والغرض من هذه المقالة1 هو وضع هذا الكتاب في مكانه من سياق تاريخ الطب العربي، بل التاريخ العام للطب. وهذا أمر ضروري لفهم هذا الكتاب، لا بوصفه كتاب معلومات في الطب، فطب اليوم غير طب الأمس؛ والطب كما أراده ابن رشد "علم"، وتاريخ العلم كما يقول باشلار هو "تاريخ أخطاء العلم". إن أهمية هذا الكتاب، إذن، ليست فيما يقرره من آراء طبية في هذا المرض أو ذاك، أو في هذا المظهر أو ذاك من مظاهر الصحة ووسائل الحفاظ عليها، بل تكمن أهميته –من وجهة نظرنا على الأقل- في كونه يدشن لحظة جديدة في تاريخ التفكير العلمي في الطب عموما، فهو ينتمي إلى مجال الفكر العلمي أكثر من انتمائه إلى الممارسة الطبية، وهذا ما أكد عليه ابن رشد نفسه مرات عديدة في فصول هذا الكتاب.
وهنا لابد من التمييز بوضوح بين التأريخ للعلوم الذي موضوعه تتبع الكشوف العلمية وممارسة هذا العلم أو ذاك عبر التاريخ وفي الحضارات المختلفة، وبين التأريخ لتطور الفكر العلمي، رؤيةً ومفاهيمَ ومناهجَ. الأول هو "تاريخ العلم" وهو السائد عموما، وهو وحده المعروف في ثقافتنا العربية المعاصرة عبر أبحاث المستشرقين الذين كانوا السباقين في هذا المجال إلى الاستفادة من المخطوطات الطبية العربية وكتب "تراجم الأطباء" التي تزخر بها المكتبة العربية القديمة. أما الثاني، وأعني "تطور الفكر العلمي"، فالاهتمام به حديث نسبيا، حتى في الغرب، ولم تنل منه الثقافة العربية بعدُ حقَّها كاملا.
ومع أن في النصوص الطبية العربية، التي حررت قبل ابن رشد وبعده، ما قد ينتمي بصورة أو بأخرى لهذا الصنف الأخير، أو يفيد البحث المعاصر في هذا المجال، فإن كتاب "الكليات في الطب" لابن رشد يفرض نفسه كأول كتاب يطرح للنقاش موضوع التفكير العلمي في الطب. ذلك أن فيلسوف قرطبة، "الذي كان يُفزع إلى فتواه في الطب كما يُفزع إلى فتواه في الفقه"، كما يقول عنه كتاب التراجم، يتخذ لنفسه في هذا الكتاب، بالفعل وبوعي وإلحاح، موقف المفتي فيما يجب أن يكون عليه الطب حتى يرتفع من مجرد مجموعة معارف تراكمت عبر الممارسة التي تقوم على الخبرة، إلى مرتبة العلم الذي تؤسسه "كليات"، أي أسس ومبادئ ومناهج، يجب أن تعرف وتؤخذ كأساس للفكر الطبي. من هذه الزاوية يمكن القول إن هذا الكتاب غير مسبوق، ولم يظهر ما يماثله في موضوعه إلا في القرن التاسع عشر، حين أصبحت فلسفة العلم موضوع اهتمام. وإذن فالكتاب الذي بين أيدينا هو أقرب إلى أن يكون كتابا في فلسفة علم الطب، أو الايبستيمولوجيا، بالمعنى المعاصر، منه إلى كتاب في الطب كممارسة، علما بأنه يلخص بصورة كافية ومركزة الممارسة الطبية في عصره، لا كمجرد ناقل بل كطبيب مجتهد صاحب رأي2.
2- صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة
يستهل ابن رشد كتابه الشهير (الكليات في الطب) بمقدمة يعرض فيها مشروعه بهذه العبارات: "فإن الغرض في هذا القول أن نثبت هاهنا من صناعة الطب جملة كافية -على جهة الإيجاز والاختصار- تتضمن أصول الصناعة، وتكون كالمدخل لمن أحب أن يتقصَّى أجزاء الصناعة، وكالتذكرة أيضا لمن نظر في الصناعة؛ ونتحرى في ذلك الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة (= صناعة الطب). يتعلق الأمر إذن بمشروع محدد وهادف: الموضوع هو "أصول" صناعة الطب، أي الطب كعلم. إن عمل ابن رشد هنا يدخل في إطار مشروعه العام الذي يتوخى الاجتهاد و"التصحيح"، كما شرحنا ذلك قبل، ولذلك فهو يضم الجانبين معا، من جهة: الاجتهاد في بعض المسائل التطبيقية والإدلاء بآراء مخالفة لما كان سائدا، وهذا جانب سنترك الحديث عنه هنا، وقد فصلنا القول فيه في المقدمة التحليلية التي كتبناها للطبعة التي أشرفنا عليها من كتاب الكليات. ومن جهة أخرى بناء تصور الطب كعلم، وهذا ما سنركز اهتمامنا هنا عليه، وهو يتعلق بـ "التصحيح"، أي بإعادة بناء المعارف الطبية بالصورة التي تجعل منها علما.
كيف؟
يعرف ابن رشد الطب تعريفا لم نعثر له على مثيل أو أصل عند من سبقه ممن كتبوا في الطب. يقول: "إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يُلتمس بها لحفظ صحة بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد من الأبدان…".
"صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة"، وبلغة عصرنا: علم تطبيقي يرمي إلى تغيير حال بحال. وهذا العلم يقوم على مبادئ صحيحة، بمعنى أن التغيير الذي يحدثه هو نتيجة تدبير علمي يعتمد معطيات التجربة والاستدلال العقلي ولا مجال فيه لذلك "التغيير" الذي يُعتقََد حصولُه بمبادئ غير صادقة كالسحر والتنجيم الخ. ويعبر ابن رشد عن ذلك في مكان آخر بقوله: "الطب هو صناعة فعلُها، عن العلم والتجربة، حفظُ الصحة وإبراء المرض"، ثم يضيف: "وإنما قلنا في الحدِّ : "عن العلم والتجربة"، لأنه ليس يكتفي في هذه الصناعة بالعلم دون التجربة ولا بالتجربة دون العلم بل بهما معا"3.
ويشرح ابن رشد مكونات "الصناعة الفاعلة"، أو العلم التطبيقي، فيقول: "ولما كانت الصنائع الفاعلة، بما هي صنائع فاعلة، تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها معرفة موضوعاتها، والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث معرفة الآلات التي بها تحصل تلك الغايات في تلك الموضوعات، انقسمت باضطرار صناعة الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة". ولا شك أن القارئ يلاحظ معنا أننا هنا إزاء نظرة جديدة للطب وإزاء تقسيم جديد، ينقلاننا إلى أفق جديد يختلف تماما عن الأفق الذي نجده عند كل من المجوسي وابن سينا: الطب علم تطبيقي، والعلم التطبيقي لابد له من موضوع يعرفه معرفة علمية ليمارس فيه "التطبيق"، ولابد له من غاية يراد تحصيلها في الموضوع، ولابد له كذلك من وسائل تتم بها عملية التحصيل هذه. وقسمة الطب لا بد أن تنبني على هذه المكونات حتى تكون قسمة ذاتية تعبر عن جوهر المقسوم وليس عن أعراضه فقط.
3- أقسام الطب بحسب: الموضوع ، الغاية، والوسائل.
وبناء عليه انقسم الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة: الموضوع وهو بدن الإنسان، الغاية وهي حفظ الصحة وإزالة المرض، والوسائل وهي التي تُحفظ بها الصحة ويزال المرض. وبما أن حفظ الصحة يتطلب أولا معرفة حال الصحة وعلاماتها، وإزالة المرض تتطلب أولا معرفة حال المرض وعلاماته، كان لابد من قسمة فرعية: الصحة، المرض، العلامات الصحية والمرضية. ولما كان حفظ الصحة يتم بوسائل هي الغذاء أساسا وإزالة المرض تكون كذلك بوسائل هي الدواء أساسا، كان لابد من التعرف على الأغذية والأدوية. وهكذا ينقسم البحث في الطب أقساما سبعة: التعرف على بدن الإنسان (التشريح)، التعرف على حال الصحة (وظائف الأعضاء)، التعرف على حال المرض (الباتولوجيا)، التعرف على العلامات (السيميولوجيا)، التعرف على الأغذية والأدوية (علم التغذية والصيدلة)، وطرق حفظ الصحة (الوقاية)، وطرق إزالة المرض (العلاج). ومن هنا قسم ابن رشد كتابه إلى سبعة كتب أو أقسام –بعد المقدمة- هي: 1) كتاب تشريح الأعضاء. 2) كتاب الصحة. 3) كتاب المرض. 4) كتاب العلامات. 5) كتاب الأدوية والأغذية. 6) كتاب حفظ الصحة. 7) كتاب شفاء الأمراض.
ويناقش ابن رشد قسمة الطب إلى قسم علمي (نظري) وقسم عملي، وهي القسمة التي اعتمد عليها المجوسي وابن سينا من قبله فيقول: "وهذه القسمة ليست بقسمة حقيقة لصناعة الطب، لأن جالينوس قد قال في حده (=تعريف الطب): إنه معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما والى الحالة التي ليست بصحة ولا مرض. وإذا كان ذلك كذلك (أي لما كان الطب معرفة…) فأقسامه إنما هي علوم، لا علوم وعمل. وذلك أن الصنائع التي يقال فيها إنها عملية منها ما يقال فيها ذلك لأنها تُتعلم بالعمل مثل صناعة النجارة والخياطة، ومنها ما يقال لها علمية وهي أنها تتعلم بالعلم، أعني بالبراهين والحدود (التعاريف)، لكن غاية العلم فيها إنما هو العمل، وهذه حال صناعة الطب. وليس يبعد أن يكون من الصنائع ما يتعلم بالوجهين جميعا بالعلم والعمل إن سلمنا أنها صناعة واحدة! وقد يظن بصناعة الطب أنها بهذه الصفة: وذلك أن الجزء الذي يعمل باليدين إنما يتعلم بالعمل والمحاذاة أكثر ذلك. فوجه العذر عن هذه القسمة (=ما قد يبرر قسم الطب إلى علم وعمل) أنه لما كان العلم ينقسم في صناعة الطب إلى علمين، علم يشاركه فيه صاحب العلم الطبيعي أعني أنه ينظر فيه العلمان جميعا، وهو العلم الذي ينظر في الصحة وأسبابها وعلاماتها وفي المرض وأسبابه وعلاماته، والعلم الثاني تختص به صناعة الطب، وهو النظر كيف تحفظ الصحة وبأي شرط تحفظ وكيف يزال المرض وبأي شيء يزال، سمي الجزء من العلم الذي يشارك الطب فيه العلم الطبيعي علميا، وأعني بالعلمي ما الغاية المقصودة منه العلم فقط لا العمل، وسمي الجزء الآخر، الذي ينفرد بالنظر فيه صناعة الطب عمليا، إذ كان قريبا من العمل وخاصا به وكثيرا ما يوجد فعله بالاحتذاء، أعني بالعمل. ولذلك كان من شرط الطبيب أن يكون مع قيامه على علم الطب مزاولا لأعماله. وأما العمل باليد فهو كما قلنا عملي محض، وليس يتعلم بالقول (=بالاستدلال) منه إلا جزء يسير (=إذ هو ممارسة وخبرة). وكذلك يشبه أن يكون التشريح: أعني أنه لا يتصور منه بالقول إلا يسير (=إذ يعرف بالحس). وأول من قسم العلم الطبيعي بهذه القسمة حُنين المتطبب، وقد رد عليه ابن رضوان ذلك وزعم أن أصول جالينوس تقتضي أن هذه القسمة باطل، وانتصر له أبو العلاء (ابن زهر)، وزعم أنه تلفى هذه القسمة في بعض الكتب المنسوبة لجالينوس. والحق في ذلك ما قلناه"، (أي أن الطب صناعة علمية أي علم تطبيقي، وأن قسمته إلى علمي وعملي قسمة باطلة). ويضيف: "وأفضل من هذه القسمة أن تقول الطب ينقسم إلى خمسة أقسام: إلى معرفة طبيعة الصحة، وإلى معرفة طبيعة الأمراض، وإلى معرفة علامات الأمراض، وإلى معرفة إزالة الأمراض، وإلى معرفة حفظ الصحة".4
4- مصادر المعرفة الطبية العلمية ودرجتها من اليقين.
بعد ذلك ينتقل ابن رشد إلى المبادئ والأصول التي يقوم عليها الطب كعلم فيلاحظ أن "الصنائع الفكرية"، أي التي تعتمد على التفكير والروية في المعطيات الحسية والتجريبية (وهي غير الصنائع النظرية التي تنظر في المجردات كالفلسفة والرياضيات الخ)، تعتمد كجميع الصناعات على مبادئ وأصول عامة، تتسلَّمُها: إما من بديهة العقل مثل مبدأ السببية ومبدأ الهوية وعدم التناقض وهي مبادئ بينة بنفسها، وإما من علم آخر سابق تبينت فيه بالبرهان أو بالتجربة أو بهما معا. والمصادر الرئيسة التي تتسلَّم منها صناعة الطب مبادئها –زيادة على مبادئ العقل- ثلاثة: العلم الطبيعي، والممارسة الطبية، والتشريح.
والعلاقة بين هذه المصادر وبين علم الطب علاقة واضحة. فالعلم الطبيعي يبحث في الأجسام وموضوع علم الطب جسم الإنسان، وإذن فكل ما يخص هذا الجسم من ناحية تركيبه الطبيعي يتسلمه علم الطب من العلم الطبيعي، مثل ما يتعلق بالأسطقسات والأسباب الأربعة، المادة والصورة والفاعل والغاية، وغير ذلك مما ينتمي إلى الجهاز المفاهيمي الذي يستعمل في البحث في الأجسام الطبيعية. أما الممارسة الطبية أو صناعة الطب التجريبية فيتسلم منها علم الطب ما يخص قوى الأدوية، ذلك لأن مفعول الأدوية إنما يعرف بالتجربة أساسا، وما يعرف منها بالاستنباط لا يكون إلا انطلاقا مما عرف بالتجربة وهو نزر يسير. وأما صناعة التشريح، تشريح الأعضاء، فإن صناعة الطب "تتسلم منها كثيرا من أجزاء موضوعاته". وهذا واضح، لأن حفظ الصحة وإزالة المرض، الذي هو غاية الطب، ينصرف إلى أعضاء البدن واحدا واحدا وإلى البدن ككل.
تلك هي المصادر التي يتسلم منها علم الطب مبادئه وأصوله. والسؤال الآن هو: ما درجة هذه المصادر من المصداقية العلمية، وبعبارة أخرى ما هي درجة ما تعطيه هذه المصادر على سلم الصدق واليقين؟
سؤال ضروري لأن الأمر يتعلق ببناء علم، هو علم الطب. ويجيب ابن رشد:
- أما فيما يخص العلم الطبيعي فيجب الانتباه أولا إلى ما يجمع بينه وبين علم الطب وإلى ما يفترقان فيه. علم الطب يشارك العلم الطبيعي في بدن الإنسان، في صحته ومرضه، بوصفه جسما، وبالتالي موضوعا لدراسة كل منهما، ولكن يفترقان من حيث أن صاحب العلم الطبيعي "ينظر في الصحة والمرض من حيث هما أحد الموجودات الطبيعية، وينظر الطبيب فيهما من حيث يروم حفظ هذه وإزالة هذا". من أجل ذلك كان على الطبيب أن لا يكتفي بمعرفة ما يمده به العلم الطبيعي من "كليات"، أي من خصائص عامة عن الأجسام، بل لا بد له من ممارسة طويلة يتمكن بها من معرفة الكيفيات التي تتجلى عليها هذه الخصائص الطبيعية في بدن الإنسان. وبعبارة أخرى إنه بالممارسة الطبية وحدها يتعرف الطبيب على خصائص بدن الإنسان التي تخصه لذاته بوصفه جسما من الأجسام، أي بوصفه أحد أفراد جنس الأجسام. ومن خلال التعرف على هذه الخصائص "تحصل له مقدمات تجريبية" يقدر بها أن يكتشف في بدن الإنسان تلك الخصائص العامة التي يدرسها العلم الطبيعي. وبعبارة أخرى: هناك ما هو عام وهو المبادئ التي يعطيها العلم الطبيعي، وهناك ما هو خاص وهو ما تعطيه مزاولة الطب. والارتفاع بهذه المزاولة إلى مستوى العلم يكون بربط الخاص بالعام، وبالتالي اكتشاف العام في الخاص. وإذن فالمصداقية العلمية لما يأخذه علم الطب عن العلم الطبيعي تتوقف على مدى الممارسة العلمية التي يقوم بها الطبيب والتي تمكنه من اكتشاف "العام" الذي يعطيه العلم الطبيعي في "الخاص" الذي يتعامل الطب معه وهو بدن الإنسان.
- أما عن المصداقية العلمية لما يتسلمه علم الطب من الممارسة الطبية التجريبية فينبه ابن رشد إلى صعوبة الحصول على اليقين في كل موضوع من موضوعاتها، كما هو الحال في الأدوية، وهي أهم ما يتسلمه منها. ذلك لأن اليقين في هذا المجال يحتاج إلى طول تجربة وإلى ملاحظة مفعول الدواء في كل شخص. أضف إلى ذلك تدخل عوامل أخرى مختلفة. والنتيجة أن ما يأخذه علم الطب من الممارسة الطبية يجب أن يعتبر في درجة "المشهورات" وليس في درجة "اليقينيات".
- أما صناعة التشريح فالمصداقية العلمية فيها أساسها الحس والمشاهدة والفحص. ولكن بما أنها لم تعد زاهرة –في أيام ابن رشد- "إذ قد دثرت" كما يقول، فإن علم الطب مضطر إلى أن يتسلم منها ما هو في حاجة إليه حسب المشهور، مثل ما هو الحال في الأدوية التي مصدر المعرفة بها التجربة.
والخلاصة أن "صناعة الطب" هي "صناعة فاعلة" أي علم تطبيقي تعتمد في فاعليتها وتطبيقها على "مبادئ صادقة": صدق بعضها في مرتبة المقدمات اليقينية، وهي ما تتسلمه من العلم الطبيعي إذا زكي بالتجربة التي تمكن من تطبيق القوانين الكلية على الأشياء الجزئية، بينما صدق بعضها الآخر هو في مرتبة المقدمات المشهورة، ويتعلق الأمر بما تعطيه الممارسة الطويلة سواء على مستوى المعالجة والأدوية أو على مستوى التعرف على تركيب الأعضاء وخصائصها بواسطة صناعة التشريح التي "دثرت" ولم تعد تقدم جديدا (زمن ابن رشد).
وينهي ابن رشد هذه المقدمة المركزة الغنية -مقدمة كتاب الكليات- بملاحظتين سريعتين: الأولى يبين فيها خطأ الاقتصار في حد علم الطب على كونه: "معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما"، موضحا أن هذا الحد يصدق على العلم الطبيعي أيضا، وبالتالي لا بد، لجعله ينصرف إلى الطب وحده، من إضافة العبارة التالية: "ليحفظ الصحة حاصلةً ويستردها زائلةً"، إذ كان هذا الجانب التطبيقي هو المقصود من الطب وبها ينفصل عن العلم الطبيعي الذي هدفه المعرفة فقط. أما الملاحظة الثانية فينبه فيها إلى الخطأ الكامن وراء إضافة "الحال التي ليست بصحة ولا مرض" إلى حد الطب. وهذا الخطأ ناجم –يقول ابن رشد- من عدم فهم صحيح لمعنى الوسط. فليس هناك وسط بين الصحة والمرض كما نقول في وسط العصا مثلا، بل الصحة والمرض يختلفان بالأقل والأكثر، مثلهما في ذلك مثل ما بين اللون الأبيض والأسود من درجات، وهي الألوان المؤلفة منهما مثل الرمادي المفتوح والرمادي القاتم والبني الخ. يقول ابن رشد: "فإنه ليس بين ضرر الفعل المحسوس ولا-ضرره وسط، وإنما يختلف بالأقل والأكثر. وليس المتوسط بين الضدين أن يكون كل واحد منهما في جزء غير الجزء الذي فيه الآخر، ولا في زمن غير الزمن الذي فيه الآخر. وهذا بين مما قيل في العلم النظري".
5- الطب علم تطبيقي، منه نظريات ومنه تطبيقات.
هناك مسألة أخيرة لابد من إثارتها هنا، وتتعلق برفض ابن رشد لقسمة الطب إلى علمي وعملي وإلحاحه على كونه علما بجميع أقسامه. وفي مقابل ذلك يميز بين "الكليات" أو "الأقاويل الكلية" وبين "الأقاويل الجزئية" في الطب . يقول في آخر فقرة في الكتاب: "فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجزِ ما أمكننا وأبينِه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء مرض من الأمراض الداخلة على عضو من الأعضاء (…) نرجئ هذا إلى وقت نكون فيه أشد فراغا"، ثم ينصح قارئه، الذي يرغب في الاطلاع على معالجة كل عضو على حدة، بالنظر في كتاب "التيسير" الذي ألفه صديقه أبو مروان ابن زهر.
كيف نفهم هذا التمييز ؟
الواقع أن ابن رشد قد تصور "صناعة الطب" خارج التقسيم التقليدي الذي يقسم الفلسفة إلى قسمين : نظري وعملي، والذي عممه الفارابي وابن سينا والغزالي حتى على العلوم الإسلامية إذ جعل هذا الأخير "علم الكلام" بمثابة "العلم النظري" والفقه بمثابة "العلم العملي". لقد اعترض ابن رشد على هذا التعميم رافضا اعتبار "علم الكلام" علما بالكليات وعلم الفقه علما بالجزئيات، كما اعترض عليه هنا. إن الطب، في نظر ابن رشد "صناعة فاعلة"، أي علم تطبيقي، وأن أقرب الصناعات إليها : "صناعة الملاحة" و"صناعة قود الجيوش" (أي قيادتها في الحرب)5. وهذا العلم التطبيقي قوامه "أقاويل كلية" هي "أصول الصناعة"، و"أقاويل جزئية" تخص علاج مرض في عضو. ومن هنا قد لا نخطئ إذا قلنا بعبارة عصرنا: صناعة الطب ( أو فن الطب) قسمان: قسم هو علم يدرس، كما هو الشأن في الدروس العامة التي يتلقاها الطالب في كلية الطب. وقسم هو تطبيق لتلك الدروس أثناء فترة التدريب في المستشفيات والملاحظات السريرية.
6– التصور الرشدي للطب أقرب إلى التصور الحديث.
وواضح أن تقسيم ابن رشد لموضوعات الطب إلى الأقسام السبعة (أو الخمسة) المذكورة آنفا، وإلحاحه على الطابع العلمي للأقاويل الكلية والجزئية التي تلتئم منها هذه الأقسام، وعلى أهمية دور التجربة فيه، كل ذلك يضعنا أمام تصور جديد لعلم الطب يختلف تماما عن التصور الذي قدمه لنا كل من المجوسي وابن سينا. وهذا التصور الرشدي للطب قريب جدا، إن لم يكن مطابقا تماما، للتصور الحديث والمعاصر، سواء في تحديد موضوع الطب وأقسامه أو في تحديد درجته من اليقين العلمي. وقد يكفي أن نشير هنا إلى ما كتبه كلود برنار في كتابه "المدخل إلى دراسة الطب التجريبي" الذي يعتبر دستور الطب الحديث والصادر سنة 1920. يقول في مقدمة كتابه: "حفظ الصحة وشفاء المرض، تلك هي المشكلة التي طرحها الطب منذ قيامه، وهي نفسها المشكلة التي ما زال يواصل العمل لحلها حلا علميا. والوضع الحالي للممارسة الطبية يسمح بالقول بأن هذا الحل سيبقى لمدة طويلة موضوعا للبحث". وبعد أن يبرز التقدم الذي حصل في الطب من خلال ما أنجز في العلوم الفيزيائية الكيميائية وفي ظواهر الحياة، السليم منها والمرضي، يقول: "ولكي يتمكن الطبيب من الإحاطة بالمشكلة برمتها يجب أن يشتمل الطب التجريبي على ثلاثة أقسام أساسية: علم وظائف الأعضاء (La physiologie)، وعلم الأمراضLa pathologie) )، وعلم الشفاء" (La thérapeutique). ويضيف كلود برنار قائلا: "غير أن الطب العلمي لا يمكن أن يتأسس، مثله مثل العلوم الأخرى، إلا عن طريق التجربة، أي بالتطبيق الآني والصارم للاستدلال المنطقي (raisonnement) على المعطيات التي تمدنا بها الملاحظة والتجربة. إن المنهاج التجريبي منظورا إليه في ذاته ليس شيئا آخر غير الاستدلال الذي به نخضع أفكارنا، وبصفة منهجية، لتجربة الظواهر".(6)
لاشك أن القارئ يلاحظ أن ابن رشد رتب كتابه على نفس المنوال الذي يلح عليه هنا كلود برنار: فبعد "صناعة التشريح" التي تتسلم منها صناعة الطب "كثيرا من أجزاء موضوعاتها"، يأتي كتاب الصحة الذي موضوعـه منافع الأعضاء أو وظـائفها (La physiologie)، ثم كتاب الأمراض وكتاب العلامات التي تدل على الأمراض (La pathologie) ، ثم كتاب الأدوية والأغذية وكتاب حفظ الصحة وكتاب شفاء الأمراض (La thérapeutique). هذا إضافة إلى تأكيده القوي على "أنه ليس يكتفي في هذه الصناعة بالعلم دون التجربة ولا بالتجربة دون العلم بل بهما معا"(7).
وغني عن البيان القول إننا لا نهدف من هذه المقارنة إلى إثبات "سبق" ما لابن رشد. فالمسافة طويلة بين القرن الثاني عشر الميلادي والقرن العشرين عشر في جميع الميادين، وفي الميدان العلمي بكيفية خاصة. ولكن هناك أمر واحد يفرض نفسه علينا، وهو أن التصور الذي شيده ابن رشد عن علم الطب هو أقرب ما يكون من التصور الحديث. ومع ذلك كله لا بد من التأكيد هنا أن هذه الروح العلمية التي تعامل بها ابن رشد مع موضوعه كانت مكبلة بالجهاز المفاهيمي الذي كان سائدا في عصره كجهاز لإنتاج المعرفة العلمية، كما أن النظرية الطبية السائدة في زمانه، تلك التي شيدها جالينوس كانت هي المادة العلمية التي تعامل معها ابن رشد وفكر في إطارها حتى في انتقاداته الكثيرة لها.
بعبارة قصيرة، يمكن القول إن ما أنجزه ابن رشد من تجديد في ميدان التفكير العلمي في الطب شبيه بما قام به على صعيد الفلسفة وشرح أرسطو. صحيح أن ابن رشد لم ينتقد أرسطو كما انتقد جالينوس -وإن كان قد اعتمد على هذا في الطب كما اعتمد على ذاك في "الطبيعة" و"ما وراء الطبيعة"- ولكن ابن رشد قد حاول حل المشاكل التي تركها أرسطو معلقة وسد الثغرات في منظومته بناء على "ما يقتضيه مذهبه"، مذهب أرسطو الذي هو في الحقيقة مذهب ابن رشد نفسه، وذلك بتطويع الجهاز المفاهيمي الأرسطي إلى درجة تقترب من تفجير المنظومة الأرسطية بالمرة8. والشيء نفسه فعله فيلسوف قرطبة مع طب جلينوس، (كما سنرى في مقدمتنا التحليلية للكتاب). والسؤال الآن سؤال مضاعف:
ترى ماذا كان دور ابن رشد الطبيب في أوروبا؟ هل كان بمثل دوره في الفلسفة، وهو الدور الذي تمثل في قيام "الرشدية اللاتينية" التي كانت وراء النهضة الأوروبية؟ وهل كان له دور ما في الفكر الطبي العربي بعده؟
7- ابن رشد وكتاب الكليات في أوروبا: "العصا القاتلة".
يجب التأكيد ابتداء أننا ما زلنا عالة على المستشرقين في موضوع "دور العلم العربي في النهضة الأوروبية"، وأن ما أنجزه هؤلاء في هذا المجال مازال، رغم أهميته، دون ما يجب أن يكون. إن دور العلم العربي والفلسفة العربية في النهضة الأوروبية لا يمكن جلاءه إلا على أيد باحثين عارفين للغتين اللاتينية والعبرية ومتخصصين في ثقافة القرون الوسطى وعلى إلمام كاف بالتراث العربي في العلم والفلسفة. وهذا ما نتمنى أن يتوافر للثقافة العربية على أيدي الأجيال الصاعدة من الباحثين الجامعيين. نحن مضطرون إذن، في الوقت الحاضر، إلى النقل من المستشرقين والمستعربين الجدد والمهتمين بهذا الموضوع من الباحثين والأكاديميين الأوروبيين. ولعل أهم بحث أنجز أخيرا في الموضوع -حسب علمنا- هو ذلك الذي كتبته دانيال جاكار (مديرة أبحاث في المعهد التطبيقي للدراسات العليا بباريس)، بعنوان "تأثير الطب العربي في الغرب خلال القرون الوسطى"9، وسيكون هذا المقال مرجعنا الرئيسي في الموضوع.
تبرز الباحثة حضور كل من كتاب علي بن العباس المجوسي "كامل الصنعة الطبية" وكتاب "القانون" لابن سينا وكتاب "المنصوري" ثم "الحاوي" للرازي وكتاب "الكليات" لابن رشد الذي عرف باسم Colliget وقد ترجمت كلها إلى اللاتينية10. وكما هو الشأن في الفلسفة فقد كان هناك في الأوساط الطبية الأوروبية تياران متنازعان، أحدهما مع ابن سينا والآخر مع ابن رشد. ويهمنا هنا الدور الذي قام به ابن رشد من خلال كتابه "الكليات".
تقول الباحثة المذكورة: عن كتاب "الكليات" : "لقد أثار هذا الكتاب العديد من المجادلات التي سمحت للأطباء الغربيين بتجديد مذهبهم". "وبصفته داعما للأفكار الأرسطية فقد ساهم كتابColliget في وضع مسائل أساسية بشكل جديد. وهكذا ابتداء من السنوات الأخيرة في القرن الثالث عشر وصولا إلى القرن السابع عشر، توزعت التحديدات المختلفة للحمى حول الموقفين المتباعدين لابن سينا وابن رشد". وبعد أن تشير الباحثة إلى أن الحل الذي قدمه ابن رشد قد أخذ به بدون صعوبة لكونه أقرب إلى رأي جالينوس، تضيف قائلة: "لقد لعب كتاب Colligetأيضا دورا محرضا بإعطائه من جديد حيوية لتعريف الطب كصنعة. إن الأوضاع الخاصة بالنظرية والتطبيق (= القسم النظري والقسم العملي في الطب) كما ظهرت في كتابي Pantegni ( المجوسي: كامل الصناعة الطبية) وcanon (القانون لابن سينا)، قد طرحت مجددا للنقاش (…). إن النقاش حول تحديد الطب الذي ورد في كتاب الكليات Colliget لقي كثيرا من الصدى، الأمر الذي أدى في النصف الثاني من القرن الثالث عشر إلى بروز اهتمام جديد بالطريقة التي تسمح بتحليل الحالات الخاصة (particularia)، أي الظروف التي لا تحصى والتي تحصل في الحياة اليومية". وقد بلغ تأثير ابن رشد في زعزعة التصورات الطبية التي كانت سائدة أن خص شارح كتاب القانون لابن سينا جاك ديبار Jacques despars المتوفي سنة 1458م ابن رشد بوصف خاص غني بالدلالة. وهكذا فبينما قال عن الرازي إنه "المختبر الأرفع" و"الطبيب الأكبر والأكثر خبرة بعد ابقراط وجالينوس"، وقال عن ابن ماسويه إنه "خبيرنا" ومبشرنا"، "الأعلم من الجميع في وصف الأدوية"، وصف ابن رشد الطبيب بـ "العصا القاتلة"، و"الرجل الذي "أفسد جميع الأطباء"!
أما أن يكون كتاب "الكليات" لابن رشد "قد أثار العديد من المجادلات التي سمحت للأطباء الغربيين بتجديد مذهبهم"، وبالخصوص من خلال التصور الجديد الذي قدمه عن الطب وأقسامه ومرتبته من اليقين، فهذا مفهوم؛ وقد سبق أن أبرزنا هذا الجانب في الفقرات السابقة. وأما وصفه بـ "العصا القاتلة" وبـ "الرجل الذي أفسد جميع الأطباء"، فالسؤال: كيف، ولماذا؟ يطرح نفسه بإلحاح.
إن الباحثة صاحبة المقالة التي ندين لها بهذه المعلومات القيمة لا تطرح هذا السؤال، وبالتالي فهي لم تنشغل بالإجابة عنه بل انتقلت إلى موضوع آخر. ومع ذلك فإن سياق عرضها التاريخي لحضور الطب العربي بمختلف منازعه في الفكر الأوروبي، وردود الأفعال التي قامت هناك إزاء هذه المرجعية العربية أو تلك، تسمح لنا باستخلاص الجواب عن سؤالنا: لماذا وصف ابن رشد الطبيب هناك بـ "العصا القاتلة" ولماذا قيل فيه : "إنه أفسد جميع الأطباء"!
نقرأ في المقالة نفسها أن الطبيب الكتالاني أرنو دو فيل نوف (Arnaud de Ville Neuve) "أحد الوجوه الفكرية البارزة في القرون الوسطى"، كان "مجددا في إطار تقليد استوحى أعمال جالينوس، وكان أيضا ناقدا لاذعا لابن سينا على الرغم من أنه استوحى مؤلفاته وأنه ترجم له مقالة في أحكام الأدوية القلبية التي ظهرت بعنوان De viribus cordis . وفي سياق مرجح من الجدال داخل الوسط الطبي انتقد بعنف، ومرة بعد أخرى، أولئك الذين يتبعون كتاب Canon (القانون) لابن سينا بشكل أعمى". لقد أعلن في كتبه أن "الحقيقة المتينة التي وصل إليها جالينوس لم يفهمها ابن سينا الذي، من خلال غزارة مجلده الضخم في الطب، جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى" ، "يثرثرون تحت نفوذه من دون أن يتذكروا البرهان. ويبدو أنهم يعتبرون أنفسهم مغتبطين إذا استطاعوا رؤية أو قراءة أو إظهار عبء المجلد (=قانون ابن سيناء؟) على منابرهم الكبيرة". وتضيف صاحبة المقالة: "إن فهم أعمال ابن سينا بالنسبة إلى دوفيل نوف يعني تمريرها من خلال مصفاة الجالينوسية".11
واضح مما تقدم أن "قانون" ابن سينا كان له نوع من الهيمنة على الأوساط الطبية في أوربا خلال القرن الثالث عشر، وأن ردود أفعال مناوئة له بدأت تظهر عندما أخذ الدارسون يكتشفون نصوص جالينوس مما أتاح لهم "مقابلة الأعمال العربية بالمصادر الجالينوسية". وفي هذا الإطار يدخل هذا الرد العنيف الذي تعرفنا عليه أعلاه ضد ابن سينا. لقد كان دعوة إلى الرجوع إلى المرجعية الطبية الأساسية: جالينوس الذي وصل إلى " الحقيقة المتينة" التي "لم يفهمها ابن سينا الذي… جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى".
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي: إذا كان ابن سينا قد "جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى"، وأن البديل الصحيح هو الرجوع إلى جالينوس، فما هو "ذنب" ابن رشد في هذا السياق حتى يوصف بـ "العصا القاتلة" ويتهم بأنه "أفسد جميع الأطباء"؟
8- هل كان ابن رشد وراء اكتشاف الدورة الدموية ؟
الجواب يقدمه لنا كتاب "الكليات" الذي بين أيدينا. ذلك أن ابن رشد قد أعلن في مقدمة هذا الكتاب أنه سيتحرى فيه "الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة" (= صناعة الطب). وأهل الصناعة الذي يخالفهم في هذا الكتاب ليس ابن سينا، فهو يتجاوزه و لا يذكره إلا نادرا وفي أمور جانبية. إن الذي سيخالفه ابن رشد ويدخل معه في نقاش من أول الكتاب إلى آخره هو جالينوس بالذات! لقد اعتبر ابن رشد جالينوس الشخص الوحيد الجدير بأن يعتمد وأن يناقش في آن واحد. وواضح أن مناقشة فيلسوف قرطبة لجالينوس ومخالفته له في مسائل أساسية من مذهبه الطبي معناه "خلخلة" وزعزعة البديل الذي لجأ إليه معارضو ابن سينا في أوروبا والعمل على تجاوزه. لقد كان ابن رشد من هذه الناحية فعلا "عصا قاتلة" للتقليد، سواء تقليد ابن سينا أو تقليد جالينوس. ومن هنا كان لابد أن ينظر إليه على أنه "أفسد جميع الأطباء"، الشيء الذي يعني أنه زعزع الفكر الطبي الأوروبي في القرون الوسطى ودفعه في اتجاه الثورة على التقليد، اتجاه فتح "باب الاجتهاد فيه"، وذلك إلى درجة جعلت البعض يربط بين ابن شد واكتشاف هارفي للدورة الدموية الكبرى! أما الصغرى فشرَف اكتشافها يعود لابن النفيس كما سنرى.
وإذا كان هذا هو تأثير كتاب "الكليات" في الفكر الطبي الأوربي فماذا كان، يا تُرى، حظ الفكر الطبي العربي منه؟
لقد اعتاد الناس على القول إن فكر ابن رشد لم يكن له ما بعده في الثقافة العربية، وهذا إن كان صحيحا على مستوى ما كان يمكن أن يحدثه من ثورة فكرية في الحضارة العربية التي كانت قد دخلت آنذاك في مرحلة الأفول، فليس صحيحا على مستوى ما حصل من تطور وتجديد في قطاعات معرفية معينة. لقد سبق أن أبرزنا في أعمالنا الأخرى امتدادات المشروع التجديدي الرشدي لدى كل من البطروجي في علم الفلك والشاطبي في أصول الفقه وابن خلدون في "علم العمران" وابن تيمية في العلاقة بين المعقول والمنقول12. ونضيف الآن فنتساءل: ألم يكن ابن رشد وراء أعظم اكتشاف في تاريخ الطب العربي بل ربما في تاريخ كله، نعني بذلك اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى؟
سؤال تركنا الخوض فيه إلى مقدمتنا التحليلية لمحتوى كتاب "الكليات". ذلك أن الخوض في الجواب عن هذا السؤال يتطلب أولا الاستماع إلى مناقشة ابن رشد لجالينوس في المسائل المتصلة بالموضوع مثل العلاقة بين الكبد والقلب والرئة والشرايين والأوردة الخ، المناقشة التي مارس فيها ابن رشد عملية "الخلخة" للمرجعية الطبية الأولى في زمانه وإلى ما بعد زمانه بما لا يقل عن خمسة قرون (جالينوس)، والتي ألح فيها على دور التجربة وخوضه في قضايا معينة كان للنقاش الذي أثاره حولها أهمية تاريخية بالغة.
----------------------------------------------------------------------
هوامش واشارات
1 نثبت هنا نص الفقرة التي خصصناها لابن رشد في المدخل الذي صدرنا به النسخة التي أشرفنا على تحقيقها من كتابه "الكليات في الطب" الذي نشرناه ضمن مجموعة كتب ابن رشد "الأصيلة"، أي التي كتبها ابتداء وليس شروحا. وهي "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، تهافت التهافت"، "الكليات في الطب"، وأخيرا تلخيصه لكتاب السياسية لأفلاطون الذي نشرناه بعنوان "الضروري في السياسة"، وهذا الكتاب ضاع أصله العربي ولم يبق منه سوى نسخة بالعبرية نقلها إلى العربية مباشرة زميل لنا بكلية الآداب بالرباط وتولينا نحن صياغتها حسب تعبيرات ابن رشد ومصطلحه وأسلوبه. وقد جهزنا نصوص ابن رشد في هذه الكتب جميعها بعلامات الإفهام (فقرات، فواصل، نقط الخ) وصدرنا كلا منها بمدخل يؤرخ لموضوع كل كتاب، ثم بمقدمة تحليلية عرضنا فيها لمحتواه بالتحليل والمناقشة. وقد طبعت هذه الكتب سنة 1998 وكان ذلك بمناسبة سنة ابن رشد، وقد صدرت في نفس السنة عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت.
2 كان ابن رشد يعمل في كل ما كتب من أجل تحقيق هدف استراتيجي واحد هو: إعادة بناء الفكر والثقافة في عصره، وذلك بإعادة تأصيل الأصول في كل مجال من مجالات الثقافة العربية الإسلامية: في العقيدة، والشريعة، والفلسفة، والطب، والعلم، واللغة، والسياسة ...
- ففي مجال العقيدة أكد بعبارات صريحة أن هدفه من التأليف فيها كما عبر هو نفسه: "تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير" والرجوع بهـا إلى "الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها"، ووضع "قانون للتأويل" يبين للعلماء ما يجب تأويله، وما يجوز، وما لا يجوز، وكيف؟
- أما في مجال الفقه فقد دشن عمله فيه بكتابه "الضروري في أصول الفقه" الذي افتتحه بتوجيه نقد قوي لفقهاء عصره الذين قال عنهم: "وظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون. من أجل ذلك قرر تصحيح الوضع بفتح باب الاجتهاد وبيان أسباب الخلاف بين أئمة الفقه، فكان ذلك موضوع كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الذي عرض فيه الفقه الإسلامي عرضا نقديا يقوم على مقارنة المذاهب الفقهية الأربعة وبيان وجوه الاختلاف بينها ودواعيه، وترجيح ما اعتبره أقرب إلى مقاصد الشرع.
- وأما في مجال النحو واللغة فقد ألف فيه كتابه "الضروري في النحو" عمل فيه على إعادة صياغة علم النحو العربي بحيث تتوافق بنيته مع علم النحو في اللغات الأخرى وتكون قواعده عامة شاملة ومنطقية.
- وأما في المجال الفلسفي فقد أعلن فيلسوف قرطبة في أول كتاب له في الفلسفة، أن غرضه هو استخلاص الآراء العلمية التي يقتضيها مذهب أرسطو وحذف الأقاويل الجدلية منها، مبينا أنه إنما اعتمد على مؤلفات أرسطو دون غيرها من كتب القدماء (اليونان) لكونها "أشدها إقناعا وأثبتها حجة".
- أما في مجال الطب، الذي ألف فيه "كتاب الكليات في الطب"، فقد كان هدفه الأساسي منه بناء الطب على العلم، والعلم الطبيعي خاصة، لتكون الممارسة الطبية في الجزئيات منتظمة تحت "كليات" علمية وليس على مجرد التخمين والتقليد والتجارب العفوية التي كان يعتمدها أصحاب الوصفات الجاهزة من مؤلفي "الكنانيش" (التي تصف الدواء لكل داء) وغيرهم من المؤلفين في الأمراض والأدوية كما سنرى أعلاه.
- وأما في مجال العلوم الطبيعية، فقد رافقه منذ بداية مسيرته العلمية مشروع من أعظم المشاريع العلمية، هو مشروع إصلاح علم الفلك الذي كان يعتمد في عصره الاعتماد كله على بطليموس ونظامه الكوني. كان ابن رشد مهتما بهذه المشروع طوال مسيرته العلمية التي بدأت وهو في السابعة والعشرين من عمره عندما قصد إلى بعض الجبال المرتفعة بناحية مراكش بالمغرب بهدف إجراء قياسات علمية حول حركة بعض الكواكب. ولكن كثرة أشغاله وتعدد مشاريعه العلمية جعلاه يؤجل الانكباب على "إصلاح علم الفلك" مرة بعد مرة إلى أن تقدمت به السن ووجد نفسه غير قادر على إنجاز هذا المشروع معبرا عن أمله في أن يأتي من بعده من يقوم بالمطلوب، وفعلا جاء بعده الفلكي المجدد البطروجي ...
كان ابن رشد صاحب رسالة حددها لنفسه بكل وضوح، وعمل من أجلها باجتهاد منقطع النظير، رسالة القيام بالتصحيح الضروري في كافة مجالات الثقافة والعلم في عصره، وذلك بالتصدي لوجوه الجمود والتقليد والتحريف التي كانت منتشرة والقيام بالتالي بإعادة بناء المعرفة في مختلف المجالات بالرجوع إلى الأصول وتجديد الفهم واعتماد البرهان العقلي فيما يكفي فيه النظر العقلي المجرد، والركون إلى ما تعطيه التجربة فيما لا بد فيه منها. (انظر كتابنا : ابن رشد سيرة وفكر. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت).
3 ابن رشد. شرح أرجوزة ابن سينا.مخطوطة.
4 ابن رشد. شرح الأرجوزة. نفسه. في مقدمة "الكليات" يجعل الأقسام سبعة: بإضافة التشريح والأدوية، الأول قطاع مستقل (علم التشريح) يتسلم منه علم الطب بعض مبادئه. والثاني ميدان مستقل كذلك (علم الصيدلة: تركيب الأدوية) وسنرى بعد أنه يجعله مستقلا وسابقا على معرفة العلاج.
5 تشبيه علم الطب بعلم الملاحة البحرية واضح من كون علم الملاحة يشتمل على معارف نظرية تتناول البحر والموج والطقس والريح والاهتداء بالنجوم الخ، ولكن قائد السفينة يطبق هذه المعلومات والمعارف حسب الحالات الواقعية والتي تتغير حسب الظروف الزمانية والمكانية. وكذلك علم قيادة الجيوش يشتمل على معارف تتلقى في المدارس العسكرية ولكن قيادة الجيش في المعارك وتطبيق تلك المعارف الخ، كل ذلك يختلف من معركة لأخرى، وتلك هي حال الطب.
6 Claude Bernard, Introduction à l'etude de la médecine expérimentale, Librairie Delagrave. Paris 1920. pp. 5-7
7 ابن رشد. شرح أرجوزة ابن سينا.
8 راجع في هذا الموضوع كتابنا: ابن رشد. سيرة وفكر. الفصل 183
9 ترجمت هذه المقالة ضمن كتاب : موسوعة تاريخ العلوم العربية، ج3. إشراف: رشدي راشد. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. 1997. ص 1225. هناك مراجع أخرى حول حضور فكر ابن رشد في أوروبا أصبحت قديمة متجاوزة مثل كتاب رينان "ابن رشد والرشدية" الخ، ومن الكتب الجديدة: كتاب جماعي صدر في 1995 دار النشر Le Seuil تحت عنوان Histoire de la pensée médicale en Occident ، وكتاب مانفريد أولمان المترجم إلى الفرنسية سنة 1995 بعنوان La médecine islamique.
10 ترجمت جل المؤلفات الطبية العربية. انظر لائحة مختصرة بأسمائها وتاريخ ترجماتها في المقالة المشار إليها أعلاه.
11 نفس المرجع. ص1237-1238
12 انظر كتابنا: بنية العقل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. ص536
وهنا لابد من التمييز بوضوح بين التأريخ للعلوم الذي موضوعه تتبع الكشوف العلمية وممارسة هذا العلم أو ذاك عبر التاريخ وفي الحضارات المختلفة، وبين التأريخ لتطور الفكر العلمي، رؤيةً ومفاهيمَ ومناهجَ. الأول هو "تاريخ العلم" وهو السائد عموما، وهو وحده المعروف في ثقافتنا العربية المعاصرة عبر أبحاث المستشرقين الذين كانوا السباقين في هذا المجال إلى الاستفادة من المخطوطات الطبية العربية وكتب "تراجم الأطباء" التي تزخر بها المكتبة العربية القديمة. أما الثاني، وأعني "تطور الفكر العلمي"، فالاهتمام به حديث نسبيا، حتى في الغرب، ولم تنل منه الثقافة العربية بعدُ حقَّها كاملا.
ومع أن في النصوص الطبية العربية، التي حررت قبل ابن رشد وبعده، ما قد ينتمي بصورة أو بأخرى لهذا الصنف الأخير، أو يفيد البحث المعاصر في هذا المجال، فإن كتاب "الكليات في الطب" لابن رشد يفرض نفسه كأول كتاب يطرح للنقاش موضوع التفكير العلمي في الطب. ذلك أن فيلسوف قرطبة، "الذي كان يُفزع إلى فتواه في الطب كما يُفزع إلى فتواه في الفقه"، كما يقول عنه كتاب التراجم، يتخذ لنفسه في هذا الكتاب، بالفعل وبوعي وإلحاح، موقف المفتي فيما يجب أن يكون عليه الطب حتى يرتفع من مجرد مجموعة معارف تراكمت عبر الممارسة التي تقوم على الخبرة، إلى مرتبة العلم الذي تؤسسه "كليات"، أي أسس ومبادئ ومناهج، يجب أن تعرف وتؤخذ كأساس للفكر الطبي. من هذه الزاوية يمكن القول إن هذا الكتاب غير مسبوق، ولم يظهر ما يماثله في موضوعه إلا في القرن التاسع عشر، حين أصبحت فلسفة العلم موضوع اهتمام. وإذن فالكتاب الذي بين أيدينا هو أقرب إلى أن يكون كتابا في فلسفة علم الطب، أو الايبستيمولوجيا، بالمعنى المعاصر، منه إلى كتاب في الطب كممارسة، علما بأنه يلخص بصورة كافية ومركزة الممارسة الطبية في عصره، لا كمجرد ناقل بل كطبيب مجتهد صاحب رأي2.
2- صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة
يستهل ابن رشد كتابه الشهير (الكليات في الطب) بمقدمة يعرض فيها مشروعه بهذه العبارات: "فإن الغرض في هذا القول أن نثبت هاهنا من صناعة الطب جملة كافية -على جهة الإيجاز والاختصار- تتضمن أصول الصناعة، وتكون كالمدخل لمن أحب أن يتقصَّى أجزاء الصناعة، وكالتذكرة أيضا لمن نظر في الصناعة؛ ونتحرى في ذلك الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة (= صناعة الطب). يتعلق الأمر إذن بمشروع محدد وهادف: الموضوع هو "أصول" صناعة الطب، أي الطب كعلم. إن عمل ابن رشد هنا يدخل في إطار مشروعه العام الذي يتوخى الاجتهاد و"التصحيح"، كما شرحنا ذلك قبل، ولذلك فهو يضم الجانبين معا، من جهة: الاجتهاد في بعض المسائل التطبيقية والإدلاء بآراء مخالفة لما كان سائدا، وهذا جانب سنترك الحديث عنه هنا، وقد فصلنا القول فيه في المقدمة التحليلية التي كتبناها للطبعة التي أشرفنا عليها من كتاب الكليات. ومن جهة أخرى بناء تصور الطب كعلم، وهذا ما سنركز اهتمامنا هنا عليه، وهو يتعلق بـ "التصحيح"، أي بإعادة بناء المعارف الطبية بالصورة التي تجعل منها علما.
كيف؟
يعرف ابن رشد الطب تعريفا لم نعثر له على مثيل أو أصل عند من سبقه ممن كتبوا في الطب. يقول: "إن صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة، يُلتمس بها لحفظ صحة بدن الإنسان وإبطال المرض، وذلك بأقصى ما يمكن في واحد من الأبدان…".
"صناعة الطب هي صناعة فاعلة عن مبادئ صادقة"، وبلغة عصرنا: علم تطبيقي يرمي إلى تغيير حال بحال. وهذا العلم يقوم على مبادئ صحيحة، بمعنى أن التغيير الذي يحدثه هو نتيجة تدبير علمي يعتمد معطيات التجربة والاستدلال العقلي ولا مجال فيه لذلك "التغيير" الذي يُعتقََد حصولُه بمبادئ غير صادقة كالسحر والتنجيم الخ. ويعبر ابن رشد عن ذلك في مكان آخر بقوله: "الطب هو صناعة فعلُها، عن العلم والتجربة، حفظُ الصحة وإبراء المرض"، ثم يضيف: "وإنما قلنا في الحدِّ : "عن العلم والتجربة"، لأنه ليس يكتفي في هذه الصناعة بالعلم دون التجربة ولا بالتجربة دون العلم بل بهما معا"3.
ويشرح ابن رشد مكونات "الصناعة الفاعلة"، أو العلم التطبيقي، فيقول: "ولما كانت الصنائع الفاعلة، بما هي صنائع فاعلة، تشتمل على ثلاثة أشياء: أحدها معرفة موضوعاتها، والثاني معرفة الغايات المطلوب تحصيلها في تلك الموضوعات، والثالث معرفة الآلات التي بها تحصل تلك الغايات في تلك الموضوعات، انقسمت باضطرار صناعة الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة". ولا شك أن القارئ يلاحظ معنا أننا هنا إزاء نظرة جديدة للطب وإزاء تقسيم جديد، ينقلاننا إلى أفق جديد يختلف تماما عن الأفق الذي نجده عند كل من المجوسي وابن سينا: الطب علم تطبيقي، والعلم التطبيقي لابد له من موضوع يعرفه معرفة علمية ليمارس فيه "التطبيق"، ولابد له من غاية يراد تحصيلها في الموضوع، ولابد له كذلك من وسائل تتم بها عملية التحصيل هذه. وقسمة الطب لا بد أن تنبني على هذه المكونات حتى تكون قسمة ذاتية تعبر عن جوهر المقسوم وليس عن أعراضه فقط.
3- أقسام الطب بحسب: الموضوع ، الغاية، والوسائل.
وبناء عليه انقسم الطب أولا إلى هذه الأقسام الثلاثة: الموضوع وهو بدن الإنسان، الغاية وهي حفظ الصحة وإزالة المرض، والوسائل وهي التي تُحفظ بها الصحة ويزال المرض. وبما أن حفظ الصحة يتطلب أولا معرفة حال الصحة وعلاماتها، وإزالة المرض تتطلب أولا معرفة حال المرض وعلاماته، كان لابد من قسمة فرعية: الصحة، المرض، العلامات الصحية والمرضية. ولما كان حفظ الصحة يتم بوسائل هي الغذاء أساسا وإزالة المرض تكون كذلك بوسائل هي الدواء أساسا، كان لابد من التعرف على الأغذية والأدوية. وهكذا ينقسم البحث في الطب أقساما سبعة: التعرف على بدن الإنسان (التشريح)، التعرف على حال الصحة (وظائف الأعضاء)، التعرف على حال المرض (الباتولوجيا)، التعرف على العلامات (السيميولوجيا)، التعرف على الأغذية والأدوية (علم التغذية والصيدلة)، وطرق حفظ الصحة (الوقاية)، وطرق إزالة المرض (العلاج). ومن هنا قسم ابن رشد كتابه إلى سبعة كتب أو أقسام –بعد المقدمة- هي: 1) كتاب تشريح الأعضاء. 2) كتاب الصحة. 3) كتاب المرض. 4) كتاب العلامات. 5) كتاب الأدوية والأغذية. 6) كتاب حفظ الصحة. 7) كتاب شفاء الأمراض.
ويناقش ابن رشد قسمة الطب إلى قسم علمي (نظري) وقسم عملي، وهي القسمة التي اعتمد عليها المجوسي وابن سينا من قبله فيقول: "وهذه القسمة ليست بقسمة حقيقة لصناعة الطب، لأن جالينوس قد قال في حده (=تعريف الطب): إنه معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما والى الحالة التي ليست بصحة ولا مرض. وإذا كان ذلك كذلك (أي لما كان الطب معرفة…) فأقسامه إنما هي علوم، لا علوم وعمل. وذلك أن الصنائع التي يقال فيها إنها عملية منها ما يقال فيها ذلك لأنها تُتعلم بالعمل مثل صناعة النجارة والخياطة، ومنها ما يقال لها علمية وهي أنها تتعلم بالعلم، أعني بالبراهين والحدود (التعاريف)، لكن غاية العلم فيها إنما هو العمل، وهذه حال صناعة الطب. وليس يبعد أن يكون من الصنائع ما يتعلم بالوجهين جميعا بالعلم والعمل إن سلمنا أنها صناعة واحدة! وقد يظن بصناعة الطب أنها بهذه الصفة: وذلك أن الجزء الذي يعمل باليدين إنما يتعلم بالعمل والمحاذاة أكثر ذلك. فوجه العذر عن هذه القسمة (=ما قد يبرر قسم الطب إلى علم وعمل) أنه لما كان العلم ينقسم في صناعة الطب إلى علمين، علم يشاركه فيه صاحب العلم الطبيعي أعني أنه ينظر فيه العلمان جميعا، وهو العلم الذي ينظر في الصحة وأسبابها وعلاماتها وفي المرض وأسبابه وعلاماته، والعلم الثاني تختص به صناعة الطب، وهو النظر كيف تحفظ الصحة وبأي شرط تحفظ وكيف يزال المرض وبأي شيء يزال، سمي الجزء من العلم الذي يشارك الطب فيه العلم الطبيعي علميا، وأعني بالعلمي ما الغاية المقصودة منه العلم فقط لا العمل، وسمي الجزء الآخر، الذي ينفرد بالنظر فيه صناعة الطب عمليا، إذ كان قريبا من العمل وخاصا به وكثيرا ما يوجد فعله بالاحتذاء، أعني بالعمل. ولذلك كان من شرط الطبيب أن يكون مع قيامه على علم الطب مزاولا لأعماله. وأما العمل باليد فهو كما قلنا عملي محض، وليس يتعلم بالقول (=بالاستدلال) منه إلا جزء يسير (=إذ هو ممارسة وخبرة). وكذلك يشبه أن يكون التشريح: أعني أنه لا يتصور منه بالقول إلا يسير (=إذ يعرف بالحس). وأول من قسم العلم الطبيعي بهذه القسمة حُنين المتطبب، وقد رد عليه ابن رضوان ذلك وزعم أن أصول جالينوس تقتضي أن هذه القسمة باطل، وانتصر له أبو العلاء (ابن زهر)، وزعم أنه تلفى هذه القسمة في بعض الكتب المنسوبة لجالينوس. والحق في ذلك ما قلناه"، (أي أن الطب صناعة علمية أي علم تطبيقي، وأن قسمته إلى علمي وعملي قسمة باطلة). ويضيف: "وأفضل من هذه القسمة أن تقول الطب ينقسم إلى خمسة أقسام: إلى معرفة طبيعة الصحة، وإلى معرفة طبيعة الأمراض، وإلى معرفة علامات الأمراض، وإلى معرفة إزالة الأمراض، وإلى معرفة حفظ الصحة".4
4- مصادر المعرفة الطبية العلمية ودرجتها من اليقين.
بعد ذلك ينتقل ابن رشد إلى المبادئ والأصول التي يقوم عليها الطب كعلم فيلاحظ أن "الصنائع الفكرية"، أي التي تعتمد على التفكير والروية في المعطيات الحسية والتجريبية (وهي غير الصنائع النظرية التي تنظر في المجردات كالفلسفة والرياضيات الخ)، تعتمد كجميع الصناعات على مبادئ وأصول عامة، تتسلَّمُها: إما من بديهة العقل مثل مبدأ السببية ومبدأ الهوية وعدم التناقض وهي مبادئ بينة بنفسها، وإما من علم آخر سابق تبينت فيه بالبرهان أو بالتجربة أو بهما معا. والمصادر الرئيسة التي تتسلَّم منها صناعة الطب مبادئها –زيادة على مبادئ العقل- ثلاثة: العلم الطبيعي، والممارسة الطبية، والتشريح.
والعلاقة بين هذه المصادر وبين علم الطب علاقة واضحة. فالعلم الطبيعي يبحث في الأجسام وموضوع علم الطب جسم الإنسان، وإذن فكل ما يخص هذا الجسم من ناحية تركيبه الطبيعي يتسلمه علم الطب من العلم الطبيعي، مثل ما يتعلق بالأسطقسات والأسباب الأربعة، المادة والصورة والفاعل والغاية، وغير ذلك مما ينتمي إلى الجهاز المفاهيمي الذي يستعمل في البحث في الأجسام الطبيعية. أما الممارسة الطبية أو صناعة الطب التجريبية فيتسلم منها علم الطب ما يخص قوى الأدوية، ذلك لأن مفعول الأدوية إنما يعرف بالتجربة أساسا، وما يعرف منها بالاستنباط لا يكون إلا انطلاقا مما عرف بالتجربة وهو نزر يسير. وأما صناعة التشريح، تشريح الأعضاء، فإن صناعة الطب "تتسلم منها كثيرا من أجزاء موضوعاته". وهذا واضح، لأن حفظ الصحة وإزالة المرض، الذي هو غاية الطب، ينصرف إلى أعضاء البدن واحدا واحدا وإلى البدن ككل.
تلك هي المصادر التي يتسلم منها علم الطب مبادئه وأصوله. والسؤال الآن هو: ما درجة هذه المصادر من المصداقية العلمية، وبعبارة أخرى ما هي درجة ما تعطيه هذه المصادر على سلم الصدق واليقين؟
سؤال ضروري لأن الأمر يتعلق ببناء علم، هو علم الطب. ويجيب ابن رشد:
- أما فيما يخص العلم الطبيعي فيجب الانتباه أولا إلى ما يجمع بينه وبين علم الطب وإلى ما يفترقان فيه. علم الطب يشارك العلم الطبيعي في بدن الإنسان، في صحته ومرضه، بوصفه جسما، وبالتالي موضوعا لدراسة كل منهما، ولكن يفترقان من حيث أن صاحب العلم الطبيعي "ينظر في الصحة والمرض من حيث هما أحد الموجودات الطبيعية، وينظر الطبيب فيهما من حيث يروم حفظ هذه وإزالة هذا". من أجل ذلك كان على الطبيب أن لا يكتفي بمعرفة ما يمده به العلم الطبيعي من "كليات"، أي من خصائص عامة عن الأجسام، بل لا بد له من ممارسة طويلة يتمكن بها من معرفة الكيفيات التي تتجلى عليها هذه الخصائص الطبيعية في بدن الإنسان. وبعبارة أخرى إنه بالممارسة الطبية وحدها يتعرف الطبيب على خصائص بدن الإنسان التي تخصه لذاته بوصفه جسما من الأجسام، أي بوصفه أحد أفراد جنس الأجسام. ومن خلال التعرف على هذه الخصائص "تحصل له مقدمات تجريبية" يقدر بها أن يكتشف في بدن الإنسان تلك الخصائص العامة التي يدرسها العلم الطبيعي. وبعبارة أخرى: هناك ما هو عام وهو المبادئ التي يعطيها العلم الطبيعي، وهناك ما هو خاص وهو ما تعطيه مزاولة الطب. والارتفاع بهذه المزاولة إلى مستوى العلم يكون بربط الخاص بالعام، وبالتالي اكتشاف العام في الخاص. وإذن فالمصداقية العلمية لما يأخذه علم الطب عن العلم الطبيعي تتوقف على مدى الممارسة العلمية التي يقوم بها الطبيب والتي تمكنه من اكتشاف "العام" الذي يعطيه العلم الطبيعي في "الخاص" الذي يتعامل الطب معه وهو بدن الإنسان.
- أما عن المصداقية العلمية لما يتسلمه علم الطب من الممارسة الطبية التجريبية فينبه ابن رشد إلى صعوبة الحصول على اليقين في كل موضوع من موضوعاتها، كما هو الحال في الأدوية، وهي أهم ما يتسلمه منها. ذلك لأن اليقين في هذا المجال يحتاج إلى طول تجربة وإلى ملاحظة مفعول الدواء في كل شخص. أضف إلى ذلك تدخل عوامل أخرى مختلفة. والنتيجة أن ما يأخذه علم الطب من الممارسة الطبية يجب أن يعتبر في درجة "المشهورات" وليس في درجة "اليقينيات".
- أما صناعة التشريح فالمصداقية العلمية فيها أساسها الحس والمشاهدة والفحص. ولكن بما أنها لم تعد زاهرة –في أيام ابن رشد- "إذ قد دثرت" كما يقول، فإن علم الطب مضطر إلى أن يتسلم منها ما هو في حاجة إليه حسب المشهور، مثل ما هو الحال في الأدوية التي مصدر المعرفة بها التجربة.
والخلاصة أن "صناعة الطب" هي "صناعة فاعلة" أي علم تطبيقي تعتمد في فاعليتها وتطبيقها على "مبادئ صادقة": صدق بعضها في مرتبة المقدمات اليقينية، وهي ما تتسلمه من العلم الطبيعي إذا زكي بالتجربة التي تمكن من تطبيق القوانين الكلية على الأشياء الجزئية، بينما صدق بعضها الآخر هو في مرتبة المقدمات المشهورة، ويتعلق الأمر بما تعطيه الممارسة الطويلة سواء على مستوى المعالجة والأدوية أو على مستوى التعرف على تركيب الأعضاء وخصائصها بواسطة صناعة التشريح التي "دثرت" ولم تعد تقدم جديدا (زمن ابن رشد).
وينهي ابن رشد هذه المقدمة المركزة الغنية -مقدمة كتاب الكليات- بملاحظتين سريعتين: الأولى يبين فيها خطأ الاقتصار في حد علم الطب على كونه: "معرفة الصحة والمرض والأشياء المنسوبة إليهما"، موضحا أن هذا الحد يصدق على العلم الطبيعي أيضا، وبالتالي لا بد، لجعله ينصرف إلى الطب وحده، من إضافة العبارة التالية: "ليحفظ الصحة حاصلةً ويستردها زائلةً"، إذ كان هذا الجانب التطبيقي هو المقصود من الطب وبها ينفصل عن العلم الطبيعي الذي هدفه المعرفة فقط. أما الملاحظة الثانية فينبه فيها إلى الخطأ الكامن وراء إضافة "الحال التي ليست بصحة ولا مرض" إلى حد الطب. وهذا الخطأ ناجم –يقول ابن رشد- من عدم فهم صحيح لمعنى الوسط. فليس هناك وسط بين الصحة والمرض كما نقول في وسط العصا مثلا، بل الصحة والمرض يختلفان بالأقل والأكثر، مثلهما في ذلك مثل ما بين اللون الأبيض والأسود من درجات، وهي الألوان المؤلفة منهما مثل الرمادي المفتوح والرمادي القاتم والبني الخ. يقول ابن رشد: "فإنه ليس بين ضرر الفعل المحسوس ولا-ضرره وسط، وإنما يختلف بالأقل والأكثر. وليس المتوسط بين الضدين أن يكون كل واحد منهما في جزء غير الجزء الذي فيه الآخر، ولا في زمن غير الزمن الذي فيه الآخر. وهذا بين مما قيل في العلم النظري".
5- الطب علم تطبيقي، منه نظريات ومنه تطبيقات.
هناك مسألة أخيرة لابد من إثارتها هنا، وتتعلق برفض ابن رشد لقسمة الطب إلى علمي وعملي وإلحاحه على كونه علما بجميع أقسامه. وفي مقابل ذلك يميز بين "الكليات" أو "الأقاويل الكلية" وبين "الأقاويل الجزئية" في الطب . يقول في آخر فقرة في الكتاب: "فهذا هو القول في معالجة جميع أصناف الأمراض بأوجزِ ما أمكننا وأبينِه، وقد بقي علينا من هذا الجزء القول في شفاء مرض من الأمراض الداخلة على عضو من الأعضاء (…) نرجئ هذا إلى وقت نكون فيه أشد فراغا"، ثم ينصح قارئه، الذي يرغب في الاطلاع على معالجة كل عضو على حدة، بالنظر في كتاب "التيسير" الذي ألفه صديقه أبو مروان ابن زهر.
كيف نفهم هذا التمييز ؟
الواقع أن ابن رشد قد تصور "صناعة الطب" خارج التقسيم التقليدي الذي يقسم الفلسفة إلى قسمين : نظري وعملي، والذي عممه الفارابي وابن سينا والغزالي حتى على العلوم الإسلامية إذ جعل هذا الأخير "علم الكلام" بمثابة "العلم النظري" والفقه بمثابة "العلم العملي". لقد اعترض ابن رشد على هذا التعميم رافضا اعتبار "علم الكلام" علما بالكليات وعلم الفقه علما بالجزئيات، كما اعترض عليه هنا. إن الطب، في نظر ابن رشد "صناعة فاعلة"، أي علم تطبيقي، وأن أقرب الصناعات إليها : "صناعة الملاحة" و"صناعة قود الجيوش" (أي قيادتها في الحرب)5. وهذا العلم التطبيقي قوامه "أقاويل كلية" هي "أصول الصناعة"، و"أقاويل جزئية" تخص علاج مرض في عضو. ومن هنا قد لا نخطئ إذا قلنا بعبارة عصرنا: صناعة الطب ( أو فن الطب) قسمان: قسم هو علم يدرس، كما هو الشأن في الدروس العامة التي يتلقاها الطالب في كلية الطب. وقسم هو تطبيق لتلك الدروس أثناء فترة التدريب في المستشفيات والملاحظات السريرية.
6– التصور الرشدي للطب أقرب إلى التصور الحديث.
وواضح أن تقسيم ابن رشد لموضوعات الطب إلى الأقسام السبعة (أو الخمسة) المذكورة آنفا، وإلحاحه على الطابع العلمي للأقاويل الكلية والجزئية التي تلتئم منها هذه الأقسام، وعلى أهمية دور التجربة فيه، كل ذلك يضعنا أمام تصور جديد لعلم الطب يختلف تماما عن التصور الذي قدمه لنا كل من المجوسي وابن سينا. وهذا التصور الرشدي للطب قريب جدا، إن لم يكن مطابقا تماما، للتصور الحديث والمعاصر، سواء في تحديد موضوع الطب وأقسامه أو في تحديد درجته من اليقين العلمي. وقد يكفي أن نشير هنا إلى ما كتبه كلود برنار في كتابه "المدخل إلى دراسة الطب التجريبي" الذي يعتبر دستور الطب الحديث والصادر سنة 1920. يقول في مقدمة كتابه: "حفظ الصحة وشفاء المرض، تلك هي المشكلة التي طرحها الطب منذ قيامه، وهي نفسها المشكلة التي ما زال يواصل العمل لحلها حلا علميا. والوضع الحالي للممارسة الطبية يسمح بالقول بأن هذا الحل سيبقى لمدة طويلة موضوعا للبحث". وبعد أن يبرز التقدم الذي حصل في الطب من خلال ما أنجز في العلوم الفيزيائية الكيميائية وفي ظواهر الحياة، السليم منها والمرضي، يقول: "ولكي يتمكن الطبيب من الإحاطة بالمشكلة برمتها يجب أن يشتمل الطب التجريبي على ثلاثة أقسام أساسية: علم وظائف الأعضاء (La physiologie)، وعلم الأمراضLa pathologie) )، وعلم الشفاء" (La thérapeutique). ويضيف كلود برنار قائلا: "غير أن الطب العلمي لا يمكن أن يتأسس، مثله مثل العلوم الأخرى، إلا عن طريق التجربة، أي بالتطبيق الآني والصارم للاستدلال المنطقي (raisonnement) على المعطيات التي تمدنا بها الملاحظة والتجربة. إن المنهاج التجريبي منظورا إليه في ذاته ليس شيئا آخر غير الاستدلال الذي به نخضع أفكارنا، وبصفة منهجية، لتجربة الظواهر".(6)
لاشك أن القارئ يلاحظ أن ابن رشد رتب كتابه على نفس المنوال الذي يلح عليه هنا كلود برنار: فبعد "صناعة التشريح" التي تتسلم منها صناعة الطب "كثيرا من أجزاء موضوعاتها"، يأتي كتاب الصحة الذي موضوعـه منافع الأعضاء أو وظـائفها (La physiologie)، ثم كتاب الأمراض وكتاب العلامات التي تدل على الأمراض (La pathologie) ، ثم كتاب الأدوية والأغذية وكتاب حفظ الصحة وكتاب شفاء الأمراض (La thérapeutique). هذا إضافة إلى تأكيده القوي على "أنه ليس يكتفي في هذه الصناعة بالعلم دون التجربة ولا بالتجربة دون العلم بل بهما معا"(7).
وغني عن البيان القول إننا لا نهدف من هذه المقارنة إلى إثبات "سبق" ما لابن رشد. فالمسافة طويلة بين القرن الثاني عشر الميلادي والقرن العشرين عشر في جميع الميادين، وفي الميدان العلمي بكيفية خاصة. ولكن هناك أمر واحد يفرض نفسه علينا، وهو أن التصور الذي شيده ابن رشد عن علم الطب هو أقرب ما يكون من التصور الحديث. ومع ذلك كله لا بد من التأكيد هنا أن هذه الروح العلمية التي تعامل بها ابن رشد مع موضوعه كانت مكبلة بالجهاز المفاهيمي الذي كان سائدا في عصره كجهاز لإنتاج المعرفة العلمية، كما أن النظرية الطبية السائدة في زمانه، تلك التي شيدها جالينوس كانت هي المادة العلمية التي تعامل معها ابن رشد وفكر في إطارها حتى في انتقاداته الكثيرة لها.
بعبارة قصيرة، يمكن القول إن ما أنجزه ابن رشد من تجديد في ميدان التفكير العلمي في الطب شبيه بما قام به على صعيد الفلسفة وشرح أرسطو. صحيح أن ابن رشد لم ينتقد أرسطو كما انتقد جالينوس -وإن كان قد اعتمد على هذا في الطب كما اعتمد على ذاك في "الطبيعة" و"ما وراء الطبيعة"- ولكن ابن رشد قد حاول حل المشاكل التي تركها أرسطو معلقة وسد الثغرات في منظومته بناء على "ما يقتضيه مذهبه"، مذهب أرسطو الذي هو في الحقيقة مذهب ابن رشد نفسه، وذلك بتطويع الجهاز المفاهيمي الأرسطي إلى درجة تقترب من تفجير المنظومة الأرسطية بالمرة8. والشيء نفسه فعله فيلسوف قرطبة مع طب جلينوس، (كما سنرى في مقدمتنا التحليلية للكتاب). والسؤال الآن سؤال مضاعف:
ترى ماذا كان دور ابن رشد الطبيب في أوروبا؟ هل كان بمثل دوره في الفلسفة، وهو الدور الذي تمثل في قيام "الرشدية اللاتينية" التي كانت وراء النهضة الأوروبية؟ وهل كان له دور ما في الفكر الطبي العربي بعده؟
7- ابن رشد وكتاب الكليات في أوروبا: "العصا القاتلة".
يجب التأكيد ابتداء أننا ما زلنا عالة على المستشرقين في موضوع "دور العلم العربي في النهضة الأوروبية"، وأن ما أنجزه هؤلاء في هذا المجال مازال، رغم أهميته، دون ما يجب أن يكون. إن دور العلم العربي والفلسفة العربية في النهضة الأوروبية لا يمكن جلاءه إلا على أيد باحثين عارفين للغتين اللاتينية والعبرية ومتخصصين في ثقافة القرون الوسطى وعلى إلمام كاف بالتراث العربي في العلم والفلسفة. وهذا ما نتمنى أن يتوافر للثقافة العربية على أيدي الأجيال الصاعدة من الباحثين الجامعيين. نحن مضطرون إذن، في الوقت الحاضر، إلى النقل من المستشرقين والمستعربين الجدد والمهتمين بهذا الموضوع من الباحثين والأكاديميين الأوروبيين. ولعل أهم بحث أنجز أخيرا في الموضوع -حسب علمنا- هو ذلك الذي كتبته دانيال جاكار (مديرة أبحاث في المعهد التطبيقي للدراسات العليا بباريس)، بعنوان "تأثير الطب العربي في الغرب خلال القرون الوسطى"9، وسيكون هذا المقال مرجعنا الرئيسي في الموضوع.
تبرز الباحثة حضور كل من كتاب علي بن العباس المجوسي "كامل الصنعة الطبية" وكتاب "القانون" لابن سينا وكتاب "المنصوري" ثم "الحاوي" للرازي وكتاب "الكليات" لابن رشد الذي عرف باسم Colliget وقد ترجمت كلها إلى اللاتينية10. وكما هو الشأن في الفلسفة فقد كان هناك في الأوساط الطبية الأوروبية تياران متنازعان، أحدهما مع ابن سينا والآخر مع ابن رشد. ويهمنا هنا الدور الذي قام به ابن رشد من خلال كتابه "الكليات".
تقول الباحثة المذكورة: عن كتاب "الكليات" : "لقد أثار هذا الكتاب العديد من المجادلات التي سمحت للأطباء الغربيين بتجديد مذهبهم". "وبصفته داعما للأفكار الأرسطية فقد ساهم كتابColliget في وضع مسائل أساسية بشكل جديد. وهكذا ابتداء من السنوات الأخيرة في القرن الثالث عشر وصولا إلى القرن السابع عشر، توزعت التحديدات المختلفة للحمى حول الموقفين المتباعدين لابن سينا وابن رشد". وبعد أن تشير الباحثة إلى أن الحل الذي قدمه ابن رشد قد أخذ به بدون صعوبة لكونه أقرب إلى رأي جالينوس، تضيف قائلة: "لقد لعب كتاب Colligetأيضا دورا محرضا بإعطائه من جديد حيوية لتعريف الطب كصنعة. إن الأوضاع الخاصة بالنظرية والتطبيق (= القسم النظري والقسم العملي في الطب) كما ظهرت في كتابي Pantegni ( المجوسي: كامل الصناعة الطبية) وcanon (القانون لابن سينا)، قد طرحت مجددا للنقاش (…). إن النقاش حول تحديد الطب الذي ورد في كتاب الكليات Colliget لقي كثيرا من الصدى، الأمر الذي أدى في النصف الثاني من القرن الثالث عشر إلى بروز اهتمام جديد بالطريقة التي تسمح بتحليل الحالات الخاصة (particularia)، أي الظروف التي لا تحصى والتي تحصل في الحياة اليومية". وقد بلغ تأثير ابن رشد في زعزعة التصورات الطبية التي كانت سائدة أن خص شارح كتاب القانون لابن سينا جاك ديبار Jacques despars المتوفي سنة 1458م ابن رشد بوصف خاص غني بالدلالة. وهكذا فبينما قال عن الرازي إنه "المختبر الأرفع" و"الطبيب الأكبر والأكثر خبرة بعد ابقراط وجالينوس"، وقال عن ابن ماسويه إنه "خبيرنا" ومبشرنا"، "الأعلم من الجميع في وصف الأدوية"، وصف ابن رشد الطبيب بـ "العصا القاتلة"، و"الرجل الذي "أفسد جميع الأطباء"!
أما أن يكون كتاب "الكليات" لابن رشد "قد أثار العديد من المجادلات التي سمحت للأطباء الغربيين بتجديد مذهبهم"، وبالخصوص من خلال التصور الجديد الذي قدمه عن الطب وأقسامه ومرتبته من اليقين، فهذا مفهوم؛ وقد سبق أن أبرزنا هذا الجانب في الفقرات السابقة. وأما وصفه بـ "العصا القاتلة" وبـ "الرجل الذي أفسد جميع الأطباء"، فالسؤال: كيف، ولماذا؟ يطرح نفسه بإلحاح.
إن الباحثة صاحبة المقالة التي ندين لها بهذه المعلومات القيمة لا تطرح هذا السؤال، وبالتالي فهي لم تنشغل بالإجابة عنه بل انتقلت إلى موضوع آخر. ومع ذلك فإن سياق عرضها التاريخي لحضور الطب العربي بمختلف منازعه في الفكر الأوروبي، وردود الأفعال التي قامت هناك إزاء هذه المرجعية العربية أو تلك، تسمح لنا باستخلاص الجواب عن سؤالنا: لماذا وصف ابن رشد الطبيب هناك بـ "العصا القاتلة" ولماذا قيل فيه : "إنه أفسد جميع الأطباء"!
نقرأ في المقالة نفسها أن الطبيب الكتالاني أرنو دو فيل نوف (Arnaud de Ville Neuve) "أحد الوجوه الفكرية البارزة في القرون الوسطى"، كان "مجددا في إطار تقليد استوحى أعمال جالينوس، وكان أيضا ناقدا لاذعا لابن سينا على الرغم من أنه استوحى مؤلفاته وأنه ترجم له مقالة في أحكام الأدوية القلبية التي ظهرت بعنوان De viribus cordis . وفي سياق مرجح من الجدال داخل الوسط الطبي انتقد بعنف، ومرة بعد أخرى، أولئك الذين يتبعون كتاب Canon (القانون) لابن سينا بشكل أعمى". لقد أعلن في كتبه أن "الحقيقة المتينة التي وصل إليها جالينوس لم يفهمها ابن سينا الذي، من خلال غزارة مجلده الضخم في الطب، جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى" ، "يثرثرون تحت نفوذه من دون أن يتذكروا البرهان. ويبدو أنهم يعتبرون أنفسهم مغتبطين إذا استطاعوا رؤية أو قراءة أو إظهار عبء المجلد (=قانون ابن سيناء؟) على منابرهم الكبيرة". وتضيف صاحبة المقالة: "إن فهم أعمال ابن سينا بالنسبة إلى دوفيل نوف يعني تمريرها من خلال مصفاة الجالينوسية".11
واضح مما تقدم أن "قانون" ابن سينا كان له نوع من الهيمنة على الأوساط الطبية في أوربا خلال القرن الثالث عشر، وأن ردود أفعال مناوئة له بدأت تظهر عندما أخذ الدارسون يكتشفون نصوص جالينوس مما أتاح لهم "مقابلة الأعمال العربية بالمصادر الجالينوسية". وفي هذا الإطار يدخل هذا الرد العنيف الذي تعرفنا عليه أعلاه ضد ابن سينا. لقد كان دعوة إلى الرجوع إلى المرجعية الطبية الأساسية: جالينوس الذي وصل إلى " الحقيقة المتينة" التي "لم يفهمها ابن سينا الذي… جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى".
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو التالي: إذا كان ابن سينا قد "جعل القسم الأعظم من الأطباء اللاتين حمقى"، وأن البديل الصحيح هو الرجوع إلى جالينوس، فما هو "ذنب" ابن رشد في هذا السياق حتى يوصف بـ "العصا القاتلة" ويتهم بأنه "أفسد جميع الأطباء"؟
8- هل كان ابن رشد وراء اكتشاف الدورة الدموية ؟
الجواب يقدمه لنا كتاب "الكليات" الذي بين أيدينا. ذلك أن ابن رشد قد أعلن في مقدمة هذا الكتاب أنه سيتحرى فيه "الأقاويل المطابقة للحق، وإن خالف ذلك آراء أهل الصناعة" (= صناعة الطب). وأهل الصناعة الذي يخالفهم في هذا الكتاب ليس ابن سينا، فهو يتجاوزه و لا يذكره إلا نادرا وفي أمور جانبية. إن الذي سيخالفه ابن رشد ويدخل معه في نقاش من أول الكتاب إلى آخره هو جالينوس بالذات! لقد اعتبر ابن رشد جالينوس الشخص الوحيد الجدير بأن يعتمد وأن يناقش في آن واحد. وواضح أن مناقشة فيلسوف قرطبة لجالينوس ومخالفته له في مسائل أساسية من مذهبه الطبي معناه "خلخلة" وزعزعة البديل الذي لجأ إليه معارضو ابن سينا في أوروبا والعمل على تجاوزه. لقد كان ابن رشد من هذه الناحية فعلا "عصا قاتلة" للتقليد، سواء تقليد ابن سينا أو تقليد جالينوس. ومن هنا كان لابد أن ينظر إليه على أنه "أفسد جميع الأطباء"، الشيء الذي يعني أنه زعزع الفكر الطبي الأوروبي في القرون الوسطى ودفعه في اتجاه الثورة على التقليد، اتجاه فتح "باب الاجتهاد فيه"، وذلك إلى درجة جعلت البعض يربط بين ابن شد واكتشاف هارفي للدورة الدموية الكبرى! أما الصغرى فشرَف اكتشافها يعود لابن النفيس كما سنرى.
وإذا كان هذا هو تأثير كتاب "الكليات" في الفكر الطبي الأوربي فماذا كان، يا تُرى، حظ الفكر الطبي العربي منه؟
لقد اعتاد الناس على القول إن فكر ابن رشد لم يكن له ما بعده في الثقافة العربية، وهذا إن كان صحيحا على مستوى ما كان يمكن أن يحدثه من ثورة فكرية في الحضارة العربية التي كانت قد دخلت آنذاك في مرحلة الأفول، فليس صحيحا على مستوى ما حصل من تطور وتجديد في قطاعات معرفية معينة. لقد سبق أن أبرزنا في أعمالنا الأخرى امتدادات المشروع التجديدي الرشدي لدى كل من البطروجي في علم الفلك والشاطبي في أصول الفقه وابن خلدون في "علم العمران" وابن تيمية في العلاقة بين المعقول والمنقول12. ونضيف الآن فنتساءل: ألم يكن ابن رشد وراء أعظم اكتشاف في تاريخ الطب العربي بل ربما في تاريخ كله، نعني بذلك اكتشاف ابن النفيس للدورة الدموية الصغرى؟
سؤال تركنا الخوض فيه إلى مقدمتنا التحليلية لمحتوى كتاب "الكليات". ذلك أن الخوض في الجواب عن هذا السؤال يتطلب أولا الاستماع إلى مناقشة ابن رشد لجالينوس في المسائل المتصلة بالموضوع مثل العلاقة بين الكبد والقلب والرئة والشرايين والأوردة الخ، المناقشة التي مارس فيها ابن رشد عملية "الخلخة" للمرجعية الطبية الأولى في زمانه وإلى ما بعد زمانه بما لا يقل عن خمسة قرون (جالينوس)، والتي ألح فيها على دور التجربة وخوضه في قضايا معينة كان للنقاش الذي أثاره حولها أهمية تاريخية بالغة.
----------------------------------------------------------------------
هوامش واشارات
1 نثبت هنا نص الفقرة التي خصصناها لابن رشد في المدخل الذي صدرنا به النسخة التي أشرفنا على تحقيقها من كتابه "الكليات في الطب" الذي نشرناه ضمن مجموعة كتب ابن رشد "الأصيلة"، أي التي كتبها ابتداء وليس شروحا. وهي "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال"، "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة"، تهافت التهافت"، "الكليات في الطب"، وأخيرا تلخيصه لكتاب السياسية لأفلاطون الذي نشرناه بعنوان "الضروري في السياسة"، وهذا الكتاب ضاع أصله العربي ولم يبق منه سوى نسخة بالعبرية نقلها إلى العربية مباشرة زميل لنا بكلية الآداب بالرباط وتولينا نحن صياغتها حسب تعبيرات ابن رشد ومصطلحه وأسلوبه. وقد جهزنا نصوص ابن رشد في هذه الكتب جميعها بعلامات الإفهام (فقرات، فواصل، نقط الخ) وصدرنا كلا منها بمدخل يؤرخ لموضوع كل كتاب، ثم بمقدمة تحليلية عرضنا فيها لمحتواه بالتحليل والمناقشة. وقد طبعت هذه الكتب سنة 1998 وكان ذلك بمناسبة سنة ابن رشد، وقد صدرت في نفس السنة عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت.
2 كان ابن رشد يعمل في كل ما كتب من أجل تحقيق هدف استراتيجي واحد هو: إعادة بناء الفكر والثقافة في عصره، وذلك بإعادة تأصيل الأصول في كل مجال من مجالات الثقافة العربية الإسلامية: في العقيدة، والشريعة، والفلسفة، والطب، والعلم، واللغة، والسياسة ...
- ففي مجال العقيدة أكد بعبارات صريحة أن هدفه من التأليف فيها كما عبر هو نفسه: "تصحيح عقائد شريعتنا مما داخلها من التغيير" والرجوع بهـا إلى "الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها"، ووضع "قانون للتأويل" يبين للعلماء ما يجب تأويله، وما يجوز، وما لا يجوز، وكيف؟
- أما في مجال الفقه فقد دشن عمله فيه بكتابه "الضروري في أصول الفقه" الذي افتتحه بتوجيه نقد قوي لفقهاء عصره الذين قال عنهم: "وظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون. من أجل ذلك قرر تصحيح الوضع بفتح باب الاجتهاد وبيان أسباب الخلاف بين أئمة الفقه، فكان ذلك موضوع كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الذي عرض فيه الفقه الإسلامي عرضا نقديا يقوم على مقارنة المذاهب الفقهية الأربعة وبيان وجوه الاختلاف بينها ودواعيه، وترجيح ما اعتبره أقرب إلى مقاصد الشرع.
- وأما في مجال النحو واللغة فقد ألف فيه كتابه "الضروري في النحو" عمل فيه على إعادة صياغة علم النحو العربي بحيث تتوافق بنيته مع علم النحو في اللغات الأخرى وتكون قواعده عامة شاملة ومنطقية.
- وأما في المجال الفلسفي فقد أعلن فيلسوف قرطبة في أول كتاب له في الفلسفة، أن غرضه هو استخلاص الآراء العلمية التي يقتضيها مذهب أرسطو وحذف الأقاويل الجدلية منها، مبينا أنه إنما اعتمد على مؤلفات أرسطو دون غيرها من كتب القدماء (اليونان) لكونها "أشدها إقناعا وأثبتها حجة".
- أما في مجال الطب، الذي ألف فيه "كتاب الكليات في الطب"، فقد كان هدفه الأساسي منه بناء الطب على العلم، والعلم الطبيعي خاصة، لتكون الممارسة الطبية في الجزئيات منتظمة تحت "كليات" علمية وليس على مجرد التخمين والتقليد والتجارب العفوية التي كان يعتمدها أصحاب الوصفات الجاهزة من مؤلفي "الكنانيش" (التي تصف الدواء لكل داء) وغيرهم من المؤلفين في الأمراض والأدوية كما سنرى أعلاه.
- وأما في مجال العلوم الطبيعية، فقد رافقه منذ بداية مسيرته العلمية مشروع من أعظم المشاريع العلمية، هو مشروع إصلاح علم الفلك الذي كان يعتمد في عصره الاعتماد كله على بطليموس ونظامه الكوني. كان ابن رشد مهتما بهذه المشروع طوال مسيرته العلمية التي بدأت وهو في السابعة والعشرين من عمره عندما قصد إلى بعض الجبال المرتفعة بناحية مراكش بالمغرب بهدف إجراء قياسات علمية حول حركة بعض الكواكب. ولكن كثرة أشغاله وتعدد مشاريعه العلمية جعلاه يؤجل الانكباب على "إصلاح علم الفلك" مرة بعد مرة إلى أن تقدمت به السن ووجد نفسه غير قادر على إنجاز هذا المشروع معبرا عن أمله في أن يأتي من بعده من يقوم بالمطلوب، وفعلا جاء بعده الفلكي المجدد البطروجي ...
كان ابن رشد صاحب رسالة حددها لنفسه بكل وضوح، وعمل من أجلها باجتهاد منقطع النظير، رسالة القيام بالتصحيح الضروري في كافة مجالات الثقافة والعلم في عصره، وذلك بالتصدي لوجوه الجمود والتقليد والتحريف التي كانت منتشرة والقيام بالتالي بإعادة بناء المعرفة في مختلف المجالات بالرجوع إلى الأصول وتجديد الفهم واعتماد البرهان العقلي فيما يكفي فيه النظر العقلي المجرد، والركون إلى ما تعطيه التجربة فيما لا بد فيه منها. (انظر كتابنا : ابن رشد سيرة وفكر. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت).
3 ابن رشد. شرح أرجوزة ابن سينا.مخطوطة.
4 ابن رشد. شرح الأرجوزة. نفسه. في مقدمة "الكليات" يجعل الأقسام سبعة: بإضافة التشريح والأدوية، الأول قطاع مستقل (علم التشريح) يتسلم منه علم الطب بعض مبادئه. والثاني ميدان مستقل كذلك (علم الصيدلة: تركيب الأدوية) وسنرى بعد أنه يجعله مستقلا وسابقا على معرفة العلاج.
5 تشبيه علم الطب بعلم الملاحة البحرية واضح من كون علم الملاحة يشتمل على معارف نظرية تتناول البحر والموج والطقس والريح والاهتداء بالنجوم الخ، ولكن قائد السفينة يطبق هذه المعلومات والمعارف حسب الحالات الواقعية والتي تتغير حسب الظروف الزمانية والمكانية. وكذلك علم قيادة الجيوش يشتمل على معارف تتلقى في المدارس العسكرية ولكن قيادة الجيش في المعارك وتطبيق تلك المعارف الخ، كل ذلك يختلف من معركة لأخرى، وتلك هي حال الطب.
6 Claude Bernard, Introduction à l'etude de la médecine expérimentale, Librairie Delagrave. Paris 1920. pp. 5-7
7 ابن رشد. شرح أرجوزة ابن سينا.
8 راجع في هذا الموضوع كتابنا: ابن رشد. سيرة وفكر. الفصل 183
9 ترجمت هذه المقالة ضمن كتاب : موسوعة تاريخ العلوم العربية، ج3. إشراف: رشدي راشد. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. 1997. ص 1225. هناك مراجع أخرى حول حضور فكر ابن رشد في أوروبا أصبحت قديمة متجاوزة مثل كتاب رينان "ابن رشد والرشدية" الخ، ومن الكتب الجديدة: كتاب جماعي صدر في 1995 دار النشر Le Seuil تحت عنوان Histoire de la pensée médicale en Occident ، وكتاب مانفريد أولمان المترجم إلى الفرنسية سنة 1995 بعنوان La médecine islamique.
10 ترجمت جل المؤلفات الطبية العربية. انظر لائحة مختصرة بأسمائها وتاريخ ترجماتها في المقالة المشار إليها أعلاه.
11 نفس المرجع. ص1237-1238
12 انظر كتابنا: بنية العقل العربي. مركز دراسات الوحدة العربية بيروت. ص536