لعله لا يخفى على أحد التأثير المباشر الذي أحدثته جائحة فيروس كورونا المستجد على صناعة السينما، فالسينما بوصفها تجمع لعدد كبير من الناس لمشاهدة فيلم في قاعة واحدة أصبحت ضرباً من الخيال في عدة بلاد حول العالم، وهو ما أدى إلى الكثير من التأثيرات السلبية لشركات الإنتاج التي قررت تأجيل عرض أفلامها أو إيقاف إنتاج بعض الأفلام وغيرها من التأثيرات الأخرى، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى قلة عدد الأفلام المعروضة. لكننا إذا تجاوزنا هذا التأثير السلبي المباشر سنلاحظ أن الجائحة تمثل عاملاً يتضافر مع عدد من العوامل الأخرى كي تساهم في تغيير شكل صناعة السينما بدرجة كبيرة.
تعتبر الأشهر الحالية "موسم الجوائز"، ففيها يقام عدد من المهرجانات السينمائية المهمة في الولايات المتحدة، مثل حفل توزيع جوائز الأوسكار وحفل توزيع جوائز الجولدن جلوب لكن مر شهر يناير دون أي من الجوائز نتيجة تأجيل كل منهم بسبب ظروف جائحة كورونا، فقد أجلت جوائز الجولدن جلوب عن موعدها المعتاد في شهر يناير إلى يوم الأحد الموافق الثامن والعشرين من فبراير.
لم يكن التأجيل هو التأثير الوحيد على الجائزة، لكن بسبب الظروف التي تمر بها دور العرض قامت رابطة هوليوود للصحافة الأجنبية وهي المؤسسة التي تقدم الجائزة، بوضع بعض التعديلات على قواعد التأهل للجائزة. نصت القواعد سابقاً على أن الفيلم يجب أن يُعرض على أعضاء المؤسسة في دار عرض سينمائية غير تابعة لأي من الطرفين، صانع الفيلم أو المؤسسة، إلا أنه ونتيجة لإغلاق دور العرض إلى أجل غير مسمى نتيجة للجائحة فقد علقت المؤسسة هذا القانون، في المقابل أصبحت القاعدة هي أن يتوفر نسخة على قرص صلب أو رابط للعرض على خدمة بث على الإنترنت، حتى يتسنى للجنة التحكيم مشاهدة الفيلم في المنزل.
لم تعتبر اللجنة سابقاً سوى الأفلام التي تعرض لمدة سبعة أيام على الأقل في السينمات أو الموجودة على خدمات البث التي يكون فيها الدفع مقابل مشاهدة فيلم محدد، وهو ما لا ينطبق على خدمات البث التي تقدم خدمة الدفع في مقابل مشاهدة كل المعروض على المنصة لمدة معينة مثل نتفليكسي ودينستي إلا أن هذه القاعدة تغيرت لهذا العام وأصبحت هذه الأفلام معتبرة ضمن الأفلام التي يحق لها التأهل للجائزة
شملت التعديلات أيضاً القواعد الخاصة بالأفلام غير الإنجليزية (جائزة أفضل فيلم أجنبي)، فقد نصّت القاعدة سابقاً على ضرورة أن الفيلم غير الإنجليزي يجب أن يكون قد عُرض في بلده الأصلي في الفترة من شهر أكتوبر وحتى ديسمبر السابق على الجائزة، لكن نتيجة لإغلاق دور العرض في أغلب بلدان العالم، توقفت هذه القاعدة عن العمل، وأصبح يمكن لأي فيلم عُرض في أي بلد بأية وسيلة، كدور العرض السينمائية أو منصات المشاهدة مقابل الدفع أو التلفاز أو حتى منصات البث التي تقدم خدمات الاشتراك الشهري.
الأفلام العربية
كانت هذه التعديلات عاملاً في تسهيل إجراءات ترشيح عدد من الأفلام العربية للجائزة، أولها فيلم "بين الجنة والأرض" أو وهو الفيلم الذي قامت بكتابته وإخراجه الفلسطينية نجوى نجار التي سبق أن كتبت وأخرجت عدد من الأفلام التي تعبر عن الصراعات النفسية التي يمر بها الفلسطينيون كفيلمي "المر والرمان" و"عيون الحرامية".
في فيلمها الأخير تحكي نجوى نجار قصة مستوحاة من قصة حقيقية، لزوج فلسطيني، طاهر وسلمى. استمر زواجهما مدة خمس أعوام، إلا أن هذه الأعوام الخمسة كانت كامل عمر زواجهما، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها تامر على تصريح بعبور الحدود الإسرائيلية لمدة ثلاثة أيام حتى يتمكن من إنهاء إجراءات الطلاق في المحكمة إلا أنه يكتشف أسراراً عن والده. وتمثل هذه الأسرار الدافع الأساسي للقصة.
لم تكن نجوى نجار المخرجة الفلسطينية الوحيدة التي تتطلع إلى الجولدن جلوب، فالمخرج والكاتب أمين نايفة، صاحب فيلم "العبور"، شاركها هذا التطلع عن فيلمه الأخير 200 متر 200 ، وهو الفيلم الذي عرض فيه معاناة الفلسطينيين مع الجدار العازل، وهو يحكي هذه التجربة من خلال تجربته الشخصية التي عاشها في طفولته. يقول أمين إنه "بمجرد بناء الجدار العازل بدأت السيطرة والهيمنة والقمع من الجانب الإسرائيلي، فجأة أصبح الوصول إلى بيت أخوالي صعباً رغم أن المسافة بالسيارة 20 دقيقة”. تعتمد حبكة الفيلم على إتاحة حل بسيط للمشكلة وهو قدرة البطل (مصطفى) على استخراج هوية إسرائيلية لكونه من "عرب 48"، لكن رفضه القيمي لهذا الإجراء هو ما يدفع قصة الفيلم كي تسلط الضوء على الحالة النفسية التي يمر بها مصطفى وكل من حوله.
على الجانب الآخر قدمت لبنان فيلم "يربّوا بعزكن" أو C section الذي كتبه آيزك فهد ودوريس سابا، وأخرجه دايفيد أوريان في إنتاج مشترك لآيزك فهد ووسام لحود. للوهلة الأولى يبدو فيلماً تجارياً كوميدياً لكن اختيار الكوميديا في هذه الحالة كان مركبة استطاع من خلالها الفيلم مناقشة وعرض الموزايكو الاجتماعي والطائفي والديني والاجتماعي الطبقي للبنان. تدور أحداث الفيلم حول لقاء لأسرتين من خلفيتين مختلفتين كلية، الأولى يمثلها ابن نائب سابق متزوج من درزية شقراء بينما الأسرة الثانية هي أسرة مسيحية تعيش في قرية ويعمل ربُّها في النجارة. رتّب صناع الفيلم لقاء أسرتين مختلفتين بهذه الدرجة من خلال وضع كلا الأسرتين في مستشفى واحد أثناء ولادة الزوجتين ويقوم من خلال هذا الصدام بمعالجة كوميدية للتناقضات التي تميز الشخصية اللبنانية مع إضافة عنصر رأس المال.
إلى جانب (يربوا بعزكن)، طمح الفيلم اللبناني "مفاتيح مكسورة" في اقتناص الجائزة، وقد أخرج الفيلم وكتبه جيمي كيروز، والفيلم يحكي قصة تدور بين سوريا والعراق عن موسيقى طموح يعزف البيانو. يطمح كريم، عازف البيانو، إلى مسيرة موسيقية في أوروبا لكنه يعيش في بلاد تمزقها الحرب. في ظل هذه الظروف يحاول كريم بيع البيانو الخاص به لجمع بعض الأموال كي يتمكن من السفر، لكن مفاتيح البيانو الخاص به تنكسر خلال الحرب، هكذا يقرر كريم البحث عن طريقة لإصلاح المفاتيح في بلد تسيطر عليه جماعة إرهابية تحرم الموسيقى.
يقول كيروز أن "الفكرة راودتني عندما كنت أتابع أخبار داعش في عام 2014. كنت أدرس في إحدى جامعات مدينة نيويورك. وصدمت عندما علمت أنّ التنظيم يمنع عزف الموسيقى أو سماعها. ورحت أعمل بحثاً دقيقاً عن كيفية مقاومة بعض الموسيقيين لهذا القرار كلٌ على طريقته. فقررت أن أترجم هذه المعاناة بفيلم سينمائي كتبت قصته وأخرجته كي يكون بمثابة رسالة تحمل التفاؤل في زمن قاتم تجتاحه الحروب".
في ناحية أخرى نشاهد فيلم (ستموت في العشرين) من إخراج المخرج أمجد أبو العلا، ويعرض حالياً على منصة Netflix. الفيلم يحكي قصة المزّمل، الطفل حديث الولادة الذي أخذته أمه إلى شيخ ليباركه، لكن طقوس المباركة تنقطع قبل أن تكتمل، فخلال الرقص والإنشاد يذكر أحدهم الله ويعد من رقم 1 بصورة تصاعدية، إلا أنه عندما وصل إلى الرقم 20 سقط فجأة على الأرض، وهو ما فُهم بأن الطفل سيعيش عشرين عاماً فقط. يقدم أبو العلا في الفيلم فهماً مركباً للشخصية السودانية يتجاوز الأيدولوجيا، ويتحرك بحرية ومرونة بين الأبعاد الثقافية الإسلامية والعربية والخرافية الشعبية والانتماء الإفريقي بالطبع، وهي الفرصة التي يعتبرها أبو العلا مؤشراً على عودة قوية للسينما السودانية، فالفيلم هو الفيلم الروائي الطويل الأول منذ 20 عاماً في السودان.
بالإضافة إلى فلسطين ولبنان والسودان، قدمت تونس فيلم (الرجل الذي باع ظهره) أو وهو فيلم متعدد اللغات في واقع الأمر ويشارك فيه فنانون دوليون مثل الممثلة الإيطالية مونيكا بيلّوتشي أخرج الفيلم المخرج كوثر بن هنية، وهو يحكي قصة سام علي، السوري الذي هرب إلى لبنان فراراً من ويل الحرب، آملاً أن يتخذ من لبنان محطة ينتقل من خلالها إلى باريس حتى يلحق بحبيبته هناك. يوافق سام على أن يرسم أحد أشهر الفنانين وشماً على ظهره حتى تكون تلك ذريعة يستطيع بها الخروج من البلد ودخول فرنسا. يتحول جسد سام بهذا الوشم إلى لوحة فنية، لكن هذا يعني أيضاً أنه لم يصل إلى الحرية التي طالما حاول السعي إليها بالهرب إلى فرنسا، فقد فقدها مرة أخرى بصورة مختلفة.
وأخيراً يقدم المخرج المغربي توفيق بابا فيلمه (أوليفر بلاك) أو وهو الفيلم الذي حصد عدداً من الجوائز سابقاً. الفيلم يحكي قصة شاب إفريقي في مقتبل عمره يحلم بعبور الصحراء الكبرى حتى يصل إلى المغرب ليمارس فن السيرك، أثناء عبوره في الصحراء، يلتقى رجلاً كبير السن يهدف إلى حضور حفل زفاف حفيدته لكنه فقد ناقته. في رحلتهما معاً يواجهان الظروف القاسية للصحراء سوياً بينما يناقشان أفكارهما عن الإنسان والمستقبل.
الضارة النافعة
على الرغم من التأثير السلبي لجائحة كورونا على جميع المستويات، لكن الظرف التاريخي لا يخلو من بعض الإيجابيات، فقد كان لتسهيل إجراءات ترشيح الأفلام لسباق الجولدن جلوب دور في قدرة هذا العدد من الأفلام العربية على الوصول إلى هذه المرحلة. أصبح من الواضح أن وسط الأفلام والمسلسلات يمر بمرحلة تغير كبيرة ساهمت فيها عوامل كثيرة مثل منصات البث عبر الإنترنت كـ وغيرها.
ثم أتت الجائحة لتسرع من عملية التغير تلك، وفي هذه المراحل التي تتسم بعدم اليقين يمكننا البحث عن براعم جديدة تأخذ في الظهور حتى تصبح هي من يشكل المشهد في المستقبل. على الرغم من عدم وصول أي من تلك الأفلام إلى القائمة النهائية القصيرة للأفلام المرشحة للفوز بالجائزة إلا أن هذا يعد نجاحاً كبيراً، فعلى الرغم من الأهمية الواضحة للحصول على الجائزة فإن الطريق والرحلة إليها لهما قيمة أكبر، والطريق إلى الجولدن جلوب إلى جانب كونه تكريماً سينمائياً عالياً فإنه يمثل فرصة كبيرة لهذه الأفلام المتميزة أن تظهر إلى النور وإلى أن يعرفها جمهور السينما العربي وغير العربي. إن هذه المجموعة من الأفلام تمثل خطوة كبيرة في اتجاه الارتقاء بصناعة السينما العربية وفرصة كبيرة لتسليط الضوء على الإنتاج السينمائي العربي الحديث.