منذ بداية الألفية الجديدة، وضمن مساعيها لأن تصبح القوة الاقتصادية والعسكرية الكبرى في العالم خلال العقود القليلة القادمة، انتهجت الصين استراتيجية جديدة كلياً للفوز بالحرب الاقتصادية المستعرة عالمياً، والتي تُعَدّ من أحدث وجوه الحروب العالمية اليوم، وذلك من خلال اتباع استراتيجية الديون التي أثقلت بها كاهل كثير من الدول حول العالم.
وما إن دخلت بكين صراع الهيمنة الاقتصادية، حتى وجهت سهامها نحو دول العالم الثالث، وبالأخص بلدان القارة السمراء التي كانت متشوقة للحصول على القروض من بكين للنهوض في بناها التحتية في إطار مشروع "طريق الحرير الجديد" الذي يستهدف الدول النامية، متناسين تماماً الخطط والشراك الصينية الموضوعة بعناية مُحكَمة للسيطرة على المطارات والمواني والمضايق والجسور الحيوية في تلك البلدان حال عجزهم عن سداد الديون الضخمة، التي منحتهم إياها بكين رغم معرفتها بعدم قدرتهم على السداد.
ما حصل في أوغندا مؤخراً، وقبلها في باكستان وكينيا وأستراليا واليونان ومونتينيغرو و ليتوانيا وغيرها من الدول، ما هو إلا دلائل دامغة على استخدام بكين سلاحاً استراتيجياً خطيراً للغاية، أطلق عليه الخبراء اسم "دبلوماسية فخ الديون"، وغايته الوحيدة تحقيق التفوق الصيني في الصراع الدائر مع الولايات المتحدة.
أوغندا مثالاً
في أحدث مثال على نجاعة استراتيجية الديون الصينية، ها هي ذي بكين تضع يدها على مطار عنتيبي الدولي بعد فشل الحكومة الأوغندية في تسديد قرضها من بنك التصدير والاستيراد الصيني (EXIM) عام 2015، وقيمته نحو 207 ملايين دولار بنسبة فائدة 2%، والذي خُصّص لتوسع المطار الدولي الوحيد في البلاد.
وتنازلت الحكومة الأوغندية عن بند الحصانة الدولية لتأمين القرض، مما مكّن المقرض الصيني من الاستحواذ على مطار عنتيبي الدولي بلا تحكيم دولي، وفقاً لما تناقلته وسائل الإعلام الدولية. من جانبها نفت هيئة تنظيم الطيران الأوغندية سيطرة بكين على المطار، فيما قالت الصين إنه "تعاون تنموي".
وشهد الأسبوع الماضي اعتذار وزير المالية الأوغندي ماتيا كاسايجا أمام برلمان بلاده عن سوء إدارة للقرض الصيني الذي تبلغ قيمته 207 ملايين دولار فقط.
وحسب صحيفة "ديلي مونيتور " الأوغندية، زار وفد من المسؤولين الأوغنديين الصين في وقت سابق هذا العام، في محاولة لإعادة التفاوض على بنود اتفاقية القرض، لكنّ الزيارة لم تنجح، ورفضت السلطات الصينية أيّ تعديل في الشروط الأصلية للصفقة.
القروض.. سلاح بكين الضارب
أدركت الصين منذ البداية أن السبيل في توسعة نفوذها الدولي يكمن في أسلوب "العصا والجزرة" الذي غلفته بشكل جذاب ضمن ما أطلقت عليه "دبلوماسية القروض". ومن خلال هذه الدبلوماسية نجحت بكين في توظيف البنى التحتية الاستراتيجية في عديد من الدول بالشكل الذي يخدم مصالحها الفردية ويعزز هيمنتها على مفاصل الاقتصاد العالمي.
وفقاً لمركز أبحاث (AidData) في جامعة ويليام أند ميري في ولاية فرجينيا الأمريكية، فقد أقرضت بكين أو منحت أموالاً لـ13427 مشروعا للبنية التحتية بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة حول العالم خلال الـ18 عاماً الماضية، يرتبط معظمها بمبادرة "الحزام والطريق" الصينية الطموحة.
وخلال السنوات الماضية، أوقعت الصين عديداً من الدول في شراك قروضها ونجحت في وضع يدها على عديد من البنى التحتية الحيوية في هذه الدول، الأمر الذي دفع المفكر والأكاديمي الهندي براهما تشيلاني إلى استحداث مصطلح "دبلوماسية فخ الديون" للإشارة إلى سياسة الصين التي تمنح الدول الفقير قروضاً ضخمة رغم معرفتها بعدم قدرة هذه الدول على السداد، وبالتالي تستحوذ على أصولها الاستراتيجية، فضلاً عن السيطرة على مواردها الطبيعية وتسخير عمالتها وفتح أسواقها أمام المنتجات الصينية.
موانٍ ومطارات إفريقية على بوصلة الصين
يُقدَّر إجمالي ديون القارة الإفريقية بنحو 365 مليار دولار أمريكي، نحو ثلثَي هذه الديون يعود إلى الصين، فيما يشير تقرير آخر إلى أن 143 مليار دولار، أي ما يزيد على ثلث الديون الإفريقية، أُقرضَ بين عامَي 2017 و2020.
ولعل من أبرز المواني التي ستستهدفها الصين قريباً هو ميناء مومباسا، الذي رهنته الحكومة الكينية نظير قروضها المتراكمة للصين، التي بلغت قيمتها أكثر من 5.5 مليار دولار، الأمر الذي سيعيد إلى الأذهان قصة ميناء هامبانتونتا السريلانكي الذي استحوذت عليه الصين لمدة 99 عاماً بعد عجز سيريلانكا عن سداد القرض الصيني الذي بلغت قيمته نحو 8 مليارات دولار بسعر فائدة مرتفع بلغ نحو 6.3%، بالإضافة إلى قصة ميناء غوادار الباكستاني الذي استحوذت عليه شركة صينية لمدة 40 عاماً.
وخوفاً من الوقوع في شراك الديون الصينية، سبق لرئيس دولة سيراليون جوليوس مادا بيو، أن ألغى مشروعاً لبناء مطار بتمويل صيني، في البلد الواقع غربي إفريقيا. ماليزيا بدورها قررت إلغاء 3 مشاريع عملاقة كانت بكين وعدت بتمويلها، مؤكدة أن الأمر لا يتعلق بضخّ أموال كثيرة، بل بعدم قدرة ماليزيا على السداد.
من جانبها ترفض الصين هذه التهم، وتذكر بما جرى في القمة الصينية-الإفريقية الأخيرة، حين أعلنت بكين الإعفاء من الديون لأكثر من 15 دولة، وتأجيل موعد سداد ديون دول أخرى، كانت مستحقة بنهاية 2020.