عندما تولّى الرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس منصبيهما، كانت هذه القوى التي تسعى لتعديل القواعد
الدولية التقليدية قد بدأت بالفعل في تحدي المصالح الأمريكية بشكل عدواني. فكانت هذه الدول تعتقد أن
الولايات المتحدة في حالة تدهور داخلية لا يمكن أن تتوقف، ومنقسمة عن أصدقائها على الصعيد الخارجي.
لقد رأوا أن الشعب الأمريكي فقد ثقته في الحكومة، وأن الديمقراطية الأمريكية أصبحت مستقطبة (منقسمة
بشكل حاد) ومعطلة (غير فعّالة)، وأن السياسة الخارجية الأمريكية كانت تقوّض التحالفات والمؤسسات
الدولية والمعايير التي أنشأتها واشنطن وعززتها ودافعت عنها.
اتبع الرئيس بايدن ونائبته هاريس استراتيجية التجديد، حيث اقترن الاستثمار التاريخي في تعزيز التنافسية في
الداخل بحملة دبلوماسية مكثفة لإحياء الشراكات في الخارج. كانوا يعتقدون أن هذه الاستراتيجية ذات
الركيزتين هي أفضل طريقة لإقناع المنافسين بأن الولايات المتحدة ليست في حالة تراجع أو تردد. كانت هذه
الافتراضات خطيرة، لأنها ستدفع القوى المنافسة للولايات المتحدة إلى مواصلة تقويض العالم الحر والمفتوح
والآمن والمزدهر الذي تسعى الولايات المتحدة ومعظم الدول إليه. إنه عالم تكون فيه الدول حرة في اختيار
مساراتها وشركائها، ويكون فيه الاقتصاد العالمي قائماً على المنافسة العادلة والانفتاح والشفافية والفرص
الشاملة. عالم تمكّن فيه التكنولوجيا الناس وتسرع من التقدم البشري. عالم تُحترم فيه القوانين الدولية، بما في
ذلك المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وتُصان فيه حقوق الإنسان العالمية. عالم يمكن أن يتطور ليعكس
الحقائق الجديدة ويعطي صوتاً للآراء واللاعبين الناشئين، ويواجه التحديات المشتركة في الحاضر
والمستقبل.
لقد عززت استراتيجية إدارة بايدن مكانة الولايات المتحدة الجيوسياسية بشكل كبير مقارنة بما كانت عليه قبل
أربع سنوات. ومع ذلك، فإن المهمة لم تكتمل بعد، إذ يجب على الولايات المتحدة الحفاظ على قوتها وثباتها
عبر الإدارات المختلفة لتغيير الافتراضات التي تتبناها الدول الساعية لتعديل القواعد الدولية. كما يجب أن
تكون مستعدة لمواجهة احتمال أن تعمق هذه الدول تعاونها مع بعضها البعض لتعويض الفارق بينها وبينهم.
ويتعين عليها أيضاً أن تحافظ على التزاماتها وعلى ثقة أصدقائها، وأن تواصل كسب ثقة الشعب الأمريكي في
قوة القيادة الأمريكية المنضبطة، وهدفها، وقيمتها على الساحة العالمية.
استعادة الجاهزية
تعتمد الكفاءة الاستراتيجية للولايات المتحدة بشكل كبير على قدرتها التنافسية الاقتصادية، ولهذا السبب، قاد
الرئيس بايدن ونائبته هاريس الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس لتمرير تشريعات تهدف إلى
استثمارات تاريخية في تحسين البنية التحتية، وتعزيز الصناعات والتقنيات التي ستقود القرن الحادي
والعشرين، وتنشيط القاعدة الصناعية، وتعزيز البحث العلمي، وقيادة التحوّل العالمي في مجال الطاقة.
شكلت هذه الاستثمارات المحلية الركيزة الأولى لاستراتيجية إدارة بايدن، وقد ساهمت في دفع العمال
والشركات الأمريكية إلى تحقيق أقوى اقتصاد للولايات المتحدة منذ التسعينيات، حيث أن الناتج المحلي
الإجمالي الأمريكي الحالي هو أكبر من الناتج الإجمالي لأكبر ثلاث دول مجتمعة. كما انخفضت معدلات
التضخم إلى مستويات تعد من بين الأدنى بين الاقتصادات المتقدمة في العالم. واستقر معدل البطالة عند أو
أقل من 4% لفترة تعتبر الأطول منذ أكثر من 50 عاماً. كما بلغت الثروة الأسرية مستوى قياسياً جديداً.
وبينما لا يزال الكثير من الأمريكيين يواجهون صعوبات في تلبية احتياجاتهم الأساسية، ولا تزال الأسعار
مرتفعة بالنسبة للعديد من الأسر، إلا أن الانتعاش الاقتصادي قلّص من الفقر وعدم المساواة ووزع الفوائد
على نطاق أوسع.
كانت هذه الاستثمارات في القدرة التنافسية الأمريكية والانتعاش الاقتصادي للولايات المتحدة جذابة بشكل
كبير. فبعد أن مرر الكونغرس قانون CHIPS (المترجم: CHIPS هو رمز يختصر عبارة، خلق حوافز
مفيدة لإنتاج أشباه الموصلات) والعلوم وقانون خفض التضخم في عام 2022، والذي يُعد أكبر استثمار
على الإطلاق في المناخ والطاقة النظيفة، تعهدت شركة سامسونغ الكورية الجنوبية بتخصيص عشرات
المليارات من الدولارات لتصنيع أشباه الموصلات في تكساس. (المترجم: شِبهُ المُوصِل أو نِصفُ الناقِل هو
مادة صلبة ينتقل فيها التيار الكهربائي بصعوبة، يتم التحكم في موصليتها الكهربائية بإضافة عناصر أخرى
بكميات ضئيلة. شبه الموصل تكون مقاومته الكهربائية ما بين الموصلات والعوازل. كما يمكن لمجال
كهربائي خارجي تغيير درجة مقاومة شبه الموصل. فالأجهزة والمعدات التي يدخل في تصنيعها مواد شبه
موصلة هي أساس الإلكترونيات الحديثة والتي تشمل الراديو والكمبيوتر والهاتف والتلفزيون وأجهزة أخرى
كثيرة. والأجزاء الإلكترونية التي تعمل بأشباه الموصلات تشمل الترانستور والخلايا الشمسية والصمامات
الثنائية والثنائيات باعثة الضوء ومقومات التيار المتردد التي تعمل بالسيليكون، والدوائر المتكاملة التناظرية
والرقمية). واستثمرت شركة تويوتا اليابانية مليارات الدولارات في تصنيع السيارات الكهربائية والبطاريات
في ولاية نورث كارولاينا. وتعهدت جميع الشركات الخمس الكبرى في العالم لتصنيع أشباه الموصلات ببناء
مصانع جديدة في الولايات المتحدة، حيث استثمرت 300 مليار دولار وخلقت أكثر من 100,000 وظيفة
جديدة للأمريكيين.
الولايات المتحدة هي الآن أكبر مستفيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم، كما أنها أكبر مزود
للاستثمار الأجنبي المباشر، مما يُظهر القوة التي لا مثيل لها للقطاع الخاص الأمريكي في توسيع الفرص
الاقتصادية حول العالم. هذه الاستثمارات لا تفيد العمال والمجتمعات الأمريكية فقط، بل تقلل أيضاً من اعتماد
الولايات المتحدة على الصين ودول أخرى تسعى لتغيير النظام الدولي، وتجعل الولايات المتحدة شريكاً
أفضل للدول التي تسعى بدورها إلى تقليل اعتمادها على تلك القوى.
على الرغم من قلق بعض الأصدقاء في البداية من أن الاستثمارات المحلية والإعفاءات التحفيزية لإدارة
بايدن قد تهدد مصالحهم الاقتصادية، إلا أنهم مع مرور الوقت رأوا كيف يمكن أن يعود الانتعاش الأمريكي
بالنفع عليهم. فقد عزز الطلب على سلعهم وخدماتهم، وساعد في تحفيز استثماراتهم في أشباه الموصلات،
والتكنولوجيا النظيفة، وسلاسل الإمداد الأكثر مرونة. كما سمح للولايات المتحدة وأصدقائها بمواصلة قيادة
الابتكار التكنولوجي وتحديد المعايير التكنولوجية التي تعتبر ضرورية لحماية أمنهم المشترك وقيمهم
ورفاهيتهم.
شركاء في السلام
الركيزة الثانية لاستراتيجية إدارة بايدن كانت إعادة تنشيط وإعادة رسم شبكة العلاقات الأمريكية، مما يمكن
واشنطن وشركاءها من توحيد قوتهم لتعزيز رؤية مشتركة للعالم والمنافسة بقوة وبمسؤولية ضد من يحاولون
تقويضها.
المنافسة القوية تعني استخدام جميع أدوات القوة الأمريكية لتعزيز مصالحها، ويشمل ذلك تعزيز الوضع
العسكري، والقدرات الاستخباراتية، وأدوات العقوبات والسيطرة على الصادرات، وآليات التشاور مع الحلفاء
والشركاء حتى تتمكن الولايات المتحدة من ردع العدوان بشكل يتسم بالمصداقية ومواجهته إذا لزم الأمر.
وبينما لا تسعى واشنطن إلى تصعيد المواقف، يجب عليها الاستعداد لإدارة مخاطر أكبر.
في الوقت نفسه، المنافسة المسؤولة تعني الحفاظ على قنوات الاتصال لمنع المنافسة من التحول إلى صراع.
ويعني أيضاً توضيح أن هدف الولايات المتحدة ليس تغيير الأنظمة، وأنه حتى مع استمرار المنافسة، يجب
إيجاد طرق للتعايش. ويعني السعي إلى التعاون عندما يخدم المصلحة الوطنية، والمنافسة بطريقة تعزز أمن
وازدهار الأصدقاء بدلاً من أن تكون على حسابهم.
الصين هي الدولة الوحيدة التي تمتلك النية والقدرة على إعادة تشكيل النظام الدولي وقد أوضح الرئيس بايدن
منذ البداية أن الولايات المتحدة ستعامل بكين على أنها "التحدي الرئيسي" لأمريكا، أي المنافس الاستراتيجي
الأكثر أهمية على المدى الطويل. لذلك، اتخذت واشنطن إجراءات حازمة لحماية التقنيات الأمريكية المتقدمة؛
الدفاع عن العمال والشركات والمجتمعات الأمريكية من الممارسات الاقتصادية غير العادلة؛ ومواجهة
العدوان الصيني المتزايد في الخارج والقمع في الداخل.
كما أنشأت الولايات المتحدة قنوات مخصصة مع حلفائها لتبادل تقييماتها للمخاطر الاقتصادية والأمنية التي
تفرضها سياسات وأفعال بكين. ومع ذلك، استأنفت الولايات المتحدة التواصل العسكري مع الصين وأكدت أن
الخلافات الكبيرة لن تمنعها من الحفاظ على علاقات تجارية قوية معها. كما أنها لن تسمح للاحتكاكات في
العلاقات الأمريكية-الصينية بأن تعرقل التعاون في الأولويات التي تهم الشعب الأمريكي والعالم مثل مكافحة
تغير المناخ، ووقف تدفق المخدرات المُصنّعة، ومنع انتشار الأسلحة النووية.
أما بالنسبة لروسيا، فلم يكن لدى الإدارة أي أوهام حول أهداف الرئيس بوتين الانتقامية أو إمكانية تحسين
العلاقات. لقد تصرفت الإدارة بحزم ضد أنشطة روسيا المزعزعة للاستقرار، بما في ذلك الهجمات
السيبرانية والتدخل في الانتخابات الأمريكية، بينما عملت على الحد من الخطر النووي بتمديد معاهدة
"بالعربية: بداية جديدة" New START وإطلاق حوار حول الاستقرار الاستراتيجي.
كنا واضحين بنفس القدر فيما يتعلق بإيران وكوريا الشمالية، فلقد زدنا من الضغط الدبلوماسي وعززنا
التواجد العسكري الأمريكي لردع طهران وبيونغ يانغ وتقييد تحركاتهما. الانسحاب الأحادي والخاطئ لإدارة
ترامب من الاتفاق النووي الإيراني سمح لبرنامج طهران النووي بالتحرر من القيود المفروضة على إيران
من خلاله، مما أدى إلى تقويض أمن الولايات المتحدة وشركائها. أوضحنا لإيران أن هناك مساراً للعودة إلى
الامتثال المتبادل، إذا كانت مستعدة لذلك، مع الحفاظ على نظام عقوبات قوي والتزامنا بأن إيران لن يُسمح لها
أبداً بامتلاك سلاح نووي. كما أكدنا استعدادنا لإجراء محادثات مباشرة مع كوريا الشمالية، لكننا أوضحنا
أيضاً أننا لن نخضع لتهديداتها أو شروطها المسبقة.
التزام إدارة بايدن بالتنافس بقوة ولكن بمسؤولية في هذا السياق أزال الحجة التي استخدمها الساعون إلى
تغيير قواعد النظام العالمي بأن الولايات المتحدة كانت العقبة أمام الحفاظ على السلام والاستقرار الدوليين.
كما أدى إلى تعزيز ثقة أصدقاء الولايات بها، مما أدى إلى بناء شراكات أقوى.
عملنا على تحقيق الإمكانات الكاملة لهذه الشراكات من خلال أربع طرق. أولاً، أكدنا التزامنا من جديد
بتحالفات وشراكات الولايات المتحدة الأساسية. طمأن الرئيس بايدن حلفاء الناتو بأن الولايات المتحدة
ستحترم تعهدها بمعاملة أي هجوم على أي دولة عضو كأنه هجوم على الجميع. كما أكد التزامات الولايات
المتحدة الأمنية الراسخة تجاه اليابان وكوريا الجنوبية وحلفاء آخرين في آسيا، وأعاد مجموعة السبع إلى
دورها كهيئة توجيه للديمقراطيات المتقدمة في العالم.
ثانياً، أضفينا هدفاً جديداً على التحالفات والشراكات الأمريكية، فقمنا بتعزيز دور الرباعية - الشراكة مع
أستراليا والهند واليابان - واتخذنا خطوات ملموسة لتحقيق رؤية مشتركة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ
الحرة والمفتوحة، بدءاً من تعزيز الأمن البحري إلى تصنيع لقاحات آمنة وفعالة. كما أطلقنا مجلس التجارة
والتكنولوجيا بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي يضم أكبر شراكة اقتصادية في العالم لتشكيل
المعايير العالمية للتقنيات الناشئة وحماية الابتكارات الحساسة في الولايات المتحدة وأوروبا. وقمنا بتعزيز
العلاقات الثنائية المهمة، مثل الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند، وأعدنا تفعيل المشاركة
الإقليمية، حيث استضاف الرئيس بايدن قمم مع قادة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجزر المحيط الهادئ
وجنوب شرق آسيا.
ثالثاً، نسجنا علاقات جديدة بين حلفاء وشركاء الولايات المتحدة عبر المناطق والقضايا المختلفة. أطلقنا
الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، الذي يجمع 14 دولة تمثل 40% من الناتج المحلي
الإجمالي العالمي لبناء سلاسل إمداد أكثر أماناً، ومكافحة الفساد، والانتقال إلى الطاقة النظيفة. كما أنشأنا
AUKUS، وهي شراكة دفاعية ثلاثية بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة لبناء غواصات تعمل
بالطاقة النووية وتعميق التعاون العلمي والتكنولوجي والصناعي بينهم.
رابعاً، قمنا ببناء تحالفات جديدة لمواجهة التحديات الناشئة. وحشدنا مجموعة متنوعة من الحكومات
والمنظمات الدولية والشركات ومجموعات المجتمع المدني لتصنيع وتوزيع مئات الملايين من لقاحات كوفيد-
19 المجانية، وإنهاء المرحلة الحادة من الجائحة، وإنقاذ الأرواح، وتعزيز قدرة العالم على الاستجابة لحالات
الطوارئ الصحية في المستقبل. كما أطلقنا تحالفاً عالمياً لمواجهة آفة المخدرات المُصنّعة غير المشروعة
وجهوداً على مستوى المنطقة لتقاسم المسؤولية في مواجهة تحديات الهجرة التاريخية في نصف الكرة
الغربي.
في بناء هذه التحالفات وغيرها، جعلت إدارة بايدن من الديمقراطيات الشريكة وجهتها الأولى. لهذا السبب
أطلق الرئيس قمة من أجل الديمقراطية، وجمع فيها القادة الديمقراطيين والمُصلحين من كل منطقة. ولكن إذا
كان الهدف هو حل المشكلات التي تواجه الشعب الأمريكي، فلا يمكن أن تكون الديمقراطيات وحدها شركاء
الولايات المتحدة. إذ أن الفرص والتحديات المتزايدة، مثل الذكاء الاصطناعي، تحتاج إلى معالجة من خلال
تحالفات متعددة تشمل الدول غير الديمقراطية، طالما أنها تريد تحقيق مصالح مواطنيها وتساهم في حل
التحديات المشتركة. ولهذا السبب عملت إدارة بايدن مع بقية دول مجموعة السبع لتطوير أطر حوكمة للذكاء
الاصطناعي، ثم قادت أكثر من 120 دولة - بما في ذلك الصين - في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصياغة
وتمرير أول قرار أممي حول استخدام الذكاء الاصطناعي لخدمة البشرية. ولهذا أيضاً صاغت الإدارة إطاراً
لتطوير واستخدام الذكاء الاصطناعي العسكري بشكل مسؤول، وقّعت عليه أكثر من 50 دولة.
الرد على النزعة الساعية لتغيير قواعد النظام الدولي
بينما عززت استراتيجيتنا أسس قوة الولايات المتحدة في الداخل والخارج، استغلت دبلوماسيتنا هذه القوة
لتحويل الأزمة إلى فرصة. في السنة الأولى من إدارة بايدن، أحرزنا تقدماً كبيراً في تعميق التوافق مع الحلفاء
والشركاء حول نهجنا تجاه المنافسة الاستراتيجية، وقد أسفرت المحادثات في عواصم الحلفاء عن تحول
ملموس. على سبيل المثال، خلال المفاوضات لتشكيل مفهوم استراتيجي جديد لحلف الناتو، لاحظت أن
الحلفاء كانوا، لأول مرة، يركزون بشكل كبير على التحدي الذي تمثله الصين لأمن وقيم الدول على ضفاف
المحيط الأطلسي. وفي نقاشاتي مع مسؤولين من دول حليفة في شرق آسيا، رأيتهم يتعاملون مع كيفية الرد
على السلوك العدواني الذي تمارسه بكين في بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.
قرار بوتين بمحاولة محو أوكرانيا من الخريطة، إلى جانب قرار الصين أولاً بتوفير الغطاء لروسيا ثم تغذية
عدوانها، سرّع من التقارب في وجهات النظر بين الدول الآسيوية والأوروبية بشأن جدية التهديد والعمل
الجماعي المطلوب لمواجهته. قبل غزو روسيا، اتخذنا عدداً من الخطوات للاستعداد: حذرنا العالم من
العدوان الوشيك لموسكو، وشاركنا المعلومات الاستخباراتية مع الحلفاء، وقدمنا الدعم العسكري للدفاع الذاتي
لأوكرانيا، ونسقنا مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وآخرين لتخطيط عقوبات اقتصادية فورية وشديدة
على روسيا. لقد تعلمنا دروساً صعبة خلال الانسحاب الأميركي الضروري ولكن المعقد من أفغانستان،
دروساً تتعلق بكل شيء من التخطيط للطوارئ إلى التنسيق مع الحلفاء، وطبقناها.
عندما أطلق بوتين في النهاية غزوه الشامل، تحرك الناتو بسرعة لنشر القوات والطائرات والسفن كجزء من
سرعة وقوة الاستجابة، مما عزز الجناح الشرقي للحلف. كما دفعت دول الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء
في الحلف المساعدات العسكرية والاقتصادية والإنسانية إلى أوكرانيا بشكل كبير. أنشأت الولايات المتحدة
مجموعة الاتصال الدفاعية لأوكرانيا، التي نمت لتضم أكثر من 50 دولة تعمل مع الجيش الأوكراني لتلبية
الاحتياجات العاجلة. كما فرضت مجموعة واسعة من الدول أكثر العقوبات طموحاً على الإطلاق، حيث
جمدت أكثر من نصف الأصول السيادية لروسيا.
نظراً لأنها كانت هجوماً ليس فقط على أوكرانيا ولكن أيضاً على مبادئ السيادة والسلامة الإقليمية التي
تتصدر ميثاق الأمم المتحدة، أشعلت حرب بوتين المخاوف خارج أوروبا. لو سُمح لبوتين بالاستمرار في
حربه بلا عقاب، لكان من المحتمل أن يزداد عدد المعتدون في كل مكان، مما يفتح المجال لنشوب صراعات
كثيرة لا تنتهي. وقد أكد قرار الصين مساعدة روسيا على مدى ارتباط مصائر حلفاء الولايات المتحدة في
أوروبا وآسيا معاً. حتى ذلك الوقت، كان الكثيرون في أوروبا لا يزالون يرون الصين في المقام الأول
كشريك اقتصادي، حتى لو كانوا حذرين بشكل متزايد من الاعتماد كثيراً على بكين. ولكن عندما اتخذت بكين
خيارها، بدأ المزيد والمزيد من الأوروبيين يرون الصين كخصم نظامي.
كلما استمر بوتين في حربه، زادت روسيا اعتماداً على دعم رفاقها من الدول الساعية لتغيير قواعد النظام
العالمي للبقاء في المعركة. فقد أرسلت كوريا الشمالية شحنات ضخمة من الأسلحة والذخائر، بما في ذلك
ملايين الطلقات المدفعية والصواريخ الباليستية والقاذفات، في انتهاك مباشر لعدة قرارات صادرة عن مجلس
الأمن الدولي. كما قامت إيران بإنشاء مصنع للطائرات المسيرة في روسيا وأرسلت إلى موسكو مئات من
الصواريخ الباليستية. وتسارعت الشركات الصينية في تزويد روسيا بالآلات والميكروإلكترونيات وغيرها
من العناصر ذات الاستخدام المزدوج التي كانت تحتاجها لإنتاج الأسلحة والذخائر والمواد الأخرى.
كلما زاد اعتماد روسيا على دعمهم، زادت توقعات الساعين لتغيير قواعد النظام العالمي وما حصلوا عليه في
المقابل. فقد وافق بوتين على مشاركة التكنولوجيا العسكرية المتقدمة لروسيا مع كوريا الشمالية، مما زاد من
التهديد الخطير بالفعل لليابان وكوريا الجنوبية. كما أعاد هو وزعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون إحياء
اتفاقية من فترة الحرب الباردة التي تحوي تعهداً بتقديم المساعدة العسكرية إذا دخل أحدهما في حرب. وزادت
روسيا من الدعم العسكري والتقني لإيران وتسارعت مفاوضات الشراكة الاستراتيجية مع البلاد، حتى مع
استمرار طهران في تسليح وتدريب وتمويل وكلاء ينفذون هجمات إرهابية ضد أفراد وشركاء الولايات
المتحدة في الشرق الأوسط وفي الملاحة الدولية في البحر الأحمر. كما توسع تعاون روسيا والصين في جميع
المجالات تقريباً، وقامت الدولتان بتنظيم تدريبات عسكرية متزايدة العدوانية والواسعة النطاق، بما في ذلك
في بحر الصين الجنوبي وفي القطب الشمالي.
لدى الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية تاريخ معقد ومصالح متباينة، ولا تقترب شراكاتهم مع بعضهم
البعض من هيكل التحالفات الطويل الأمد الذي تتمتع به الولايات المتحدة، حيث يكمن وراء ادعاءاتهم
العظيمة بالصداقات والدعم، حقيقة وجود علاقات مبنية على مصالح ومعاملات، ويتطلب تعاونهم تبادل
للمصالح ومخاطر قد تجعل كل دولة من هذه الدول تتراجع مع مرور وقت بسيط. وهذا صحيح بشكل خاص
بالنسبة للصين، التي يهدد اقتصادها الداخلي ومكانتها الخارجية عدم الاستقرار العالمي الذي يثيره شركاؤها
من الدول الساعية لتغيير القواعد التي يقوم عليها النظام الدولي. ومع ذلك، فإن الدول الأربع المناهضة
للولايات المتحدة تشترك في التزام دائم بالهدف الشامل المتمثل في تحدي الولايات المتحدة والنظام الدولي.
وستستمر هذه الدوافع في دفع تعاونهم، خاصة مع تصدي الولايات المتحدة ودول أخرى لجهودهم المتمثلة في
تقويض النظام العالمي الحالي.
كانت إجابة إدارة بايدن على هذا التوجه المتزايد هي تسريع التقارب بين الحلفاء بشأن التهديد. جعلنا الناتو
أكبر وأقوى وأكثر وحدة من أي وقت مضى، حيث رحبت دول التحاف بفنلندا والسويد على الرغم من
تاريخهما الطويل من عدم الانحياز. في بداية عهد إدارة بايدن، كانت 9 من بين 30 دولة عضو في الناتو تفي
بالتزامها بإنفاق اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع؛ هذا العام، سيحقق على الأقل 23 من
بين 32 حليفاً هذا الهدف.
لقد عمقنا وحدّثنا التحالفات الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مما عزز وضع وقدرات القوات
المسلحة الأمريكية من خلال توقيع اتفاقيات جديدة لتحديث القواعد من اليابان إلى الفلبين إلى جنوب المحيط
الهادئ. كما وجدنا طرقاً جديدة لربط الحلفاء معاً. في عام 2023، عقد الرئيس بايدن أول قمة ثلاثية من
نوعها مع اليابان وكوريا الجنوبية في كامب ديفيد، حيث اتفقت الدول الثلاث على زيادة التعاون للدفاع ضد
الهجمات بالصواريخ الباليستية والهجمات الإلكترونية من كوريا الشمالية. هذا العام، استضاف أول قمة ثلاثية
من نوعها مع اليابان والفلبين في البيت الأبيض، حيث التزم الأطراف الثلاثة بتعميق الجهود المشتركة للدفاع
عن حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي.
التقارب الكبير
يمكن القول إن أبرز تغيير حققناه لم ينحصر في منطقة واحدة، بل شمل مناطق وبشمولية. عندما أطلق بوتين
غزوه، اعتقد أنه يمكنه استخدام اعتماد أوروبا على الغاز والنفط والفحم الروسي لزرع الانقسام وإضعاف
دعمها لأوكرانيا. لكنه أساء تقدير عزيمة الدول الأوروبية واستعداد الحلفاء في آسيا لمساعدتها.
تعهدت اليابان بتقديم أكثر من 12 مليار دولار كمساعدات لأوكرانيا، وفي حزيران/يونيو أصبحت أول دولة
خارج أوروبا توقع اتفاقية أمنية ثنائية لمدة عشر سنوات مع كييف. قدمت أستراليا أكثر من مليار دولار
كمساعدات عسكرية لأوكرانيا وهي جزء من تحالف متعدد الجنسيات لتدريب القوات الأوكرانية في المملكة
المتحدة. أعلنت كوريا الجنوبية أنها ستدرس تزويد أوكرانيا بالأسلحة، بالإضافة إلى الدعم الاقتصادي
والإنساني الكبير الذي تقدمه مسبقاً. شركاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ ينسقون مع
أوروبا لفرض عقوبات على روسيا ووضع حد أقصى لسعر النفط الروسي، مما يقلل من الأموال التي يمكن
لبوتين تحويلها إلى آلته الحربية.
في غضون ذلك، أدى دعم الصين لروسيا، والذي تم كشف نطاقه باستخدام الإدارة الأمريكية بشكل مبتكر
للدبلوماسية الاستخباراتية، إلى تركيز حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا بشكل أكبر على التهديد الذي تشكله
بكين. وقد أظهرت الاضطرابات الاقتصادية الضخمة التي تسبب فيها غزو بوتين العواقب الكارثية التي قد
تنجم عن أزمة في مضيق تايوان، الذي يمر عبره حوالي نصف سفن الحاويات التجارية في العالم كل عام.
كما أن أكثر من 90% من أشباه الموصلات الأكثر تقدمًا في العالم تُصنع في تايوان.
عندما تولت إدارة بايدن السلطة، كانت بعض الدول الأوروبية الرئيسية مصممة على تحقيق استقلالية أكبر
عن الولايات المتحدة مع تعميق العلاقات الاقتصادية مع الصين. لكن منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، أعادت
هذه الدول توجيه أجندتها الاقتصادية بشكل كبير نحو "تقليل المخاطر" المرتبطة بالصين. في عام 2023،
اعتمد الاتحاد الأوروبي قانون المواد الخام الحيوية Critical Raw Materials Act (CRMAs) لتقليل
اعتماده على الصين في المدخلات اللازمة لتصنيع منتجات مثل السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح.
(المترجم: حدد قانون المواد الخام الحيوية أهدافاً للمواد الإستراتيجية الـ17، ويجب أن يعدّن دول الإتحاد ما
لا يقل عن 10% من متطلباتهم السنوية بحلول عام 2030، بالإضافة إلى إعادة تدوير 25%، ومعالجة 40%
من احتياجاتهم. وبموجب هذا القانون، ينبغي ألا يأتي أكثر من 65% من احتياجات الاتحاد الأوروبي السنوية
من دولة ثالثة واحدة.) وفي عام 2024، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرات جديدة لتعزيز أمنه الاقتصادي، بما
في ذلك تحسينات في فحص الاستثمارات الأجنبية والصادرة، وأمن البحوث، والرقابة على الصادرات.
سحبت إستونيا ولاتفيا وليتوانيا عضويتها من مبادرة "17+1" للاستثمار الصيني في وسط وشرق أوروبا.
كما انسحبت إيطاليا من مبادرة الحزام والطريق الصينية. وعلاوة على ذلك، حظرت عدد متزايد من الدول
الأوروبية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، الشركات التقنية الصينية من توفير المعدات للبنية
التحتية الحيوية.
انضمت دول صديقة في كل من أوروبا وآسيا إلى الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات منسقة لمواجهة
الممارسات التجارية غير العادلة للصين وقدرتها التصنيعية المفرطة. هذا العام، رفعت إدارة بايدن تعريفات
مستهدفة على الصلب والألمنيوم الصينيين، وأشباه الموصلات، والمعادن الأساسية، بدلاً من فرض تعريفات
شاملة ترفع التكاليف على الأسر الأمريكية. كما فرض الاتحاد الأوروبي وكندا تعريفات جمركية على
السيارات الكهربائية الصينية. لقد تعلمنا دروساً قاسية من "الصدمة الصينية" في العقد الأول من هذا القرن،
عندما أغرقت بكين الأسواق بفيض من السلع المدعومة التي دمرت الصناعات الأمريكية وخرّبت سبل عيش
الأمريكيين وألحقت الضرر بالمجتمعات الأمريكية. وللتأكد من عدم تكرار نفس التجربة، ولدعم المنافسة أمام
تكتيكات الصين التشويهية، نحن نستثمر بشكل أكبر في القدرة الإنتاجية للولايات المتحدة وحلفائها، ونقوم
بإنشاء سبل حماية أكبر لتلك الاستثمارات.
عندما يتعلق الأمر بالتقنيات الناشئة، تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا بشكل متزايد معاً
للحفاظ على تفوقهم الجماعي. وبناءً على توصياتنا، انضمت اليابان وهولندا إلى الولايات المتحدة في اتخاذ
تدابير لمنع الصين من الوصول إلى أشباه الموصلات الأكثر تقدماً والمعدات المستخدمة في إنتاجها. ومن
خلال مجموعة تطوير التكنولوجيا الكمومية Quantum Development Group (المترجم: هي شركة
عالمية رائدة في تطوير مشاريع الطاقة المتجددة مع أو بدون تخزين، بما في ذلك اختيار الموقع والتصميم
والهندسة والتصاريح والتمويل واختيار شركة الهندسة والتوريد والبناء والتعاقد والإشراف على البناء
والإدارة.)، قمنا بتجميع تسعة من الحلفاء الأوروبيين والآسيويين الرائدين لتعزيز مرونة سلاسل التوريد
وتعميق الشراكات البحثية والتجارية في تقنية تتفوق في قدراتها حتى على أقوى أجهزة الكمبيوتر الفائقة.
منذ اللحظة التي شنت فيها روسيا حربها، قال البعض في الولايات المتحدة بأن دعم واشنطن لأوكرانيا
سيصرف الموارد عن تحدي الصين. ولكن ما قمنا به أثبتت عكس ذلك: الوقوف في وجه روسيا كان
ضرورياً لتحقيق تقارب غير مسبوق بين آسيا وأوروبا، اللتين تريان بشكل متزايد أن أمنهما غير قابل
للتجزئة. هذا التحول ليس نتيجة قرارات مصيرية اتخذتها موسكو وبكين فقط، بل هو أيضاً نتيجة قرارات
مصيرية اتخذها حلفاء وشركاء الولايات المتحدة، قرارات شجعتها واشنطن لكنها لم ولن تُمليها.
التحالف العالمي الداعم لأوكرانيا هو أقوى مثال على تقاسم الأعباء الذي رأيته في مسيرتي المهنية. بينما
قدمت الولايات المتحدة 94 مليار دولار لدعم أوكرانيا منذ الغزو الروسي الشامل، قدم الشركاء الأوروبيون
والآسيويون وغيرهم ما يقرب من 148 مليار دولار. لا يزال هناك الكثير من العمل لتعزيز قدرات حلفاء
الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا من خلال مزيج من التنسيق الأفضل، والاستثمار، ودمج القاعدة الصناعية.
إن ما يتوقعه الشعب الأمريكي ويقتضيه أمن الولايات المتحدة هو أن يتحمل الحلفاء والشركاء جزءاً أكبر من
عبء الدفاع عن أنفسهم بمرور الوقت. ولكن الولايات المتحدة اليوم في موقع أقوى في كلتا المنطقتين
الحاسمتين بسبب الطيف الواسع من الحلفاء الذي بنيناه. وكذلك، في الواقع، هم أصدقاء أمريكا.
أنصار السعي لتغيير القواعد والمبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي الحالي في جميع أنحاء العالم
تأثيرات التحركات المتزايدة للدول الساعية لتغيير القواعد العالمية وتحالفاتها تتجاوز أوروبا وآسيا إلى مناطق
أخرى، مثل إفريقيا وأمريكا الجنوبية. في إفريقيا، أطلقت روسيا وكلاءها ومرتزقتها لاستغلال الذهب
والمعادن المهمة، ونشر المعلومات المضللة، ودعم محاولات الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطياً. بدلاً
من دعم الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب في السودان، التي تعتبر أسوأ أزمة إنسانية في العالم، تعمل
موسكو على تأجيج الصراع من خلال تسليح الأطراف المتنازعة. في الوقت نفسه، تستغل إيران ووكلاؤها
الفوضى لإحياء مسارات تهريب الأسلحة غير القانونية وزيادة الاضطرابات في المنطقة. أما الصين، فتغض
الطرف عن عدوان موسكو في إفريقيا بينما تعزز التبعية للدول الإفريقية وتراكم المزيد من الديون غير
المستدامة (الديون التي يصعب على الدولة أو الكيان المقترض سدادها على المدى الطويل) عليها. في أمريكا
الجنوبية، تقدم الصين وروسيا وإيران الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي لحكومة نيكولاس مادورو
Nicolás Maduro الاستبدادية في فنزويلا، مما يعزز قناعته بأن نظامه محصن ضد أي ضغوط.
التحالف المتزايد بين الدول الساعية لتغيير القواعد العالمية يظهر بشكل أكثر وضوحاً في الشرق الأوسط.
كانت روسيا في السابق تدعم جهود مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة للحد من طموحات إيران النووية؛ لكنها
الآن تساهم في تمكين البرنامج النووي الإيراني وتسهيل أنشطتها المزعزعة للاستقرار. كما أن روسيا انتقلت
من كونها شريكاً وثيقاً لإسرائيل إلى تعزيز علاقاتها مع حركة حماس بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. من
جانبها، تعمل إدارة بايدن بشكل دؤوب مع شركاء في الشرق الأوسط وخارجه لإنهاء النزاع والمعاناة في
غزّة، وإيجاد حل دبلوماسي يسمح للإسرائيليين واللبنانيين بالعيش بأمان على جانبي الحدود، وإدارة مخاطر
نشوب حرب إقليمية أوسع، والعمل على تعزيز التكامل والتطبيع في المنطقة، بما في ذلك بين إسرائيل
والمملكة العربية السعودية.
تتداخل هذه الجهود بشكل كبير، فعلى سبيل المثال، بدون إنهاء الحرب في غزّة ووضع مسار محدد زمنياً
ومضموناً نحو إقامة دولة تلبّي التطلعات المشروعة للفلسطينيين وتضمن احتياجات إسرائيل الأمنية، لا يمكن
لمساعي التطبيع أن تتقدم. لكن إذا نجحت هذه الجهود، فإن التطبيع سيندمج ضمن هيكل أمني إقليمي، ويفتح
فرصاً اقتصادية في جميع أنحاء المنطقة، ويعزل إيران ووكلاءها. وقد برزت لمحات من هذا التكامل في
التحالف الذي شمل دولاً عربية، والذي ساعد إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجوم مباشر غير مسبوق من
إيران في نيسان/أبريل.
زياراتي للمنطقة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر أكدت لي أن هناك طريقاً نحو السلام والتكامل إذا كان القادة
على استعداد لاتخاذ قرارات صعبة.
رغم الجهود المستمرة، تظل العواقب الإنسانية للحرب في غزّة مدمرة. فقد قُتل عشرات الآلاف من المدنيين
الفلسطينيين في صراع لم يبدؤوه ولا يمكنهم إيقافه. وتم تشريد الغالبية العظمى من سكان غزّة، ومعظمهم
يعاني من سوء التغذية. لا يزال حوالي 100 رهينة محتجزين في غزّة أو قُتلوا بالفعل أو محتجزين في
ظروف قاسية على يد حماس. كل هذه المعاناة تضيف حاجة أكثر إلحاحاً من أجل القيام بجهود، نقوم بها
مسبقاً، لإنهاء الصراع ومنع تكراره، ووضع الأسس لتحقيق سلام وأمن دائمين في المنطقة.
تقديم عرض أقوى
بالنسبة للعديد من البلدان النامية والأسواق الناشئة، كانت المنافسة بين القوى العظمى في الماضي تعني أن يتم
إخبارها باختيار جانب في صراع يبدو بعيداً عن صراعاتهم اليومية. وقد عبر الكثيرون عن قلقهم من أن
التنافس الحالي ليس مختلفاً. ويخشى البعض أن يؤدي تركيز الولايات المتحدة على الشأن المحلي والمنافسة
الاستراتيجية إلى إهمال القضايا التي تهمهم بشكل أكبر. لذلك، يجب على واشنطن أن تثبت العكس.
يعد عمل إدارة بايدن على تمويل البنية التحتية في جميع أنحاء العالم محاولة للقيام بذلك. لا تريد أي دولة
مشاريع بنية تحتية تُبنى بشكل سيئ وتُدمر البيئة، أو تستورد أو تسيء إلى العمال، أو تعزز الفساد وتثقل
الحكومة بالديون غير المستدامة. ومع ذلك، غالباً ما كانت هذه هي الخيار الوحيد المتاح. ولتقديم خيار أفضل،
أطلقت الولايات المتحدة ودول مجموعة السبع الأخرى "الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار"
في عام 2022. ستؤمن هذه المبادرة في النهاية 600 مليار دولار من رأس المال الخاص لتمويل مشاريع
عالية الجودة وصديقة للبيئة وتمكين المجتمعات التي تُبنى فيها. بالفعل، تقوم الولايات المتحدة بتنسيق
الاستثمارات في السكك الحديدية والموانئ لربط المراكز الاقتصادية في الفلبين وتسريع الاستثمار في البلاد.
وهي تقوم أيضاً بعدد من الاستثمارات في البنية التحتية في شريط التنمية الذي يمتد عبر إفريقيا، والذي يربط
ميناء لوبيتو Lobito في أنغولا بجمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وفي نهاية المطاف يربط بين
المحيطين الأطلسي والهندي، مما سيوفر الفرص للمجتمعات في جميع أنحاء المنطقة بينما يعزز إمدادات
المعادن الحيوية اللازمة لقيادة الانتقال إلى الطاقة النظيفة.
تتعاون الولايات المتحدة مع الشركاء لبناء وتوسيع البنية التحتية الرقمية حتى لا تضطر الدول إلى التخلي عن
أمنها وخصوصيتها للحصول على اتصالات إنترنت سريعة وبأسعار معقولة. من خلال العمل مع أستراليا
واليابان ونيوزيلندا وتايوان، استثمرت واشنطن في كابلات ستوسع الوصول الرقمي لـ 100,000 شخص
عبر جزر المحيط الهادئ. وقد قادت جهوداً مماثلة في أماكن أخرى في آسيا وكذلك في إفريقيا وأمريكا
الجنوبية.
كما سعت الإدارة إلى جعل المؤسسات الدولية أكثر شمولية. على الرغم من العيوب التي تعاني منها الأمم
المتحدة وغيرها من الهيئات المماثلة، فلا بديل عن شرعيتها وقدراتها. المشاركة في إصلاحها هي واحدة من
أفضل الطرق لتعزيز النظام الدولي ضد الجهود الرامية إلى تقويضه. ولهذا السبب، تحت إدارة بايدن، أعادت
الولايات المتحدة الانضمام إلى منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة واليونسكو.
وهذا هو السبب أيضاً في أن الإدارة اقترحت توسيع مجلس الأمن الدولي عن طريق إضافة اثنين من
الأعضاء الدائمين من إفريقيا وعضو دائم واحد من أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، ومقعد منتخب
لدول الجزر الصغيرة النامية. بالإضافة إلى المقاعد الدائمة التي اقترحناها منذ فترة طويلة لألمانيا والهند
واليابان. ولهذا السبب، ضغطنا من أجل أن تضيف مجموعة العشرين الاتحاد الإفريقي كعضو دائم، وهو ما
حدث في عام 2023. في عام 2021، دعمنا تخصيص صندوق النقد الدولي 650 مليار دولار من حقوق
السحب الخاصة لمساعدة البلدان الفقيرة التي تعاني تحت وطأة الأزمات الصحية العالمية والمناخية والديون.
كما دعمنا القيام بإصلاحات في البنك الدولي تسمح للحكومات بتأجيل سداد الديون بعد الكوارث الطبيعية
والصدمة المناخية وتوسع التمويل الميسر المتاح للبلدان ذات الدخل المتوسط. تحت رئاسة بايدن، زادت
الولايات المتحدة تمويل المناخ للدول النامية أربع مرات لمساعدتها على تحقيق أهدافها المناخية وساعدت
أكثر من نصف مليار شخص في إدارة آثار تغير المناخ.
مرة بعد مرة، أثبتت إدارة بايدن أن الولايات المتحدة هي البلد الذي يمكن للآخرين الاعتماد عليه لحل أكبر
مشاكلهم. على سبيل المثال، عندما زادت الحرب في أوكرانيا من أزمة الأمن الغذائي العالمية، استثمرت
الولايات المتحدة 17.5 مليار دولار لمكافحة انعدام الأمن الغذائي وحشدت أكثر من 100 دولة لاتخاذ
خطوات ملموسة لمعالجة التحدي وأسبابه الجذرية. وقد فعلت كل هذا مع الاستمرار في كونها أكبر مانح،
بفارق كبير، للمساعدات الإنسانية المنقذة للحياة في جميع أنحاء العالم.
الجبهة الداخلية
على الرغم من أن بعض الأمريكيين يفضلون مزيداً من التفرد والعزلة، إلا أن هناك دعماً واسعاً في الواقع
لأسس استراتيجية إدارة بايدن. فقد تم تمرير قانون CHIPS والعلوم والعديد من جولات التمويل لأوكرانيا
وتايوان في الكونغرس بدعم من الحزبين. يلتزم الديمقراطيون والجمهوريون في كلا المجلسين بتعزيز
التحالفات الأمريكية. وفي استبيان تلو الآخر، يرى معظم الأمريكيين أن القيادة الأمريكية المبدئية والمنضبطة
في العالم أمر حيوي.
إن ترسيخ هذا التوافق أمر بالغ الأهمية لإقناع الحلفاء والخصوم على حد سواء أنه على الرغم من أن الحزب
الحاكم في واشنطن يمكن أن يتغير، فإن أسس السياسة الخارجية الأمريكية لن تتغير. سيعطي ذلك الحلفاء
الثقة في أن الولايات المتحدة يمكن الاعتماد عليها للبقاء إلى جانبهم، مما سيجعلهم بدورهم حلفاء أكثر
موثوقية للولايات المتحدة. وسيسمح ذلك لواشنطن بمواجهة خصومها من موقع قوة، حيث سيعلمون أن القوة
الأمريكية متجذرة ليس فقط في الالتزامات القوية للحكومة الأمريكية ولكن أيضاً في القناعات الثابتة للشعب
الأمريكي.
بصفتي وزيراً للخارجية، أقوم بالتركيز على صياغة وتنفيذ السياسات بدلاً من الانخراط في اللعبة السياسية
أو الصراعات الحزبية. منذ اليوم الأول، اتخذ الرئيس بايدن ونائبته هاريس خياراً أساسياً أنه في عالم أكثر
تنافسية وقابلية للاشتعال، لا يمكن للولايات المتحدة أن تسير بمفردها. إذا أرادت أمريكا حماية أمنها وخلق
الفرص لشعبها، فيجب عليها أن تقف مع أولئك الذين لهم مصلحة في عالم حر ومفتوح وآمن ومزدهر وأن
تقف في وجه من يهدد هذا العالم. ستحدد الخيارات التي تتخذها الولايات المتحدة في النصف الثاني من هذا
العقد الحاسم ما إذا كانت هذه اللحظة من الاختبار ستبقى وقت تجديد لسياساتها أم ستعود إلى وقت التراجع،
ما إذا كان بإمكان واشنطن وحلفائها الاستمرار في التفوق على القوى الساعية لتعديل قواعد النظام العالمي
الحالي أو السماح لرؤيتهم و أفكارهم بتشكيل ملامح القرن الواحد والعشرين
------------
الخارجية الاميركية.