الكتابة الواقعية أبعد ما تكون عن الحياد ،بل هي بالعكس ،محملة بأمارات الصنع الأكثر إثارة للنظر
إجادة الكتابة –هي العلامة الوحيدة منذ الآن، للظاهرة الأدبية عند المدرسة الطبيعية – معناها، بسذاجة، تغيير موضع المفعول به، و"إعادة القيمة" لكلمة، ظناً بأن ذلك سيحقق إيقاعا "تعبيرياً". إلا أن التعبيرية أسطورة: فهي لا تعدو كونها اصطلاحاً عن التعبيرية.
إن هذه الكتابة الاصطلاحية كانت دائماً موضع تفضيل لدى النقد المدرسي الذي يقيس ثمن نص ما، على ضوء الجهد الذي تطلبه.
هكذا إذن، بين بروليتاريا مستبعدة من كل ثقافة، وصفوة مثقفة بدأت في وضع الأدب نفسه موضع تساؤل، سيجد الزبن المتوسطون للمدارس الابتدائية والثانوية، أي البورجوازية الصغيرة إجمالاً، في الكتابة الفنية – الواقعية – التي سيصنع منها قسط كبير من الروايات التجارية – صورة امتيازية لأدب يملك جميع الإشارات الصارخة والمفهومة لهويتهم. هنا، لا تكون وظيفة الكاتب هي إبداع عمل بقدر ما تتمثل في إنتاج أدب يرى من بعيد.
أما عن الواقعية الاشتراكية الفرنسية فقد استأنفت كتابة الواقعية البورجوازية مع مكننة جميع الإشارات القصدية للفن. نسوق، مثلا على ذلك، بعض الأسطر من رواية لروجيه كارودي:
" ... النصف الأعلى للجسم مائل، متجه باندفاع نحو ملابس اللينوتيب .. كان الفرح يغني داخل عضلاته، وكانت أصبعه ترقص خفيفة وقوية .. وكان بخار الكحل المتسمم يسوط صدعيه ويلهب شرايينه، جاعلا قوته وغضبه وحماسه أكثر قوة ...".
نلاحظ في هذه الفقرة، أن الكاتب لا يقدم لنا شيئا بدون أن يرفقه باستعارة، لأنه يريد أن يشعر القارئ إشعارا قوياً بأن ما يقرأه "مكتوب جيداً". وهذه الاستعارات التي تتشبث بأدنى فعل، لا تعبر مطلقا عن رغبة مزاج يسعى إلى نقل تفرد إحساس، بل هي فقط علامة أدبية تضع لغة في موضعها تماماً مثل العلامة التي تخبر بثمن بضاعة ما.
إن تعبيرات مثل: "ضرب على الآلة" و "نبض" (عند الحديث عن الدم) أو "يكون سعيداً لأول مرة" هي من لغة الواقع وليست لغة واقعية. ولكي يصبح فيها أدب يجب أن تكتب هكذا: "عزف على اللينوتيب" وإذن، فإن الكتابة الواقعية لا يمكن أن تفضي إلا إلى حذلقة. يكتب كارودي أيضا في نفس الرواية: "بعد كل سطر، كانت الذراع النحيلة للينوتيب ترفع قبضتها عن القوالب الراقصة"، أو يكتب: "كل مداعبة من أصابعه توقظ وترعش المصلصلة الفرحة لقوالب النحاس التي تسقط داخل المزلقة في شكل مطر حاد النغمات". إن هذه الرطانة هي نفسها رطانة كاتوس وماكدلون.
طبيعي أن من الواجب أن نحسب حساب الابتذال، وهو في حالة كارودي كبير. وعند "أندريه ستيل" ستجد طرائق أكثر تكتماً إلا أنها، مع ذلك، لا تنجو من قواعد الكتابة الفنية – الواقعية. هنا لا تريد الاستعارة أن تكون أكثر من كليشه مندمج تماماً في اللغة الواقعية، وتعلن عن الأدب بدون تكاليف باهظة.
"واضح مثل ماء الصخرة" ، "أيدي رققها البرد" . إلخ .. فالحذلقة هنا مزاحة من المعجم ومنقولة إلى تركيب الجملة، وما يضفي طابع الأدب هو التقطيع المصطنع للمفعولات، كما الشأن عند موباسان: (بيد، رفع الركبتين يد مثنية ثنيتين"). فهذه اللغة المشبعة بالاصطلاح، لا تقدم الواقع إلا من خلال قوسين: إذ تستعمل كلمات شعبوية، وتهمل سياقات الجملة وسط تركيب أدبي محض .
إذن فإن الكتاب الشيوعيين هم الوحيدون الذين يساندون برباطة جأش، كتابة بورجوازية سبق للكتاب البورجوازيين أنفسم أن أدانوها منذ أمد طويل، أي منذ اليوم الذي أحسوا فيه بأنها متورطة في التضليل المتصل بأيديولوجيتهم الخاصة، أي منذ اليوم نفسه الذي وجدت الماركسية نفسها مُبَرَّرَة.
................
جزء من كتاب "الدرجة الصفر للكتابة "
رولان بارت
ت:محمد برادة
===============
الصورة : رولان بارت
إجادة الكتابة –هي العلامة الوحيدة منذ الآن، للظاهرة الأدبية عند المدرسة الطبيعية – معناها، بسذاجة، تغيير موضع المفعول به، و"إعادة القيمة" لكلمة، ظناً بأن ذلك سيحقق إيقاعا "تعبيرياً". إلا أن التعبيرية أسطورة: فهي لا تعدو كونها اصطلاحاً عن التعبيرية.
إن هذه الكتابة الاصطلاحية كانت دائماً موضع تفضيل لدى النقد المدرسي الذي يقيس ثمن نص ما، على ضوء الجهد الذي تطلبه.
هكذا إذن، بين بروليتاريا مستبعدة من كل ثقافة، وصفوة مثقفة بدأت في وضع الأدب نفسه موضع تساؤل، سيجد الزبن المتوسطون للمدارس الابتدائية والثانوية، أي البورجوازية الصغيرة إجمالاً، في الكتابة الفنية – الواقعية – التي سيصنع منها قسط كبير من الروايات التجارية – صورة امتيازية لأدب يملك جميع الإشارات الصارخة والمفهومة لهويتهم. هنا، لا تكون وظيفة الكاتب هي إبداع عمل بقدر ما تتمثل في إنتاج أدب يرى من بعيد.
أما عن الواقعية الاشتراكية الفرنسية فقد استأنفت كتابة الواقعية البورجوازية مع مكننة جميع الإشارات القصدية للفن. نسوق، مثلا على ذلك، بعض الأسطر من رواية لروجيه كارودي:
" ... النصف الأعلى للجسم مائل، متجه باندفاع نحو ملابس اللينوتيب .. كان الفرح يغني داخل عضلاته، وكانت أصبعه ترقص خفيفة وقوية .. وكان بخار الكحل المتسمم يسوط صدعيه ويلهب شرايينه، جاعلا قوته وغضبه وحماسه أكثر قوة ...".
نلاحظ في هذه الفقرة، أن الكاتب لا يقدم لنا شيئا بدون أن يرفقه باستعارة، لأنه يريد أن يشعر القارئ إشعارا قوياً بأن ما يقرأه "مكتوب جيداً". وهذه الاستعارات التي تتشبث بأدنى فعل، لا تعبر مطلقا عن رغبة مزاج يسعى إلى نقل تفرد إحساس، بل هي فقط علامة أدبية تضع لغة في موضعها تماماً مثل العلامة التي تخبر بثمن بضاعة ما.
إن تعبيرات مثل: "ضرب على الآلة" و "نبض" (عند الحديث عن الدم) أو "يكون سعيداً لأول مرة" هي من لغة الواقع وليست لغة واقعية. ولكي يصبح فيها أدب يجب أن تكتب هكذا: "عزف على اللينوتيب" وإذن، فإن الكتابة الواقعية لا يمكن أن تفضي إلا إلى حذلقة. يكتب كارودي أيضا في نفس الرواية: "بعد كل سطر، كانت الذراع النحيلة للينوتيب ترفع قبضتها عن القوالب الراقصة"، أو يكتب: "كل مداعبة من أصابعه توقظ وترعش المصلصلة الفرحة لقوالب النحاس التي تسقط داخل المزلقة في شكل مطر حاد النغمات". إن هذه الرطانة هي نفسها رطانة كاتوس وماكدلون.
طبيعي أن من الواجب أن نحسب حساب الابتذال، وهو في حالة كارودي كبير. وعند "أندريه ستيل" ستجد طرائق أكثر تكتماً إلا أنها، مع ذلك، لا تنجو من قواعد الكتابة الفنية – الواقعية. هنا لا تريد الاستعارة أن تكون أكثر من كليشه مندمج تماماً في اللغة الواقعية، وتعلن عن الأدب بدون تكاليف باهظة.
"واضح مثل ماء الصخرة" ، "أيدي رققها البرد" . إلخ .. فالحذلقة هنا مزاحة من المعجم ومنقولة إلى تركيب الجملة، وما يضفي طابع الأدب هو التقطيع المصطنع للمفعولات، كما الشأن عند موباسان: (بيد، رفع الركبتين يد مثنية ثنيتين"). فهذه اللغة المشبعة بالاصطلاح، لا تقدم الواقع إلا من خلال قوسين: إذ تستعمل كلمات شعبوية، وتهمل سياقات الجملة وسط تركيب أدبي محض .
إذن فإن الكتاب الشيوعيين هم الوحيدون الذين يساندون برباطة جأش، كتابة بورجوازية سبق للكتاب البورجوازيين أنفسم أن أدانوها منذ أمد طويل، أي منذ اليوم الذي أحسوا فيه بأنها متورطة في التضليل المتصل بأيديولوجيتهم الخاصة، أي منذ اليوم نفسه الذي وجدت الماركسية نفسها مُبَرَّرَة.
................
جزء من كتاب "الدرجة الصفر للكتابة "
رولان بارت
ت:محمد برادة
===============
الصورة : رولان بارت