الكتاب الذي عكف على كتابته عدد من أساتذة الجامعة المتخصصين وشارك فيه وحرره الباحثان ليو تشونغ شو، وشيوي تسو هوا، صدر أخيرا عن مؤسسة بيت الحكمة بالتعاون مع منشورات الضفاف ومنشورات الاختلاف، بترجمة وتقديم نجاح عبداللطيف ومشاركة هدير مصطفى وإيمان محمد وهبة حنفي، وجاء في ثمانية أبواب يحمل كل منها عنوانا مفصليا تندرج تحته محاور/ فصول تتناول تاريخ الأدب الصيني، متتبعة وجود وتطور تياراته الأدبية الحديثه بأكملها، باعتبار هذه التيارات في الأدب الصيني الحديث ظاهرة أدبية مستقلة، ولها عواملها ومدلولاتها التي تنفرد بها.
ينطلق الكتاب من التنوير الذي نشأ في فترة حركة الرابع من مايو: نشأته، أسبابه، مسيرته، رواده، أهدافه، وأهم الأعمال الأدبية التنويرية التي كان للوشون نصيب الأسد فيها، كما يتناول أيضًا كيف تأثر التنوير الصيني بالتنوير الغربي واختلف عنه في الوقت نفسه.
وقد أشارت المترجمة نجاح عبداللطيف في مقدمتها أنه "في الوقت الذي كان فيه التنوير الأوروبي يسعى إلى التحرر من الدين والكهنوت، وكان الهدف الذي تصدى له التنويريون هو النص العقائدي والكنيسة ورجال الدين كان التنوير في الصين يهدف في البداية إلى التحرر من التعاليم الإقطاعية؛ لذلك كان هجوم المفكرين الرواد موجها بالأساس إلى التعاليم الكونفوشيوسية والأنظمة العشائرية وعاداتها السيئة. وبالطبع فإن الهدف الأساسي للتنوير هو تحرير الفرد وحريته، ولكن اختلاف الظروف جعل مضمون التنوير في الغرب مختلفا عنه في الصين؛ "بينما كان علماء التنوير الأوروبيون في القرن الثامن عشر متعطشين لتحرير أنفسهم من أغلال الأفكار الدينية، كان المثقفون الصينيون يناضلون من أجل تحسين عبوديتهم التي كان منبعها سلطة الأسرة وليس الاستبداد الثيوقراطي، وأكسبت الاختلافات في الظروف التاريخية التنوير مضامين مختلفة؛ ففي عصر كانط، كان التنوير يعني صحوة، واكتشاف الحقيقة من مملكة الطبيعة واستبدال الخرافات الدينية بالحقيقة.
وفي الصين في القرن العشرين، كان التنوير يعني خيانة؛ لأنه يريد تحطيم أغلال تقاليد إقطاعية عمرها ستة آلاف سنة، والمتمثلة في علاقة الحاكم بالرعية، والأب بأبنائه، والزوجة بزوجها." يمكن القول إن "الديكاميرون" لبوكاشيو و"يوميات مجنون" للوشون هي رمز للاختلافات بين التنوير الغربي والتنوير الصيني، ومن يبحث في حركة تنوير الرابع من مايو لن يمكنه أن يقطع بكل بساطة أن مفكري التنوير في ذلك الوقت لم يفعلوا شيئا إلا أنهم نسخوا الخطاب الغربي، لقد هاجموا تقاليد الكونفوشيوسية؛ لأن هذا النوع من النظريات الحامية للأخلاق السلفية والمتشبثة في جمود بالالتزام بالقديم وصلت إلى طريق مسدود، والأزمة التي كانت تواجه البلاد آنذاك وتنذر بسقوطها لم تكن لتسمح بالتغطية على العيوب، ولم يكن بالإمكان والحال هكذا إلا لفظ القديم".
ويناقش الكتاب مسألة أدب العامية، حيث يعرض الأسباب وراء الدعوة إلى استبدال اللغة الكلاسيكية باللغة العامية في الكتابة، ويوضح لنا كيف أدى التحول الاجتماعي والثقافي وما نتج عنه من تدفقٍ في الأفكار الجديدة إلى أن تصبح لغة الأدب الصيني التقليدي أي اللغة الكلاسيكية عاجزة عن عكس واقع التغيرات الاجتماعية والتاريخية والتعبير عن المحتوى الجديد للأفكار، وصار من الصعب بشكل متزايد تلبية المتطلبات الجديدة للأدب في العصر الجديد؛ مثل ظهور مفاهيم جديدة ومصطلحات جديدة لا سبيل للغة الصينية الكلاسيكية أن تستوعبها؛ فقد كانت التغيرات في مفاهيم حياة الناس والعادات النفسية وإيقاع المجتمع يتطلب من اللغة الأدبية أن تكون موجزة ومباشرة.
ويوضح عيوب الكتابة بالكلاسيكية القديمة ومزايا استخدام العامية، ويتعرض إلى الدعوة إلى "أوْرَبة" العامية؛ ففي ذلك الوقت، كانت الأوْربة من وجهة نظر كتاب ذلك العصر حتمية أيضًا، "بعض من كتاب العامية في بداياتها تدربوا على الكتابة الأجنبية، لذلك حملت كتاباتهم مكونات أوروبية ليست بالقليلة، وإن اختلفت درجاتها". ومن حيث ثمار الإبداع، "كل الكتاب الذين استوعبوا تمامًا مهارات قواعد الأدب الغربي جاءت إبداعاتهم جيدة للغاية وأساليبهم كانت دائمًا غاية في اللطف".
ويستعرض الكتاب مسيرة تطور التيار الأدبي الواقعي الصيني الحديث، وكيف أن الواقعية تتمتع بمكانة عالية على مستوى تاريخ الأدب الصيني الحديث بأكمله، كما أنها تشغل نسبة كبيرة جدًّا منه مقارنةً بسائر التيارات الأدبية. ومنذ عشرينيات القرن العشرين وحتى الأربعينيات، كانت الواقعية - التي كان يطلق عليها في البداية اسم "كتابة الواقع" - تتلوى وتتعرج حتى أصبحت تدريجيًّا الاتجاه الرئيس للأدب الصيني الحديث. ويوضح تأثر الواقعية الصينية بالواقعية الروسية، وإبداعات لوشون المتميزة والمختلفة وإسهاماته الواقعية. اهتم لوشون أيضًا بالنفعية في الأدب، وطالب بأن يكون للأدب معنى مفيد، وكان يرى أن الأدب مفيد لـ"الثورة الفكرية"، لكنه عارض أن يصبح الأدب مجرد أداة دعائية أو تحريضية، وأكد ضرورة تعلم تلك الواقعية الصحيحة من الأعمال الأدبية الأجنبية، والوصف كما الواقع، والكتابة بدون تزييف في الروح، كما كان شديد الإعجاب بأن يمزج الكاتب وصفه للواقع بروحه. لقد كرَّس لوشون نفسه لنقد "سمات الشخصية الوطنية" المتخلفة، والتركيز على إبراز "روح الشعب"، ومن ثم، وجه الواقعية إلى وعي عالٍ هادف يشرِّح المجتمع ويعكسه.
وتعد الواقعية التيار الرئيس في النصف الثاني من السنوات العشر الثانية من عمر الأدب الصيني الحديث، و"كان كتابها الأساسيون الذين شكلوا جوهر هذا التيار وتحكموا فيه ككل هم الكتّاب اليساريون ومجموعة كتاب من خارج "الاتحاد اليساري". ولم يتوقف الرعيل الأول من الكتاب الواقعيين، مثل لوشون، وماو دون، ويه شينغتاو، ووانغ تونغ تشاو، ووانغ لويان، ووانغ رينشو، ولاو شيه، ولي جييه رين، وغيرهم عن فتح طرق جديدة وإحداث أثرٍ خلال تلك الفترة، وفي الوقت نفسه، ظهر عدد كبير من الكتاب الجدد أصبحوا قوة مهمة في إبداع الواقعية، مثل دينغ لينغ، وباجين، وتشانغ تيان يى، وشا تينغ، وآي وو، وتساو يو، يي تسي، ولوه شو، وو تسو شيانغ، وأُو يانغ شان، وشياو جيون، وشياو خونغ، ودوانمو خونغ ليانغ، وشي توه، وشياو قان وغيرهم، وكان لكل من هؤلاء أسلوبه الخاص فور ظهوره، ومدرسته الخاصة في توجه مختلف نحو الواقع.
الأدب الليبرالي الصيني يشير في مجمله إلى الأدباء المستقلين والمدارس الأدبية غير المتماسكة، التي ظهرت في تاريخ الأدب الصيني المعاصر، والمتأثرة بشكل عميق بالفكر الليبرالي الغربي ومفاهيمه الأدبية
ويتناول الكتاب التيار اليساري الصيني الذي ظهر مع التطور السريع للحركة الثورية البروليتارية في الصين في النصف الثاني من عشرينيات القرن العشرين، وهو التيار الأدبي الأكثر تأثيرًا في تاريخ الأدب الصيني الحديث بعد حركة الرابع من مايو. وفي خلال "العقد اليساري"، شهدت الأيديولوجية الموجهة لتطوير الأدب الصيني الحديث تغييرات كبيرة، مما أدى إلى إعادة تعريف الأدب، والتأكيد من جديد على اتجاه الإبداع الأدبي والفني، وإجراء تعديلات في أساليب سرد الرواية، كما أثرت هذه الأيديولوجية في مسار تطور الأدب الصيني في النصف الثاني من القرن العشرين وقيَّدت من مضمونه إلى حدٍّ بعيد.
وهنا يتتبع نشأة التيار اليساري، والجدل حول تاريخ بدايته ونهايته، والعوامل التاريخية التي كانت تقف وراء ظهوره، والدعاة إليه والجماعات الأدبية التي كان لها ميول بروليتارية واضحة، وكيف تأثر تيار الأدب اليساري في الصين بالحركة الأدبية العالمية للطبقة البروليتارية تأثيرًا كبيرًا؛ ففي العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين بلغ مدُّ الحركة الثورية العالمية للطبقة البروليتارية حدًّا غير مسبوقٍ؛ فلقد حققت ثورة أكتوبر الروسية، والثورة الاشتراكية في دول أوروبا الشرقية نجاحات متتالية، ودفعت بسرعة بتطور القوة الثورية البروليتارية الدولية، ومن ثم تشكَّل مدٌّ للثورة "الحمراء" عظيم الزخم امتد للعالم كله محققًا "أول حركة ثورية بروليتارية سياسية، جماهيرية واسعة النطاق في تاريخ البشرية". وباعتبار التيار الأدبي اليساري الصيني انعكاسًا للحركة الأدبية البروليتارية الدولية في الصين، لذلك يعد جزءًا مهمًّا من هذه الحركة.
ويتتبع الكتاب الحداثة في الأدب الصيني؛ والتي حمل شعلتها كُتاب سبق لهم أن درسوا في الخارج وتأثروا بالحداثة هناك؛ فخوشي كان يدرس في الولايات المتحدة، ولوشون في اليابان، ومعظم كتاب جماعة الإبداع سبق لهم أن درسوا في اليابان. وعلى الرغم من أن الواقعية والرومانسية حظيتا باهتمام عام بعد ثورة الرابع من مايو الأدبية، فإن الأدبيات الجديدة كانت قد انتبهت بالفعل إلى التوجه نحو حداثة العالم الأدبي الأوروبي والأميركي، بل وقدَّمتها إلى ساحة "الرابع من مايو" الأدبية. ولقد أطلق معظم كُتَّاب فترة الرابع من مايو على الحداثة مصطلح "الرومانسية الجديدة" واعتبروا "الرومانسية الجديدة" اتجاهًا جديدًا للأدب الغربي بعد الواقعية والطبيعية.
ويستعرض أشهر كتاب الأدب الجديد وأكثرهم نشاطًا وتأثيرًا مثل ماو دون وقوَه موَه روَه وتيان خان ووين إي دوَه وأهم أعمالهم في هذا المجال، وتأثر كتاب الأدب الجديد بـ"أزهار الشر" لبودلير وبأعمال كيتس وأوسكار وايلد وغيرهما. ولأن الشعر كان له نصيبه من الحداثة، لذا لا يغفله الكتاب في بابه هذا؛ فيقدم لنا الشعر الرمزي ويعرفنا بـ لي جينفا الذي يعد أول من دعا إليه، ويستعرض أهم رواد الحداثة وأهم سماتها التي يمكن اختزالها في التلميح والغموض ورفض التفكير المنطقي في الشعر.
ويعرفنا الكتاب بمدرسة التسعة الشعرية ودورها في التحديث والتجديد، وهي المدرسة التي تشكلت تدريجيًّا مع ممارسة الكتابة؛ فهي لم تسمَّ بهذا الاسم من البداية، إذ ظلت تمارس الشعر دون هذا الاسم حتى جاء عام 1981 ونشرت دار نشر شعب جيانغسو مجموعة شعرية لشعرائها باسم "ديوان التسعة"، فاكتسبت المدرسة اسمها رسميًّا واكتسب شعراؤها أيضًا اسم "الشعراء التسعة".
ومن التحديث في الشعر ينتقل الكتاب إلى التحديث في الرواية؛ فيقدم لنا الرواية عند المدرسة الحسية الجديدة. ومثلما أكد الفكر الحديث بشكل عام على الإحساس بالحياة، رأى كتَّاب المدرسة الحسية الجديدة أن الناس المعاصرين عليهم أن يتعرفوا على العالم ويعبِّروا عنه من خلال حاستي السمع والبصر، أي فهم الأشياء بالحس المباشر. ومن ثم، دعوا إلى استخدام الطريقة الجديدة للإحساس بالأشياء لكي يشعروا بالواقع، ثم ينقحوا هذا الواقع ويجملوه. وبسبب طرافة هذه المدرسة في حسها، أطلق عليها المدرسة الحسية الجديدة.
ويتوقف الكتاب مع "التيار الأدبي الليبرالي الصيني" موضحا مفهوم الأدب الليبرالي الصيني الذي يُجمله في أن الأدب الليبرالي الصيني يشير في مجمله إلى الأدباء المستقلين والمدارس الأدبية غير المتماسكة، التي ظهرت في تاريخ الأدب الصيني المعاصر، والمتأثرة بشكل عميق بالفكر الليبرالي الغربي ومفاهيمه الأدبية. وبعد استعراض المفهوم يقدم مجموعة من أدباء هذا التيار والجماعات الأدبية أيضًا. ويتناول واضعي حجر أساس نظريات الأدب الليبرالي الصيني، والنظريات التي وضعوها، والاختلافات بين هذه النظريات وبعضها البعض.
وأخيرا يتناول الكاتب التيار الأدبي القومي والجماهيري: أصله ومسيرته بدءًا من الاتجاه "الشعبي" في فترة ثورة الرابع من مايو الأدبية؛ فمنذ الحركة الثقافية الجديدة "الرابع من مايو" ودعوتها إلى أن تحل العامية محل الكلاسيكية الصينية وحتى "الأدب الإنساني" و"الأدب الشعبي"، ظهر جليًّا التوجُّه نحو "الشعبية". وأول ما طور نزعة "الشعبية" في أدب حركة الرابع من مايو الجديد إلى أقصى حد، ونادى بأن الأدب في خدمة الجمهور هي النظريات الأولى للشعر البروليتاري.
----------
ميدل اييست اونلاين