وبالنسبة إلى الأميركيين يُعد مقتل القيادي البارز في "حزب الله" إبراهيم عقيل ذا أهمية خاصة، فهو المسؤول عن تفجيرات السفارة الأميركية غرب بيروت عام 1983، وتفجيرات ثكنات مشاة البحرية الأميركية والجنود الفرنسيين المشاركين في قوة حفظ السلام المتعددة الجنسيات بدعوة من الحكومة اللبنانية، وفي الأقل تحققت العدالة بمقتله وإن بصورة جزئية.
وإلى جانب القضاء أخيراً على زعيم "حماس" إسماعيل هنية داخل مجمع آمن في طهران، فمن المؤكد أن إسرائيل قد أثارت حفيظة عدوها الرئيس، إيران، وكذلك وكلائها الإرهابيين المستهدفين بصورة مباشرة.
وعلى رغم أن المستقبل لا يزال غير مؤكد فإن هذه اللحظة تمثل فرصة مثالية لإسرائيل لتصعيد عملياتها الانتقامية ضد إيران ووكلائها الإرهابيين، رداً على إستراتيجية "حلقة النار" [دعم إيران للجماعات المحيطة بإسرائيل] والآن قد يواجه البرنامج النووي الإيراني أعظم تهديد له على الإطلاق.
ما هو وضع ساحة المعركة الآن في الشرق الأوسط؟
بعد عملية "النداء الكئيب" [تفجير أجهزة البيجر] كما يطلق عليها كثيرون الآن، شنت إسرائيل ضربات كبرى على أهداف لـ "حزب الله" في لبنان، ومن غير الواضح إن كانت هذه الضربات قد انتهت أم أنها مجرد مراحل افتتاحية لجهود أكبر بكثير لمكافحة الإرهاب، وقد تسببت الضربات الأخيرة وغيرها في إلحاق أضرار إضافية بقيادة "حزب الله" وقدراته الهجومية.
ومع ذلك فإن الترسانة الهائلة لـ "حزب الله" التي زودتها أو موّلتها إلى حد كبير إيران، إضافة إلى قواته البرية وشبكات الأنفاق في وادي البقاع وأماكن أخرى في لبنان، تجعلان منه تهديداً مستمراً، وهو أكثر خطورة على إسرائيل في المدى القريب من إيران نفسها، وتقدر وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية علناً أن الإرهابيين قد يكون لديهم "ما يصل إلى 150 ألف صاروخ وقذيفة من أنواع مختلفة". ويؤمن كثيرون أن بقاء إسرائيل يتطلب تحييد "حزب الله" قبل اتخاذ أية إجراءات عسكرية كبرى ضد إيران مباشرة.
ومنذ الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وفي أعقاب الهجوم الوحشي الذي شنته "حماس" على إسرائيل، أجبر القصف المستمر لـ "حزب الله" بالصواريخ والمدفعية على شمال إسرائيل نحو 60 مواطن على إخلاء منازلهم ومزارعهم وأعمالهم التجارية، وأدت الاضطرابات الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن ذلك والتهديد المستمر بتدمير مزيد من الممتلكات المهجورة إلى إعلان إسرائيل في الـ 16 من سبتمبر (أيلول) الجاري أن إعادة الأشخاص الذين أُجبروا على الفرار من الشمال هدف وطني للحرب، وقد يشير هذا إلى إمكان شن إسرائيل مزيداً من العمليات العسكرية، ولقد أبقت إسرائيل على خططها العملياتية سرية للغاية على مدى العام الماضي مما يجعل من الصعب التنبؤ بالتطورات المستقبلية على وجه اليقين.
وفي ما يتعلق بـ "حماس" فإن التطور الملاحظ الذي لم يحظ بالتغطية الكافية هو أن إدارة بايدن في ما يبدو تخلت إلى حد كبير عن آمال التفاوض على وقف لإطلاق النار في صراع غزة، في الأقل قبل الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
وفي الواقع كانت لدى إسرائيل و"حماس" أهداف متضاربة لا يمكن التوفيق بينها، وكانت إسرائيل على استعداد للموافقة على وقف مؤقت لإطلاق النار والإفراج عن بعض السجناء الفلسطينيين في مقابل رهائنها، بينما طالبت "حماس" بإنهاء الأعمال العدائية بصورة كاملة وانسحاب جميع القوات الإسرائيلية من غزة، ويبدو من المؤكد تقريباً أنه لم يكن هناك مجال للتوصل إلى تفاهم.
وعلى هذا فإن إسرائيل ستواصل جهودها لاستهداف كبار قادة "حماس" الباقين وإضعاف وتدمير قدراتها العسكرية، وإضافة إلى ذلك فإن العمليات الرامية إلى تفكيك تحصينات "حماس" الواسعة تحت غزة ستستمر بهدف القضاء تماماً على شبكة أنفاقها، وهكذا يبدو أن الهجوم الأولي لإيران في إستراتيجية "حلقة النار" في طريقه إلى الهزيمة المهينة، إذ لم تجلب هيمنة طهران في غزة سوى الخراب فقط.
في المقابل يواصل إرهابيو الحوثيين في اليمن بدعم مادي وسياسي كامل من إيران إغلاق ممر قناة السويس والبحر الأحمر أمام حركة المرور، ويستهدفون أيضاً الطائرات الأميركية المسيرة في المجال الجوي الدولي، ويسبب هذا الإغلاق صعوبات اقتصادية كبيرة في المنطقة، إذ تعاني مصر تراجعاً كبيراً في إيرادات الحكومة من رسوم عبور قناة السويس، مما يزيد الصعوبات الاقتصادية لسكانها.
أما على الصعيد العالمي فتفرض التكاليف المتزايدة لنقل البضائع حول القرن الأفريقي عبئاً على كثير من البلدان، في حين لا يواجه الحوثيون وإيران أية عواقب.
إن السماح لطهران ووكلائها الإرهابيين بإبقاء هذه الممرات البحرية الحيوية مغلقة أمر غير مقبول على الإطلاق، فحتى قبل استقلال الولايات المتحدة كان ضمان حرية البحار مبدأً أساساً لأمن المستعمرات، ومع ذلك وعلى غرار كثير من عناصر إستراتيجية "حلقة النار" الإيرانية، كانت إدارة بايدن مترددة وفشلت في اتخاذ أو تأييد إجراءات حاسمة لإعادة فتح خطوط الاتصال البحرية الحيوية هذه، ولن يتضح الاتجاه الذي سيتخذه الرئيس الأميركي المقبل في شأن هذا النهج غير الفعال إلا بعد الـ 20 من يناير (كانون الثاني) 2025.
وبالمثل فشلت الولايات المتحدة في اتخاذ إجراءات عقابية ضد إيران والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا التي سلّحتها طهران، على رغم أن هذه الجماعات شنت أكثر من 170 هجوماً على المدنيين والعسكريين الأميركيين منذ السابع من أكتوبر 2023.
لقد تركت إدارة بايدن الدبلوماسيين والجنود والمقاولين عرضة لخطر مستمر، بخاصة مع تصاعد التوترات والأنشطة العسكرية في منطقة عمليات "حلقة النار"، وإذا تسبب هجوم من قبل القوات الإيرانية أو الميليشيات الشيعية في خسائر بشرية أميركية جسيمة، وهو أمر ممكن للأسف بسبب تقاعس إدارة بايدن، فإن ذلك قد يثير رد فعل أميركي قوي ربما يستهدف إيران بصورة مباشرة.
لا يزال الملالي في طهران التهديد المركزي للسلام والأمن في الشرق الأوسط، ومع إضعاف وكلائهم الإرهابيين بصورة مستمرة وتعثر إستراتيجية "حلقة النار" بصورة متزايدة، ترتفع احتمالات شن هجمات مباشرة على الدفاعات الجوية الإيرانية ومنشآتها لإنتاج النفط والغاز، إضافة إلى القواعد العسكرية، وحتى برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وعلاوة على ذلك، مع رؤية السكان المدنيين الإيرانيين الغاضبين بصورة متزايدة أن رجال الدين مهتمون بالتطرف الديني أكثر من رفاهية مواطنيهم، ستزداد المعارضة الداخلية للنظام، وبالتالي فإن السؤال الملح هو: هل ستصمد الثورة الإسلامية في إيران بعد رحيل مرشدها الأعلى الحالي؟
*مستشار الأمن القومي الأميركي السابق.