحد منهم حياته ثمناً لعقيدته في أعقاب اغتيال [عدنان] المالكي. فبديع مخلوف، ابن عم أنيسة، كان هو الذي أجهز على قاتل المالكي تنفيذا لتعليمات الحزب القومي السوري. وكان أن حوكم وحكم عليه بالإعدام، وقضى على حبل المشنقة. وقد اعتبرت أسرة مخلوف هذا الابن شهيداً في سبيل قضية الحزب القومي السوري، ولم يكن ذلك ليساعد الأسد في مسألة زواجه.
صمم والد أنيسة، أحمد مخلوف، على معارضة هذا الزواج. ولكن من حسن حظ الأسد أنه كان له حلفاء في أسرتها من بينهم عمته سعدى، وأم أنيسة التي أعجبتها صفاته. فقد كان شاباً يوحي بالثقة ولم يُعرف عنه ارتكابه لمغامرات طائشة أو غلطة في السلوك أو بذاءة في اللسان. كما لم تسمع عنه أية علاقة نسائية أو أنه كان يرتاد المقاهي والملاهي، فحتى خلال وجوده في مصر، حيث التساهل في الأخلاقيات، كان معروفاً بأنه طالب مثالي. ويبدو أنه لم يكن مهتماً بالانخراط في تجارب جنسية، فمنذ سن مبكرة كان يتطلع إلى زواج مستقر يتيح له أن يتفرّغ للإنجاز في حياته المهنية، ولا أدل على ذلك من أن اختياره وقع على فتاة هادئة، رزينة، وذات سمعة نقية مثله. أما من جهتها هي فقد كانت تتمتع باستقلال فكري وتجيد الحكم على الناس. ولاشك في أنها أعجبت بذكاء خاطبها الذي لم تكن فيه أية مسحة من غلظة القرية، والذي جعله طموحه يتميز عن أكثر الشباب العلويين من معارفها، الذين كانوا ولا يزالون مشدودين إلى بيئتهم. والأعجب من ذلك أن الأسد كان يبدو مختلفاً حتى عن أقرانه الشباب الذين قطعوا مثله صلتهم بنمط حياة القرية عن طريق العلم، والأحزاب العقائدية، والجيش. فأكثر هؤلاء كان يتصورون أن وضعهم الجديد يحتم عليهم أن يتهكموا على شيوخهم وعلى العادات القديمة، ويتخلوا عن معتقداتهم الدينية، بل أن يحتقروا القباب البيضاء التي تضم الأولياء، وهي الرموز الوحيدة في الجبل العلوي، أما الأسد فلم يكن من هؤلاء الشباب في شيء، ويبدو أنه لم يفقد قط إيمانه بالله.
استمر الصراع من أجل أنيسة، وأخيراً تمكن الأسد من التغلب على شكوك أسرتها، فحملها إلى دمشق وتزوجها أمام القاضي، وأقاما بيت الزوجية على أطراف المزة الفقيرة. وكان ذلك بالنسبة إليها هبوطاً لا يستهان به من منزلة الدعة والاحترام والراحة التي كانت تتمتع بها كابنة أحد الوجهاء. وفي سنوات زواجهما الأولى لم يكن الأسد قادرا على تأمين مستوى الحياة التي اعتادت عليه. ولم يكن يثبط من عزيمتها، كما لم تثبطها تذبذبات حياته العسكرية والسياسية في مدها وجزرها. وقد قدر لها أن تكون زوجة وأماً مخلصة، وأقرب وأوثق كاتمة لأسرار الأسد، وأن تقدم له بيئة منزلية محترمة لا تشوبها شائبة.
ورغم أنه كان زواجاً عن حب، فإن مصاهرة الأسد لعشيرة مخلوف المحترمة قد عادت عليه بفوائد دنيوية، فقد أكدت انتقاله إلى طبقة اجتماعية أرقى وأكسبته بعض النقاط في المجتمع العلوي، ولاشك أنها أسمهت في ازدياد ثقته بنفسه.
________________________________________
من كتاب (الأسد: الصراع على الشرق الوسط) طبعة دار الساقي – لندن 1989
موسوعة الأكاذيب الأسدية “فبركة” باتريك سيل؟
د . محيي الدين اللاذقاني
ذات يوم قرر مصطفى طلاس أن يسرد أمجاده الشخصية، لتستفيد الأمة من خبرة “أبو النياشين”، فكتب – افتراضياً – مذكراته ودبجها، وطبعها وأدخلها إلى سوريا ليوزعها، وهو يظن نفسه صاحب كلمة، لكن لدهشته منعت وزارة الإعلام توزيعها في بلد هو وزير دفاعه، مع أن جلّها إن لم يكن كلها في مديح نفسه، ومديح سيده لكن ما لم ينتبه له العماد الذي لم يقاتل في أية معركة، إلا في المَخادع إن جملة واحدة منعت مذكراته في حكاية رواها، وهو يسرد أيامه الذهبية مع حافظ في الكلية العسكرية بحمص، حيث كان طلاب الكلية كما قال يتناطحون، ولم يكن يستطيع أحد أن يتفوق على المقبور في القرداحة بالمناطحة.
وطبعاً المعلومة صحيحة، فالأسد كان يرفس وينطح، ويقتل دون رادع، لكن لم تجد الوزارة من اللائق أن يشتهر رئيس الدولة بالنطاح كالثيران، فمنعت الكتاب لتمهد الأرض لفرض سيرة الأسد الأب، كما أحبّ أن يرويها بقلم منافق بريطاني محترف، يعرف كيف يمرر المعلومات الكاذبة بألف أسلوب، وهذه ميزة لا يجيدها إلا كبار المنافقين في العالم. وكان باتريك سيل الذي كتب سيرة الأسد في موسوعة ضخمة من ثمانمائة صفحة ونيف أحدهم، لكنه والحق يقال احتاط لنفسه، وبدل أن يقول بتهذيبه الإنكليزي المعروف اعذروني، إن كذبت كثيراً في هذا الكتاب، اختار أن يقدم لكتاب سفاح سوريا بعبارة لأوسكار وايلد: “الحقيقة لا تكون صرفة أبداً، وهي قلما تكون مجردة”.
ولا أكتمكم أني كنت مثل كثيرين يعتقدون أن النفاق للحاكم صفة عربية قحة، لا يباري فيها قومنا أحد، لكني بعد التعرف على صحافيين وكتاب من عينة باتريك سيل وروبرت فيسك، الذي رافق القتلة على ظهر دبابة للجيش من دمشق، ليشهد مجازر الشبيحة المروعة في الغوطة تغيرت نظرتي كلياً، وخفضت نسبة النزاهة عند الصحافي والكاتب الغربي لأقل من الربع، ورغم هذا الحذر ما أزال أجد باتريك سيل متفوقاً في الكذب والتزوير والفبركة، على كثيرين من كبار المنافقين في العالم.
في كتاب “الأسد.. الصراع على الشرق الأوسط”، تفوق باتريك سيل على نفسه في سرد الأكاذيب، وتبريرها، وإيجاد مخارج منطقية تنافي المنطق، ففي أشهر واقعة معروفة عن إعلان سقوط القنيطرة قبل أن تسقط في يونيو – حزيران في عام النكسة، يتعرض كاتب سيرة الأسد لقصة لا يمكن تجاهلها؛ لأنها دمغت الأسد الأب بالخيانة منذ ذلك التاريخ، وعند ذكرها اكتفى سيل بالقول: “أذاع راديو دمشق بلاغاً من وزارة الدفاع، أعلن فيه أن القنيطرة قد سقطت، ومهما يكن مصدر هذا البلاغ فقد كان غير صحيح”.
ولا شك أن أول سؤال يقفز إلى ذهن القارئ بعد عبارة من هذا النوع هو: كيف لا يكون البلاغ صحيحاً، وهو صادر عن وزارة الدفاع ومُذاع من راديو دمشق الرسمي؟ وهذا اعتراض لا يقف عنده الكاتب، فأفضل وسيلة للتدليس عن أية قضية، هي أن تزرع الشكوك حولها، وتقفز منها إلى غيرها، بعد أن تثبت في الأذهان معلومة خاطئة؛ لذا يسارع سيل إلى “التفلسف” حول ذلك القرار الكارثة متسائلاً: ولكن هل كان البلاغ الكاذب عن سقوط القنيطرة غلطة مقصودة؟
وحتى في هذه المقاطع التي نشرتها مجلة “الوسط” في أواخر ثمانينات القرن الماضي، وهي مقتطفات من الكتاب بعد صدوره بعام، والتي تقدم صورة رومانسية للأسد العاشق، وزواجه من الفتاة التي أحبها، لابد أن يلاحظ القارئ كيف يتحايل باتريك سيل على الأحداث، ويدغمها كي لا يروي حقائقها كاملة، فأنيسة مخلوف ليست ابنة عمته سعدى، كما يشاع، لكنها إحدى زوجات أحمد مخلوف والد أنيسة، لكن هل كان الزواج شرعياً بموافقة العائلة، أم “خطيفة” كما يقال في العامية السورية، حين يكون الزواج دون موافقة الأهل؟
وأمام هذا الموقف المربك، وبعد أن تم الزواج، وصار للأسرة أولاد منهم السفاح الحالي، وجد مؤلف سيرة الأسد، أنه لا يستطيع بناء على أوامر السلطان الذي يضرب بسيفه أن يتبنى فكرة “زواج الخطيفة”؛ لذلك لفلف القصة، وبعد أن ذكر بعض الخلافات المتعلقة بالمستوى الطبقي المتدني لعائلة الأسد أمام المخلوفيين، وأثنى على الفتاة “الذكية النقية” أنيسة مخلوف، وجد أنه من الأفضل أن يختصر الزواج بعبارة قصيرة، فقال: “استمر الصراع من أجل أنيسة، وأخيراً تمكن الأسد من التغلب على شكوك أسرتها، فحملها إلى دمشق، وتزوجها أمام القاضي”.
وهنا لك كامل الحق، أن تسأل المؤلف: “هل تصدق نفسك يا باتريك؟ ولماذا لا تروي الحقيقة كما هي، فإن كان قد تغلب على شكوك أسرتها، لماذا لم يتزوجها في القرداحة، أو في بستان الباشا، حيث تقيم أسرتها؟ وقطعاً لن يجيبك المؤلف الذي كتب كتاباً ضخماً في مديح أكبر سفاح في الشرق الأوسط بعد ابنه عن هذا السؤال، فأنيسة يجب أن تظل نقية، والنقيات الذكيات لا يتزوجن “خطيفة”، دون موافقة الأهل.
أما أغرب مبالغات المنافق الإنكليزي الذي تفوق على نفسه، وأقرانه بالنفاق فهو اجتهاده في تصوير أنيسة بأسلوب أسطوري، وحرصه على رواية حلم لها، حلمت به قبل ليلة من قيام بعلها بالحركة التخريبية، وفي الحلم كانت أنيسة تسير في الشارع، فرأت حشداً يشخصون بأبصارهم نحو وجهة واحدة، فلما اقتربت، وجدت علبة فيها ثقب صغير، فوضعت عينها على الثقب، وهناك تراءى لها المسجد الأقصى في القدس، فأمسكت بالعلبة ثم استدارت إلى الخلف، فوجدت زوجها يقف وراءها، فدفعت إليه بالعلبة، وفي الصباح قصّت عليه حلمها، وقالت: “إنك منتصر على أعدائك، وسوف تكون أقوى زعيم عربي”.
وإن كنت مبالغاً في حسن النية، تستطيع أن تبرر لباتريك سيل هذه الكذبة الرمادية، لكن ماذا عن الأكاذيب الأخرى، وكلها من النوع الثقيل “المفبرك”، وغير القابل للتصديق ومن ذلك مثلاً أن عائلة الأسد تنحدر من أعرق القبائل العربية، وبعد عامين من صدور الكتاب، يقول شقيقه الأصغر جميل، إن جدهم الأكبر جاء من منطقة “بهرز” في شمال العراق، وتلك منطقة ليس فيها رائحة لا للعرب، ولا للعروبة، وعلى إثر ذلك الاعتراف، صار لقبهم عند السوريين بيت البهرزي.
لقد كان مطلوباً من الكاتب أن يجد لهم نسباً عربياً خالصاً، وأن يؤلف، أو ينقل عنهم مجموعة أكاذيب عن كيفية تغيير اسمهم من بيت الوحش إلى بيت الأسد، وأن يؤلف مجموعة أساطير عن جدهم البارع بالرماية، لدرجة أنه كان يستطيع بمسدسه القديم أن يصيب مسلة، أو إبرة على جذع شجرة من مسافة مئة متر! وهذا الجد المغوار نفسه قام بصد كتيبة للفرنسيين، مع ثلة من أصحابه بالسيوف، والمسدسات العتيقة.
وعلى من صدّق هذه الحكاية في الزمن القديم، أن يتذكر أنه بعد قيام الثورة، لطم المندوب الفرنسي مندوبهم الجعفري أبا شهرزاد على وجهه في مجلس الأمن، حين ذكّره بوجود وثيقة في الخارجية الفرنسية، تثبت أن جد العائلة كان من الموقعين على وثيقة، تطالب باستمرار الانتداب الفرنسي، وعدم إلحاق مناطقهم بالدولة السورية في دمشق، مما يعني باختصار، أنهم كانوا- وخلافاً لباتريك سيل الذي سربلهم بالوطنية والقومية، ورسم صورتهم كما يريدون – مجرد عملاء صغار للفرنسيين، وخونة بالوثائق من الجد للولد للحفيد، وهاهم ما زالوا، كما أثبتت التطورات والوثائق والحقائق بعد الثورة السورية العظيمة أسرة خيانة، وعمالة للأجنبي إسرائيلياً كان أو إيرانياً، أو فرنسياً، وها هو تاريخهم وحاضرهم، يثبت لمن ما يزال عنده بعض الثقة بهم، وبأبواقهم أنهم مستعدون للتعاون، وتقديم الخدمات لكل من يدفع لهم، ليحافظوا على نفوذهم المشبوه، والمحمي من قوى دولية غامضة، عقد معها الأسد الأب صفقته المشينة، أثناء زيارته السرية إلى لندن قبل عامين من نكسة يونيو – حزيران، ولم يكن بلاغ سقوط القنيطرة قبل ثلاثة أيام من دخول الإسرائيليين إليها إلا أول دفعة على الحساب