لكنها أصبحت بلا عمل، حين اتخذ الرئيس قيس سعيد، في 25 يوليو الماضي، إجراءات استثنائية منها تجميد اختصاصات البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وترؤسه للنيابة العامة، وإقالة رئيس الحكومة، وتوليه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة عَيَّنَ "نجلاء بودن" رئيسةً لها.
ويقوم "المساعد البرلماني" بتغطية أنشطة كتلة برلمانية ما أو نواب غير منتمين إلى كتل، ثم نشرها عبر منصاتهم الرقمية المختلفة.
** محل صغير
تماما مثل البرلمان، أصبحت سماح "مجمدة"، لكنها لم تقف عاجزة، فطرقت أبوابًا عديدة بحثًا عن فرصة عمل في الصحافة، لكن دون جدوى.
ولم يمنعها كونها خريجة جامعية وصحفية من البحث عن بديل لكسب قوت أسرتها المكونة من أربعة أفراد، ففتحت منذ شهرين مشروعا صغيرا رفقة زوجها يتمثل في محل لبيع "الملاوي".
بعد توضيب محلها الصغير وتجهيز المعدات، تبدأ سماح عملها اليومي صباحا بإعداد عجينة "الملاوي"، فتخلط "الخميرة" مع الماء الدافئ، ثم تبلل الدقيق وتضيف قليلا من الملح.
تفرق العجينة جيدا لمدة طويلة إلى أن تصبح رطبة ولينة، ثم تتركها في طبق لمدة ساعة حتى تتخمر، وحينها تقسم العجينة إلى كرات صغيرة متساوية الحجم وترصفها بجانب بعضها.
بعد لحظات، تسحب إحدى كرات العجينة وتبللها بقليل من الزيت لتقوم بتفطيرها في شكل مربع، لتضعها بعد ذلك على "طاجن" (مقلاة مخصصة لإعداد الخبز) تم تسخينه مسبقا.
وعلى نار متوسطة، تخبز سماح "الملاوي" وتقلبه مرتين أو أكثر حتى ينضج، وتستمر في العملية لحين الانتهاء من كل كرات العجينة.
رغم كل هذه المراحل، تعتبر سماح أن الأمر سهل: "لا أجد صعوبة البتة في إعداد الخبز، فأنا امرأة مولعة بشكل كبير بالمطبخ والطبخ، أعد كل أنواع الطعام في منزلي، وحتى لمجة (أكلة خفيفة) المدرسة لبناتي أعدها في البيت".
وتضيف: "من هنا جاءت فكرة هذا المشروع الصغير الذي قررت أنا وزوجي أن نكون شركاء فيه".
وتتابع: "زوجي كان يعمل في مقهى وأصيب بأزمة صحية، لذلك لم أكن أرغب في أن يواصل عمله ذاك، ففكرنا في فتح مشروع صغير خاص بنا ببعض المدخرات الذاتية مع مساعدة أفراد عائلتينا ورأس مال بسيط لا يتعدى ألفي دينار (حوالي 720 دولارا)، ومن هنا أتت فكرة هذا المشروع الصغير الذي اخترنا أن يكون في حيّنا، ونطمح إلى أن يكون مطعما ضخما".
وبوجه تعلوه ابتسامة، تشرع سماح في تقديم طلبات لزبائن، فتبدأ إعداد "سندويش خبز الملاوي" بإضافة الهريسة الحارة أو السلطة المشوية، مع إضافة البيض المسلوق أو الجبن أو السلامي (نوع من أنواع البسطرمة) أو الجامبون (لحم)، بحسب ما يشتهيه الزبون.
وتقول سماح: "تجاربي الإعلامية كانت ثرية، فقد عملت بوسائل إعلام محلية عديدة منذ 2010، انتهت بعضها لأسباب مادية وأخرى شخصية، إلى حين استقر بي الحال مساعدة برلمانية بالبرلمان في يناير 2017".
وتضيف: "أطمح إلى العودة للعمل في مجال الصحافة طبعا، وإذا لم يكن ذلك ممكنا، فهناك على الأقل مشروع أكسب منه قوتي أنا وعائلتي".
** الضحية الأولى
وبنبرة لا تخفي حسرة، تقول سماح: "رغم أننا كنا نعمل في البرلمان وفق عقد عمل هش ودون تغطية اجتماعية، لكن على الأقل كان لدينا راتب شهري مضمون يساعدنا في تدبير أمورنا الحياتية، وأفضل من لا شيء".
وتضيف: "في يونيو (حزيران) الماضي، وقعنا عقد إسداء خدمات مع البرلمان يكون صالحا إلى 31 مايو (أيار) 2022، فجأة تأتي قرارات 25 يوليو لتقضي بتعليق أعمال مجلس النواب".
وتتابع: "كنا نحن المساعدين البرلمانيين الضحية الأولى لهذه القرارات، إذ وجدنا أنفسنا في وضعية ضبابية معقدة".
وتستطرد: "منذ تم الإعلان في الرائد الرسمي (المجلة الرسمية) عن تولي الكاتب العام للبرلمان مسؤولية الأمور المالية والإدارية، تواصلنا معه للبحث عن حلول لوضعيتنا المهنية، وتفاعل معنا في البداية بشكل إيجابي وقال إنه يتم البحث عن حلول لوضعيتنا مع رئاسة الجمهورية".
وتزيد: "بعد تسويف ووعود طوال ثلاثة أشهر، ما راعنا إلا أن يتم يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول الماضي)، إعلامنا بطردنا وبأن وظائفنا في البرلمان عُلقت وليس لنا الحق في الحصول على الرواتب.. وهكذا انتهى بنا الحال معطلين بلا عمل ولا راتب".
وتعتبر أن ما حصل يوم 25 يوليو كان مفاجئا للجميع، قائلة: "أنا شخصيا لم أتوقع حصول مثل هذه الإجراءات في تونس، صحيح أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي متردٍ لكن لا شيء يبرر إلغاء مؤسسة تشريعية بكاملها".
وترفض غالبية القوى السياسية في تونس إجراءات سعيد الاستثنائية، وتعتبرها "انقلابا على الدستور"، بينما تؤيدها قوى أخرى ترى فيها "تصحيحا لمسار ثورة 2011"، التي أطاحت بالرئيس آنذاك، زين العابدين بن علي.
ويقول سعيد، الذي بدأ في 2019 فترة رئاسية تستمر 5 سنوات، إن هذه الإجراءات ليست انقلابا، وإنما "تدابير في إطار الدستور لحماية الدولة من خطر داهم"، وفق تقديره.
** مشهد ضبابي
وتمضي سماح قائلة: "اليوم للأسف كل القوانين التي كان يسنها البرلمان سيتم تعويضها بمراسيم وأوامر رئاسية، وهذا لا يعد حلا".
وتوضح مستنكرة: "لا يمكننا اليوم إلغاء مؤسسة تشريعية (...) البرلمان التونسي سالت من أجله دماء شهداء (ثورة 2011) ليأتي اليوم أحدهم ويلغيه، كان برلمانا تعدديا وهو نموذج لكل الدول العربية".
وتختم بقولها: "اليوم نعيش مشهدا ضبابيا لا نعرف ما الذي سيحصل مستقبلا، ولا في أي وضع سيعيش أبناؤنا، هناك تشتت كبير، وحتى اجتماعيا هناك احتقان كبير".
وبعد أن وجد 29 مساعدا برلمانيا أنفسهم بلا عمل، أثار هذا الملف جدلا واسعا في تونس.
وقال كاتب عام البرلمان، عادل الحنشي، للإذاعة الرسمية في 27 أكتوبر الماضي، إن "إدارة البرلمان اتخذت هذا القرار بعد القيام بالاستشارات اللازمة مع رئاسة الجمهورية".
ونفى الحنشي، أن "يكون الأمر متعلقا بطرد موظفين في الدولة.. المسألة مرتبطة بفسخ عقود إسداء خدمات مبنية على قاعدة العمل المنجز وباعتبار تعليق كل اختصاصات البرلمان منذ 25 يوليو لم يعد للمساعدين البرلمانيين أي نشاط مع البرلمان".
وفي الربع الثالث من العام الجاري، بلغت نسبة البطالة في تونس 18.4 بالمئة، تمثل أكثر من 762 ألف عاطل، بحسب إحصاءات رسمية.
وقبل عام كانت نسبة العاطلين من حاملي الشهادات التعليمية العليا قرابة الثلث من إجمالي العاطلين.