وعندما نصحته باستشارة طبيب ضحك بمرارة وقال انه لا يستطيع، لأن ما يشعر به لا وجود له في قاموس الأطباء.
وعندما استوضحته عن طبيعة هذا الألم، قال انه نوع من الألم الذي ينتشر في كل انحاء الجسم، ويصيب الرأس والعينين بشكل خاص.
قال ان ألم العيون هو اكثر الآلام فظاعة ووحشية، وانه يشعر انه لم يعد قادرا على فتح عينيه لأن الضوء يخترقهما مثل اسياخ نارية.
ثم قال عبارته التي انحفرت في رأسي: ‘وطني بيوجعني’.
‘ماذا’؟ سألته ضاحكا، وبدأت اسخر من هذه الاستعارة الرومانسية التي تصلح لمسلسل ميلودرامي عن ‘الربيع العربي’. وعندما لم أسمع جوابه على الطرف الثاني من الخط الهاتفي، بدأت أشعر انا ايضا بآلام العينين، وصار رأسي مثل كتلة ملتهبة قابلة للانفجار، ولم اعد قادرا على متابعة الحديث، كأنني اعيش كوميديا سوداء، فأقفلت الخط، واجتاحني الألم.
ما معنى ان يؤلمك وطنك؟
نتألم من الاحتلال والديكتاتورية، وهذا طبيعي، ويشكل حافزا للنضال من اجل العدالة.
اما ان يكون مصدر الألم هو الوطن نفسه، فهذا لم يخطر في بالي، اذ كيف يمكن لفكرة مجردة ان تتحول الى واقع حسي وملموس؟
حاولت تفكيك لغز هذه الاستعارة فلم انجح، فاتصلت بصديقي الفلسطيني، بعيد اعلان اوباما تأجيل ضربته ضد سورية، علني افهم قصده.
سألته عن احوال ألمه، وانا متأكد من ان حالته لا بد ان تكون أفضل، لأنه سبق وان قال لي عندما شاعت حكاية الضربة الامريكية: ‘يا طالب الدبس من قفا النمس′.
قلت له ان النمس متردد الآن ويبدو انه لا وجود للدبس، فأجابني ان المسألة لا علاقة لها بالنمس الأمريكي، انها مشكلتنا نحن اولا.
قال ان جريمة الكيماوي التي ارتكبها النظام السوري لا تغتفر، وان الرد على هذه الوحشية يجب ان يتخذ شكل السقوط المدوي لهذا النظام الاستبدادي المتوحش.
ولكن يجب ان لا ينتظر السوريون شيئا من الغرب.
اسمع يا صديقي، هناك اكثر من مئة الف قتيل في سورية اليوم، لكن دمهم لم يحرك احدا من اصحاب الضمائر. بل اقول لك ان هذا الدم اعطى مبررا لقوى تشبه في وحشيتها هذا النظام للدخول الى سورية والعبث بها، تحت غطاء من الدعم العربي والتركي.
وانا لا الوم امريكا او عرب النفط، فهم يخدمون مصالحهم، كما لا الوم النظام الاستبدادي، فهذا النظام الذي بني اسواره بدم السوريات والسوريين، يتصرف بالطريقة التي يمليها تراثه الاجرامي. كما ان مجزرة الكيماوي ليست جديدة على التراث البعثي، اذ سبق لصدام حسين ان استخدمها في العراق، من دون اي ردة فعل انسانية في الغرب، الذي كان يريد من النظام العراقي الاستمرار في حربه الحمقاء ضد ايران.
‘انت تساوي بين الجلاد والضحية’، قلت.
‘كلا’، اجابني، ‘انا اقارن بين الجلادين، اما الضحية اي الشعب السوري فانها تستحق الانحناء امام تضحياتها الهائلة وبطولاتها’.
الا تقرأ ما يكتبونه في الصحافة الغربية؟ من الطبيعي ان تكون امريكا مترددة، لأن الامريكان يعتقدون، وهم على حق في ذلك، ان لا احد في سورية معهم، اسمعوا جيدا، فمصالح امريكا في المنطقة تتلخص في نقطتين، اسرائيل والنفط. سورية لا علاقة لها بملف النفط، ولكن هل يستطيع احد ان يضمن للامريكان ان اي نظام سوري جديد لن يسعى الى تحرير الجولان، ويجد نفسه في النهاية في تناقض جوهري مع السياسة الامريكية؟
بالطبع لا احد يستطيع ان يضمن ذلك، فلماذا تريدون من الامريكيين القيام بمساعدة الشعب السوري؟
قال صديقي اننا نحن سبب هذا الألم، يكفي ان تنظر الى واقع المعارضات السورية كي تشعر بالأسى. ما هذا؟ الا يخجلون؟ ما هذه التراكيب الغرائبية التي سمحت لنفسها ان تغطّي النصرة وداعش بالصمت؟ الا يعرفون ان من يساعد القاعدة بالمال والغاز والسلاح، يريد القضاء على سورية، ويشكل الوجه الآخر للبعث وحلفائه من الاصوليين الايرانيين واللبنانيين الذين يقاتلون الى جانبه؟
قال صديقي ان ما يسميه ألم الوطن هو هذا الانحلال السياسي والأخلاقي في صفوف جزء من النخبة السورية التي تصدرت القيادة التلفزيونية للثورة.
يجلسون على اقفيتهم تاركين الأرض للاسلاميين المتطرفين ومعتقدين ان امريكا سوف تُسقط النظام وتقدم لهم السلطة في سورية على طبق من دولارات النفط.
قلت لصديقي انه يقسو على الثورة السورية لأنه يتجاهل نضال الوف المناضلات والمناضلين على الأرض، الذين يؤسسون محاولات لبناء عمل شعبي يشكل بديلا لنظام الاستبداد.
قال ان الحق معي في هذه النقطة، لكنه يخشى ان تضيع جهود هؤلاء المناضلين، وتتحول سورية الى ساحة مفتوحة للحرب الاقليمية والدولية، فيصير انقاذ الوطن بالغ الصعوبة.
قلت انه يتكلم هكذا لأنه فلسطيني، وان الفلسطينيين يخشون من تهميش قضيتهم وسط هذا الواقع العربي المضطرب.
قال ان ألمه من وطنه الفلسطيني هو الألم الأكبر.
قال انه لا يريد الكلام عن فلسطين الآن، لأن الأسى يمزقه من مشهد الثنائي ليفني- عريقات، ومن الكيفية التي تتصرف بها اجهزة الأمن الفلسطينية وهي تقمع الاحتجاجات ضد المفاوضات.
قال ان الوطن يؤلمه، وانه لا يستطيع ان يتوقف عن الحزن على بلاد الشام برمتها وهو يراها وسط حراب القتلة، ويشهد كيف يباد اطفال سورية بالكيماوي.
سألني اذا كنا في لبنان قد وجدنا دواء لألم الأوطان، فأجبته ان دواءنا لم ينفع، لأننا حاولنا معالجة الألم بالنسيان وفقدان الذاكرة فوجدنا انفسنا في المأزق.
‘ماذا علينا ان نفعل’، سألني
‘نبدأ من الأول’، قلت.
‘اين نجد الأول’، قال.
‘لا ادري’، قلت، ‘لكن علينا ان لا نستسلم لليأس′.
‘حتى اليأس لا يريدنا’ قال، ‘معك حق، المسألة تحتاج الى معجزة يصنعها الشعب السوري وتتخذ شكل بداية جديدة’، واقفل الخط.
-------------
القدس العربي