واليوم تبقى برامج البودكاست محفوظة في موقع اليوتيوب زمانًا بعد تسجيلها؛ ممَّا يمنحها بعضًا من خلود الكتابة وديمومتها؛ ومن هنا يبدو لي شيء من ملامح التَّفوُّق الإعلاميِّ بين الدُّول القويَّة في المستقبل، وسترجح كفَّة مَن سيملك مساحات التَّخزين العملاقة، ويستطيع حمايتها أوَّلًا، ومَن سيملك برامج وتطبيقات إلكترونيَّة ومواقع تواصل اجتماعيَّة جذَّابة تُغري المرسل والمتلقِّي بالانضمام إليها؛ لتحويل روايته الشَّفويَّة إلى مادَّة مسجَّلة أو محفوظة، وإن كانت زَحمة الغُثاء منفِّرة في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ فإنَّ الأيَّام كفيلة بغربلة ما يُسجَّل في برامج البودكاست؛ فليس كلُّ ما يوصف بالتَّفاهة تافه حقًّا، ولا كلُّ ما يَلبس لَبوس التُّراث والثَّقافة، أو يرتدي قناع الحفظ والتَّوثيق والحرص على التُّراث والثَّقافة سيكون تراثًا أو توثيقاً أو ثقافة، وأكبر دليل على ما أقوله وعيُ المتلقِّي في وقتنا الرَّاهن؛ حيث يميِّز كثير من المتلقِّين المعاصرين بين تاريخَين مكتوبَين: تاريخ كتبه رجال السَّلاطين، بل زوَّره كثير من مؤرِّخي السَّلاطين والمموِّلين بعدما أتخموهم بلحوم وفاكهة ورواتبَ سرقوها من حقوق الشُّعوب المغلوبة، وتاريخ شعبيٌّ آخر نقرأه في مذكَّرات الأدباء والمثقَّفين الحقيقيِّين البعيدين عن السَّلاطين ومكافآت المقالات والشَّهادات والذَّواكِر المأجورة.
لبنان ، ونشروا المقابلة في موقع بودكاست أثير على اليوتيوب، وتحدَّث جنبلاط خلال المقابلة عن جملة من القضايا الحسَّاسة بالنِّسبة للسُّوريِّين واللُّبنانيِّين والعرب لا سيَّما الدُّروز منهم في وقتنا الرَّهن، وأكَّد جنبلاط في مقابلته هذه رعايةَ موسكو التَّاريخيَّة لزعيم الطَّائفة الدُّرزيَّة، وشرحَ بعضَ أسباب عنصريَّة اللُّبنانيِّين تجاه السُّوريِّين، واليوم وبعد بودكاست جنبلاط بأيَّام قليلة يطالب تيَّار ميشيل عون وصهره جبران باسيل بعدم تسجيل أبناء النَّازحين السُّوريِّين في المدارس اللُّبنانيَّة، والتَّجهيل والتَّعتيم على تاريخ السُّوريِّين اثنان من أهمِّ أسباب العنصريَّة ضدَّ السُّوريِّين في لبنان ؛ فمعظم اللُّبنانيِّين أو كثير منهم يؤمنون بأنَّهم فينيقيِّون؛ أي كنعانيِّون، ولكنَّهم لا يعرفون-وفقًا لتصنيف إسرائيل ولفنسون ذاته-أنَّ أموريِّي إيبلا هم آباء السُّوريِّين وأجداد الفينيقيِّين والكنعانيِّين المباشرين بدلالة آلاف الوثائق الَّتي أهملتها عائلة الأسد المجرمة. مَن يكتُب التَّاريخ؟ ومَن يُشوِّهُهُ؟ ومَن يصنعُ الذَّاكرة؟
(التَّاريخ يكتبه المنتصرون) هذه واحدة من أشهر العبارات منذ اختراع الكتابة حتَّى اختراع البودكاست، الَّذي يصنع محتواه المموِّلون، والبودكاست لِمن لا يعرف دلالة هذا المصطلح الدَّقيقة: هو برنامج مسجَّل بالصَّوت أو بالصَّوت والصُّورة، حَفِظَه صانعوه على موقع اليوتيوب أو أيِّ موقع حِفْظٍ آخر من مواقع شبكة الإنترنت، وعَرَضوه فيها؛ ليجذبوا أكبر عَدَد من المتلقِّين المهتمِّين أو غير المهتمِّين إلى متابعته أو التَّفاعل معه دون الحاجة إلى التَّزامن الزَّمانيِّ أو المكانيِّ بين المرسل والمتلقِّي. وقد تابعتُ مجموعة من حلقات البودكاست خلال هذا الأسبوع؛ تحدَّثَ معارض سوريٌّ في واحدة منها عن الذَّاكرة السُّوريَّة، وتساءل عن حقِّ السُّوريِّين في حماية تاريخهم المعاصر من التَّزوير؟ واستفسر عن الَّذين منحوا مواطنًا إسرائيليًّا ذلك الحقَّ في كتابة تاريخ السُّوريِّين عمومًا وكتابة تاريخ هذا المعارض ذاته، واستغرب مِن دوافع المتعاونين معه، وأكَّد أنَّ هذا المواطن الإسرائلييِّ الَّذي يكتب تاريخ السُّوريِّين، ويتحكَّم بذاكرتهم من خلال أمواله وأموال داعميه في وقتنا الرَّاهن ما هو إلَّا جنديٌّ من جنود بشَّار الأسد وقادة إسرائيل المتعاقبين، وهو مدين في تسويقه عربيًّا إلى المجرمين بشَّار وحافظ الأسد تحديدًا عندما قدَّموه إلى السُّوريِّين والعرب بوصفه مفكِّرًا عربيًّا لا عضوَ كينيست إسرائيليٍّ أو منظِّرًا صهيونيًّا مثل أستاذه الأوَّل (تيودور هيرتزل) أحد كبار منظِّري الحركة الصُّهيونيَّة ومشوِّهي تاريخ المنطقة المعاصر، وصاحب المؤتمر التَّأسيسيِّ الصُّهيونيِّ الأوَّل، وأستاذه الثَّاني (أبو ذؤيب إسرائيل ولفينسون) الَّذي شوَّه تاريخ هذه المنطقة وهوَّدَهُ؛ أي نشره وفقًا لرؤية توراتيَّة يهوديَّة عِرقيَّة وعنصريَّة وطائفيَّة معًا، ولا شكَّ أنَّ مَخاطر تسجيل تاريخ السُّوريِّين المعاصر في بودكاست أو بودكاستات برعاية مفكِّر صهيونيٍّ مع مجموعة من جنوده تضاهي مخاطر تيودور هرتزل ومؤتمره التَّأسيسيِّ الصُّهيونيِّ الأوَّل، وتعادل مخاطر تشويه تاريخ شعوب هذه المنطقة وتشويه لغاتها القديمة وإرثها الثَّقافيِّ الحقيقيِّ كلِّه من خلال نشر أفكار أبي ذؤيب إسرائيل ولفنسون أيضًا، وربَّما تكون-وقد تثبت الأيَّام ذلك-مخاطر هذه البودكاستات، الَّتي توثِّق الذَّاكرة السُّوريَّة والعربيَّة بإخراج صهيونيٍّ أخطرَّ وأمرَّ وأصعب من كلِّ التَّشويهات السَّابقة.بثٌّ على اليوتيوب: التَّاريخ السُّوريُّ كان وما زال ضحيَّة التَّعاون بين الخونة والمرتزقة
استمعتُ خلال الأسبوع المنصرم إلى بثٍّ مباشر من عشر دقائق تقريبًا، بثَّه صديق من أصدقائي على اليوتيوب؛ تحدَّث فيه عن زيارة رئيس المخابرات الإيطاليَّة إلى سوريا مع وفد مرافق له خلال هذه الأيَّام، وههنا تذكَّرتُ تكريم نجاح العطَّار باولو ماتيه قبل شهور قليلة من كتابة هذا المقال، ونجاح العطَّار هي نائبة المجرم بشَّار الأسد وشقيقة رئيس أخوان سوريا المسلمين الرَّاحل عصام العطَّار، وباولو ماتييه هو رئيس بعثة التَّنقيب الإيطاليَّة الَّتي عثرت على ما يقرب من عشرين ألف لوح طينيٍّ في إيبلا عند سراقب على تقاطع طريق M5 مع طريق M4 في إدلب شمال غرب سوريا، وتضمُّ هذه الرُّقم والألواح تاريخ شعوب هذه المنطقة وأساطيرها وفنونها ومعتقداتها في الألفيَّة الثَّالثة قبل الميلاد وما قبلها، وقد فكَّ جيوفاني بيتيناتو شيفرة لغة إيبلا منذ 1974، وحذَّر مِن مخاطر إخفاء وثائق إيبلا، أو تغييب بعضها؛ ففُصِل جيوفاني بيتيناتو من البعثة الإيطاليَّة، ثمَّ مات ولم يُكرَّم، بل كرَّموا رئيس البعثة الإيطاليَّة باولو ماتييه بوسام الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة من الدَّرجة الممتازة قبل شهور قليلة برعاية المجرم بشَّار الأسد وشقيقة عصام العطَّار قائد أخوان سوريا المسلمين، مع أنَّ باولو ماتييه لم يُكمل حتَّى الآن جهود جيوفاني بيتيناتو في أرشفة وثائق إيبلا ونشر محتوياتها برغم انقضاء خمسين سنة نشر جيوفاني بيتيناتو كتابه الأرشيفيِّ الأوَّل.بودكاست أبي تيمور وليد جنبلاط
كان البودكاست الثَّالث الَّذي تابعته خلال الأسبوع الماضي مقابلة أجرتها مذيعة قناة الجزيرة خديجة بن قنَّة مع أبي تيمور وليد جنبلاط زعيم الطَّائفة الدُّرزيَّة فيهل الدُّروز وحدهم في زمن الغفلة؟
استحضرَ زعيم الطَّائفة الدُّرزيَّة أبو تيمور وليد جنبلاط كتاب: (دروز في زمن الغفلة…من المحراث الفلسطينيِّ إلى البندقيَّة الإسرائيليَّة) لمؤلِّفه قيس ماضي فرُّو عندما سألته المحاورة خديجة بن قنَّة عن الأسباب الَّتي جعلت دروز فلسطين يقاتلون في الجيش الإسرائيليِّ، ويمنعون المصلِّين الفلسطينيِّين من دخول الأقصى لو أمرهم قادتهم الإسرائيليِّون بذلك، فلمَّح جنبلاط إلى غفلة الأمَّة العامَّة، ثمَّ برَّر مصالحته مع المجرم بشَّار الأسد بعد خروج جيشه منلبنان عقب اغتيال الرَّئيس الشَّهيد رفيق الحريريِّ بالبحث عن المصلحة السِّياسيَّة؛ أو بالبراغماتيَّة بمصطلح أكثر دقَّة؛ وهنا يمكن أن نتساءل عن الفرق بين مصلحة الجنديِّ الدُّرزيِّ الَّذي يقاتل مع القادة المجرمين ومصلحة صاحب القلم المستأجر أو الكاتب المُستكتَب الَّذي يكتب، ويروي، ويشهد زورًا على التَّاريخ، بعد تسليم قلمه وصوته وصورته وشهادته مقابل دريهمات للمخرج الصُّهيونيِّ؛ حتَّى ينتج أو يُمَنتج هذه الشَّهادة، ويوظِّفها في السِّياق الَّذي يريده من سياقات تشويه الذَّاكرة ورواية التَّاريخ؟! هل من حقِّ الجنديِّ أن يقاتل هنا وهناك حتَّى يكسب قوته وقوت أولاده؟ ما الفرق بينه وبين الكاتب المُستَكتب، الَّذي يبحث عن الشُّهرة الزَّائفة أو أجور الكتابة الرَّخيصة أو العالية؟ أستبعد-في رأيي الخاصِّ-نظريَّة زمن الغفلة، وأميل إلى نظريَّة زمن الهزيمة؛ لأقول: في زمن الهزيمة يبحث البشر عن مصالحهم وخلاصاتهم الفرديَّة لا غير، ولا ضير في بحث الفرد عن خلاصه الفرديِّ في زمن الخيارات الصَّعبة؛ لكنَّ الضَّير كلَّ الضَّير في إلباس المصالح الشَّخصيَّة والرَّغبة بالخلاص الفرديِّ لَبُوسَ حبِّ أبناء الملَّة من سوريا القديمة أو الحديثة، أو لَبوس الهمَّة العالية أو التَّفوُّق الفكريِّ أو البراعة الفنِّيَّة، مع الحرص على تراث هذه الأمَّة ونشر ثقافتها الأصيلة.
وبرغم الفشل المحدق بكثير من محاولات الخلاص الفرديِّ وفقًا لآراء غسَّان كنفانيّ في روايته: (رجال في الشَّمس)، وبرغم تناقض بحث أبطال الرِّواية الرَّاحلين إلى الكويت في خزَّان النَّفط، والباحثين عن خلاصهم الفرديِّ، برغم تناقض صمتهم؛ أو صمتِ الباحث عن خلاصه مقابل دُريهمات مع صوت الرَّاوي المدويِّ حين قال على لسان سائق الشَّاحنة: لماذا لم يدقُّوا جدران الخزَّان؟ برغم كلِّ هذا لم يستفد الكثيرون مِن عِبر التَّاريخ ومواعظه في زمن الخيارات الصَّعبة؛ بل راحوا يستغبون المتلقِّي السَّاذج أو يقدِّمون لها الغواية -الَّتي حذَّر القرآن الكريم منها- على طبق من أطباق البودكاست الملحون بدعوى نَشْرِ الثَّقافة العربيَّة برعاية صهيونيَّة، وراحوا يدقُّون طبول التَّرويج لها في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ مع أنَّ عُرْسَ السُّوريِّين في حَرستا أو بالقرب منها، لا في بودكاستات الذَّاكرة الممسوخة وإلقاء الشِّعر الممجوج.
عُرس السُّوريِّين سيكون بخلاصهم من الظَّالم القابع في قصر المهاجرين لا بالتَّعاون مع صديق بشَّار الأسد الصُّهيونيِّ، الَّذي يُحاول أزلامه تخدير وعينا وتكريس هزيمتنا، حين أجَّروا أقلامهم؛ والقلم المأجور أخطر من البندقيَّة المأجورة؛ إنَّه خيانة تجاوزت حدود الصَّمت المطبق والخنوع والاستكانة والامتناع عن ضرب جدران الخزَّان؛ إنَّها شهوة البحث عن الشُّهرة أو الدُّريهمات بعدما تجاوزت مرحلة البحث عن الخلاص الفرديِّ بأشواط، ودخلت مرحلة تعاون خطير مع عدوِّهم الَّذي يمحو تاريخهم، ويحاول تشويه ذاكرتنا وذاكرتهم، وإن استطاع الجنديُّ تبرير خياره بالغفلة أو التَّغافل أو الهزيمة فلا شكَّ أنَّ باب هذا النَّوع من أنواع التَّبرير مغلق أمام الكاتب أو أمام دعيَّ الثَّقافة المخادع، وإن تغافل أو مَثَّل!
في المحصَّلة لا نكتب لِنخوِّنَ أو نتعالى أو نقيِّم أحدًا من البشر؛ لأنَّنا نعرف هذا الزَّمن الأغبر زمن الخيارات الصَّعبة، بل نكتب لتوصيف حالة نشاهدها، سيحفظها التَّاريخ ولن ينساها، انظر معي- قارئي العزيز-إلى تاريخ نشر هذه المقال! إنَّه يوم الأحد الواقع في التَّاسع من حزيران 2024؛ هذا مقال منشور بعد ذكرى هزيمة الخامس من حزيران المؤلمة 1967 بيومين؛ وقبل ذكرى هلاك المجرم حافظ الأسد في العاشر من حزيران 2000 بيوم واحد، وما جاء هذا المقال إلَّا ليقدِّم رأيًا حول أحداث كتبت نفسها بنفسها برغم محاولة تجميلها بلحن القول أو ثوب الثَّقافة، ونخلص في هذا المقال إلى أنَّنا نعيش في زمن الهزيمة، ولسنا في زمن الغفلة أبدًا؛ وستبقى مخاطر هزيمة الجنديِّ أقلَّ من مخاطر هزيمة الكاتب أو المثقَّف أو الصَّحفيِّ أو المفكِّر أو أستاذ الجامعة أو الممثِّل أو الشَّاعر أو الأستاذ الأديب الشَّاعر المفكِّر الطَّبيب الصَّيدلانيِّ المهندس المظلِّيِّ الرَّائد الرُّكن وإن جمَّل المهزوم هزيمته بلحن القول أو ثوب الثَّقافة؛ ولكن -وبرغم هذا كلِّه- يبقى حديث الجنديِّ عن الغفلة أسهل من حديث المثقَّف عنها؛ أكتبُ هذا وأنا أستحضر أو أتذكَّر خيارًا صعبًا من خيارات سميح القاسم الحماسيَّة؛ صرَّح به قبل انضمامه إلى الجيش الإسرائيليِّ، ويبدو أنَّه غيَّر قناعاته فيما بعد، أو لم يلتزم بها، أو بحث عن مصالحه في الضِّفَّة الأخرى كما أخبرنا بذلك نضال الصَّالح قبل موته وموت سميح القاسم الَّذي قال:
تقدَّموا! تقدَّموا! فكلُّ أرض تحتكم جهنَّمُ… تقدَّموا!
-----------
العربي القديم