في المعارف الثيولوجية، يسمى هذا الأسلوب (لوم المذنب) Victim Blaming Theology، وهو في حقيقته استغلال لغريزة الخوف الإنسانية الفطرية لتدجين الوعي لدى المذنب، ودفعه للتسليم بما يوعظ به طمعاً في السلامة والنجاة. وكما يقول الفلاسفة إن الخوف هو الغريزة الأساسية التي اعتمدت عليها الأديان في انتشارها منذ الأزل، ولكنه كان خوفاً (فطرياً) من الطبيعة القاسية أدى إلى النظر للأديان كمصدر للعزاء والمواساة وتخفيف آلام الناس وأوجاعهم الدنيوية، ولكنه الآن، وعلى أيدي المبشرين والوعاظ والقساوسة المهووسين بحشد الأتباع وتطبيق الأجندات، صار خوفاً (مركّباً)، تتم هندسته في المنابر والخطابات الوعظية، لتتحول الأديان طبقاً لذلك من مصدر عزاء وراحة إلى عكس ذلك تماماً: مصدر للخوف الأبدي من العقاب الذي قد يحلّ في أي لحظة عند أول بادرة للذنب.
وتحوّل الإله الرحيم الذي يغفر بلا حدود، ويعاقب وفق إطار إلهي حكيم، إلى ذلك الإله الذي يتعامل مع عباده بمبدأ (المعاملة بالمثل): كل ذنب تذنبه، يقابله كارثة دنيوية تحيق بك. وتلك معاملة لا تليق بالإله مهما كانت المبررات الثيولوجية.
الدين إذن، كما تم استغلاله سياسياً واجتماعياً وتوسعياً عبر التاريخ، يتم استغلاله وعظياً أيضاً باعتباره (شرطي مرور) حاضرٍا في كل مكان، كلما أذنبت أوقع عليك العقوبة المباشرة، وذلك في مجمله نتيجة مباشرة لانخفاض الوعي الاجتماعي الذي يدفع مزيداً من الناس بالتسليم لغرائزهم الأولية كالخوف من الكوارث الطبيعية، ويبحثون عن الحلول الأقرب إلى نزعتهم الغريزية تلك كالتوقف عن استفزاز رب هذه الكوارث الطبيعية، وكأن الإله العظيم الرحيم الذي يؤمن به الناس في جميع الأديان هو إله قابلٌ للاستفزاز، ومستعدٌ للدخول مع عباده في علاقة ندّية مثل (الذنب والعقوبة)، وهذه الندّية بعيدة كل البعد عما يليق بألوهيته، حسب تعريف الألوهية في جميع الأديان الكبرى، وما ورد في النصوص المقدسة من إحلال العذاب ببعض القرى إنما هو محصور في نفس الموقف التاريخي، ولا يجوز سحبه على كل كارثة طبيعية، أو تأويله حسب المزاج الوعظي للقساوسة والدعاة والحاخامات.
وإذا أرجعنا الأمر إلى تحليلاته الاجتماعية الممكنة، فسنجد أن ذنوب الناس في الحقيقة لا تستفزّ الإله،لأن ذلك يتعارض مع جلاله، ولكنها تستفزّ الوعاظ الذين يرون في انصراف الناس عن مواعظهم وتبشيرهم تهديداً لمكانتهم الاجتماعية وهيمنتهم الروحية على المجتمع. ومتى ما فقد الوعاظ والمبشرون السلطة القانونية التي تتيح لهم إيقاع العقوبة المباشرة على المذنبين مقابل هذه الإهانة الاجتماعية غير المباشرة التي وجهوها لهم، اتجهت جهودهم نحو الموروث الثيولوجي لاستنباط ما يمكّنهم من الربط المباشر بين الذنوب اليومية والكوارث الطبيعية، فتعود إليهم مقاليد هذه السلطة الاجتماعية التي كادت تضيع.
والتناقض الفلسفي الذي يقع فيه كثيرٌ من الوعاظ والمبشرين يكمن في كونهم كثيراً ما يرددون أن كل ما يحدث في الكون من تدبير هو نابع من حكمة إلهية لا يمكن للعقل البشري استيعابها، ثم يتجرؤون في حالات الكوارث الطبيعية على الجزم بقدرتهم على تفسير الحكمة الإلهية من ورائها، وهي معاقبة أصحاب الذنوب، في ربط مباشرٍ جازم وكأن عقول الوعاظ والمبشرين البشرية نجحت، باستثناء غير مبرر، في استيعاب الحكمة الإلهية حول هذه الحادثة التي لم يؤيدها نصٌ مقدس ولا وحي منزّل.
المشكلة أنه منذ بدء التاريخ والبشر يذنبون، ومنذ خلق الكوكب والكوارث لا تتوقف. وهذا لا يجعل منهما ظاهرتين تبرزان وتختفيان، بل حقيقتين ثابتتين في التركيبة البشرية وفي الحالة الكونية، والربط بينهما لا يحتاج إلى أكثر من إطلاق غريزة الخوف البشرية إلى مستوياتها القصوى، وتخفيض الوعي والعقلانية لدى الناس إلى مستوياتهما الدنيا، ثم يمكن بعد ذلك لأي واعظ فصيح أو مبشر نابه أن يقود هذا القطيع المذعور نحو حظيرة الطاعة والخضوع بكل سهولة.
وتحوّل الإله الرحيم الذي يغفر بلا حدود، ويعاقب وفق إطار إلهي حكيم، إلى ذلك الإله الذي يتعامل مع عباده بمبدأ (المعاملة بالمثل): كل ذنب تذنبه، يقابله كارثة دنيوية تحيق بك. وتلك معاملة لا تليق بالإله مهما كانت المبررات الثيولوجية.
الدين إذن، كما تم استغلاله سياسياً واجتماعياً وتوسعياً عبر التاريخ، يتم استغلاله وعظياً أيضاً باعتباره (شرطي مرور) حاضرٍا في كل مكان، كلما أذنبت أوقع عليك العقوبة المباشرة، وذلك في مجمله نتيجة مباشرة لانخفاض الوعي الاجتماعي الذي يدفع مزيداً من الناس بالتسليم لغرائزهم الأولية كالخوف من الكوارث الطبيعية، ويبحثون عن الحلول الأقرب إلى نزعتهم الغريزية تلك كالتوقف عن استفزاز رب هذه الكوارث الطبيعية، وكأن الإله العظيم الرحيم الذي يؤمن به الناس في جميع الأديان هو إله قابلٌ للاستفزاز، ومستعدٌ للدخول مع عباده في علاقة ندّية مثل (الذنب والعقوبة)، وهذه الندّية بعيدة كل البعد عما يليق بألوهيته، حسب تعريف الألوهية في جميع الأديان الكبرى، وما ورد في النصوص المقدسة من إحلال العذاب ببعض القرى إنما هو محصور في نفس الموقف التاريخي، ولا يجوز سحبه على كل كارثة طبيعية، أو تأويله حسب المزاج الوعظي للقساوسة والدعاة والحاخامات.
وإذا أرجعنا الأمر إلى تحليلاته الاجتماعية الممكنة، فسنجد أن ذنوب الناس في الحقيقة لا تستفزّ الإله،لأن ذلك يتعارض مع جلاله، ولكنها تستفزّ الوعاظ الذين يرون في انصراف الناس عن مواعظهم وتبشيرهم تهديداً لمكانتهم الاجتماعية وهيمنتهم الروحية على المجتمع. ومتى ما فقد الوعاظ والمبشرون السلطة القانونية التي تتيح لهم إيقاع العقوبة المباشرة على المذنبين مقابل هذه الإهانة الاجتماعية غير المباشرة التي وجهوها لهم، اتجهت جهودهم نحو الموروث الثيولوجي لاستنباط ما يمكّنهم من الربط المباشر بين الذنوب اليومية والكوارث الطبيعية، فتعود إليهم مقاليد هذه السلطة الاجتماعية التي كادت تضيع.
والتناقض الفلسفي الذي يقع فيه كثيرٌ من الوعاظ والمبشرين يكمن في كونهم كثيراً ما يرددون أن كل ما يحدث في الكون من تدبير هو نابع من حكمة إلهية لا يمكن للعقل البشري استيعابها، ثم يتجرؤون في حالات الكوارث الطبيعية على الجزم بقدرتهم على تفسير الحكمة الإلهية من ورائها، وهي معاقبة أصحاب الذنوب، في ربط مباشرٍ جازم وكأن عقول الوعاظ والمبشرين البشرية نجحت، باستثناء غير مبرر، في استيعاب الحكمة الإلهية حول هذه الحادثة التي لم يؤيدها نصٌ مقدس ولا وحي منزّل.
المشكلة أنه منذ بدء التاريخ والبشر يذنبون، ومنذ خلق الكوكب والكوارث لا تتوقف. وهذا لا يجعل منهما ظاهرتين تبرزان وتختفيان، بل حقيقتين ثابتتين في التركيبة البشرية وفي الحالة الكونية، والربط بينهما لا يحتاج إلى أكثر من إطلاق غريزة الخوف البشرية إلى مستوياتها القصوى، وتخفيض الوعي والعقلانية لدى الناس إلى مستوياتهما الدنيا، ثم يمكن بعد ذلك لأي واعظ فصيح أو مبشر نابه أن يقود هذا القطيع المذعور نحو حظيرة الطاعة والخضوع بكل سهولة.