ولما رجعت إلى العدد الماضي، عدد 1 أبريل (نيسان) وجدت أن هذا المقال كان من ضمن أربعة مواضيع تصدّرت غلاف المجلة.
يؤسفني أن أقول: إن المقدمة الأصلية التي كتبتها مجلة «الهلال» لمقال «حسن البنا في رأي كاتب أميركي»، والتي أعادت نشرها في تكملة هذا المقال في العدد التالي، كل معلوماتها وآرائها مجانبة للصواب. وسيتعرف القارئ على أول ما جاء فيها من خلال هذا الرد التصحيحي:
من غير المستغرب أن يقتصر الاهتمام بالذكرى الثامنة عشرة لاغتيال حسن البنا في 12 فبراير (شباط) من عام 1977 (وقع تصحيف طباعي في ذكر سنة الذكرى، والمقصود أنها الذكرى الثامنة والعشرين لاغتياله) على «نطاق ضيق»، والذي تعني به مجلة «الهلال» نطاق مجلتي «الدعوة» و«الاعتصام»، لأن حسن البنا لا يعتبر بأي حال من الأحوال من الزعامات الوطنية في تاريخ مصر الحديث التي تضم أسماءً قبل ثورة 1919. وفي أثنائها وما بعدها، فهو زعيم ديني وسياسي لجماعة دينية سياسية بعينها في مصر، وزعيم ديني وسياسي لامتداداتها في العديد من البلدان العربية.
وكما اهتمت مجلتا «الدعوة» و«الاعتصام» بهذه المناسبة، فلقد اهتمت مجلة «المجتمع» الكويتية بها أيضاً في ذلك العام.
كما أن ذكرى حسن البنا في مجلة «الدعوة» منذ سماح أنور السادات لها باستئناف الصدور عام 1976، وذكراه في مجلتي «الاعتصام» و«المجتمع» في المنتصف الأول من السبعينات الميلادية، وذكراه في مجلة «الشهاب» اللبنانية من عام 1966 إلى توقف صدورها في عام 1975، وقبلها حينما كانت تحمل اسم «المجتمع» من عام 1959. كانت ذكرى حية، وكانت هذه المنابر الإخوانية تحفل بالكتابة التمجيدية عنه بمناسبة ومن دون مناسبة.
ليس صحيحاً أن الحديث عن حسن البنا ظل أمراً شائكاً لا يقترب الباحثون والمؤرخون منه - كما علَّلت تلك المقدمة - بسبب الصراعات السياسية المختلفة التي حدثت في مصر بعد ثورة 1952. رغم أن حسن البنا - كما قالت - مات قبل الثورة.
ليس صحيحاً لأنه بعد إنشاء محكمة الثورة في أوائل شهر سبتمبر (أيلول) عام 1953 حوكمت مجموعة من العاملين في البوليس السياسي بتهمة التورط في اغتيال حسن البنا، وقد صدرت بحقهم عقوبات. وكانت من بين التهم الموجهة لإبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء ووزير الداخلية بعد اغتيال سلفه النقراشي، تسهيل مهمة البوليس السياسي في اغتيال البنا، فحكم عليه بالإعدام. ولم ينفذ هذا الحكم لأن محمد نجيب اعترض عليه وخفّفه إلى حكم بالسجن.
وليس صحيحاً لأن أتباع حسن البنا في حدود اطلاعي ألّفوا عنه منذ اغتياله إلى عام 1954 ستة كتب.
وما بين عام 1946 و12 فبراير 1949 تاريخ اغتياله، وكان عمره يتراوح ما بين 39 و42 عاماً! أّلف عنه أكثر من كتاب. وكان أنور الجندي ثاني اثنين ألّفاً عنه في حياته.
وهاتان ميّزتان من ناحية الكم لم يحظَ بمثلها في التواريخ التي ذكرتها زعيم سياسي من مصر.
قالت مقدمة المجلة في آخر ما جاء فيها: «وفي السنوات الأخيرة أصدر الرئيس السادات قرارين هامين هما: رفع الرقابة عن الصحف، ورفع الرقابة عن الكتب، ولكن هناك قراراً ثالثاً لم يتم إعلانه وإن كان في حقيقته أكثر خطورة من القرارين السابقين. والفضل في هذا القرار الجديد يعود إلى الرئيس السادات أيضاً. هذا القرار المعلن هو قرار منع الرقابة نهائياً على دراسة تاريخ مصر الحديث بكل جوانبه وشخصياته المختلفة. فلم يعد هناك (فيتو) ضد الحديث عن أي زعيم سياسي ظهر قبل 1952، ولا (فيتو) ضد إنصافه أو دراسته وتقييم مواقفه. ومن هنا امتلأت الصحف والمكتبات بدراسات عن النحاس وسراج الدين وإبراهيم عبد الهادي وحريق القاهرة وسائر الشخصيات والأحداث والأحزاب التي ظهرت قبل الثورة. ومع ذلك فقد ظل حسن البنا - وحده - بعيداً عن الميدان حتى الآن بغير سبب وبغير ضرورة، فالحرية التي يملكها الباحثون الآن في التفكير والتعبير ينبغي أن تمتد إلى شخصية حسن البنا، باعتباره زعيماً سياسياً كبيراً، وليس فقط باعتباره منشئاً لـ(الإخوان) المسلمين وقائداً لهم».
المعلومة عن قرار السادات الثالث غير المعلن التي وردت في هذه السطور تنقض ادعاء المقدمة أن شخصية حسن البنا وحدها هي التي تعرضت لإهمال دراستها. ويرد على هذا الادعاء أنه في الأيام الأخيرة من عام 1977، صدر كتاب رفعت السعيد الشهير «حسن البنا: متى... كيف... ولماذا؟».
أعلمنا رفعت السعيد في مقدمة الطبعة التاسعة لهذا الكتاب التي كتبها في شهر يونيو (حزيران) 1990 أن فكرة الكتاب خطرت على باله في الأيام الأولى من دخوله سجن القلعة بعد أحداث 18 و19 يناير (كانون الثاني) عام 1977 (انتفاضة الخبز) وأنه بدأ العمل عليه بعد السماح له بتلقي كتب وصحف وأوراق متعلقة بموضوع كتابه الذي يعمل عليه. وفور خروجه من السجن شرع في إتمام الكتاب إلى أن أنجزه بصورته النهائية، في ذلك العام.
الدور السياسي والديني المهم الذي قام به حسن البنا في مصر هو إنشاؤه لجماعة الإخوان المسلمين. وهذا الدور لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن إنشائه لهذه الجماعة وقيادته لها. فشخصية هذا الرجل السياسية والدينية ليس لها إلّا هذا الجانب الوحيد، والقول بغير ذلك تحذلق في المنطق وتفذلك في التفسير وتزيد في القول.
مقدمة مجلة «الهلال» كانت في تلك الآونة تعبر عن تحيز سافر لزعامة حسن البنا في تلك الآونة. ويجب أن ننظر إليها أنها كتبت في ظل تحالف سياسي بين أنور السادات وبين الإخوان المسلمين. تحالف سياسي لم تهتز أركانه عند الإخوان المسلمين مع إعلان السادات عن مبادرة السلام في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1977.
إن المقتطفات المنشورة في مجلة «الهلال» من موضوع «حسن البنا في رأي كاتب أميركي»، كان أنور الجندي غشّ هذه المجلة فيه مرتين:
الأولى، أنه كان قد نشره في مجلة «الرسالة» بأكمله في منتصف عام 1952، في سلسلة مقالات كان عنوانها «حسن البنا: الرجل القرآني».
الأخرى، وهي ثالثة الأثافي، أن النص الذي نسبه أنور الجندي إلى كاتب أميركي يدعى روبير جاكسون، نص مزور من ألفه إلى يائه. ولا وجود لكاتب أميركي يدعى بهذا الاسم. وهذا ما تناولته بتفصيل هنا في هذه الجريدة في مقالين، هما: («أنور الجندي وجاكسون والبنا» و«حسن البنا وفضيحة إخوانية بين «النيويورك كرونيكل» و«النيويورك بوست»).
وكان أول كاتب وقع ضحية لتزوير أنور الجندي، الكاتب والمؤرخ رفعت السعيد، فقد أحال في كتابه عن حسن البنا المذكور عنوانه آنفاً إلى مجلة «الهلال» عدد 1 أبريل، أربع مرات.
نأتي الآن للحديث عن الآمر الآخر الذي استرعى انتباهي.
بمراجعة أعداد مجلة «الهلال» قبل ذلك العدد المذكور وبعده وجدت أن الصيغة الغريبة في ترويستها ممتدة من عدد 1 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1976 إلى عدد 1 يونيو عام 1977.
في عدد خاص أصدرته مجلة «الهلال» عن رجاء النقاش، عدد 1 فبراير 2007، فسر لنا رجاء النقاش تلك الصيغة الغريبة في ترويسة المجلة في حديث شامل أجراه معه مجدي الدقاق، رئيس تحريرها وقتذاك.
يقول رجاء النقاش: «... حتى تولت أستاذتي الكبيرة أمينة السعيد رئاسة مجلس إدارة الهلال، وحاولت أن تصدر قراراً برئاستي لتحرير المجلة التي كنت أنا عملياً رئيس تحريرها في تلك الفترة نحو سنة 1976. وأرادت أمينة السعيد تثبيتي في رئاسة التحرير بدلاً مما كان يكتب في كل عدد من عبارة (أشرف على تحرير هذا العدد، رجاء النقاش). وكانت هذه العبارة تتكرر في كل عدد. وفوجئت أمينة السعيد بأن الرئيس الراحل أنور السادات يستدعيها ويقول لها: لا تصدري قراراً بتعيين رجاء النقاش رئيساً لتحرير الهلال، لأن يوسف السباعي جاءني وقال لي: إذا حدث ذلك فسوف أستقيل من كل مناصبي. وكان السباعي أيامها رئيساً لمجلس إدارة الأهرام ورئيساً للتحرير. وقد كان السباعي يعترض على تعييني رئيساً لمجلة ثقافية شعبية مهمة هي الهلال. لأنه كان يرى أنني منحاز إلى نجيب محفوظ ضده. والحقيقة أنه لم يكن في ذهني شيء من ذلك. ولم أكن أتصور أن الإعجاب بنجيب محفوظ يعني إغضاب يوسف السباعي حتى حدثت هذه القصة الغريبة. فعرفت أن يوسف السباعي يحمل في نفسه مرارة تجاهي لا يمكن التخلص منها أبداً. ولما كنت على معرفة بأن يوسف السباعي كان في مركز من أقوى المراكز في عصر السادات فقد علمت أن هناك (فيتو) سوف يظل يطاردني».
ثمة أمر ثالث استرعى انتباهي أيضاً.
ظهر اسم أمينة السعيد في ترويسة مجلة «الهلال» ابتداء من عدد 1 مايو 1976، بوصفها رئيسة مجلة إدارة دار الهلال، ومرفق في الترويسة اسم رئيس التحرير صالح جودت، الذي شغل هذا المنصب ابتداء من عدد 1 سبتمبر 1971.
استمر اسمه مترافقاً مع اسمها في الترويسة في الأعداد التالية:
عدد 1 يونيو، وعدد 1 يوليو، وعدد 1 أغسطس (آب)، وعدد 1 سبتمبر.
الإشكال أن رئيس التحرير الشاعر صالح جودت كان قد توفي في 23 يونيو من ذلك العام!
وعليه فهو قد تولى رئاسة تحرير ثلاثة أعداد من مجلة «الهلال» صدرت بعد وفاته!!!
وهذه حادثة «هلالية» إعجازية لم تحصل قط في تاريخ الصحافة في العالم. وأشك أنها ستتكرر في قادم الدهور. وهذه هي شيمة المعجزات، فالصنف فيها يحدث مرة واحدة كما يقضي بذلك ناموسها.
وفي محاولة لعقلنة هذه الحادثة «الهلالية» الإعجازية، أسأل: هل يا ترى حصل خطأ في تسجيل قيد يوم وشهر وفاته؟!... وللحديث بقية.
--------------
الشرق الاوسط
يؤسفني أن أقول: إن المقدمة الأصلية التي كتبتها مجلة «الهلال» لمقال «حسن البنا في رأي كاتب أميركي»، والتي أعادت نشرها في تكملة هذا المقال في العدد التالي، كل معلوماتها وآرائها مجانبة للصواب. وسيتعرف القارئ على أول ما جاء فيها من خلال هذا الرد التصحيحي:
من غير المستغرب أن يقتصر الاهتمام بالذكرى الثامنة عشرة لاغتيال حسن البنا في 12 فبراير (شباط) من عام 1977 (وقع تصحيف طباعي في ذكر سنة الذكرى، والمقصود أنها الذكرى الثامنة والعشرين لاغتياله) على «نطاق ضيق»، والذي تعني به مجلة «الهلال» نطاق مجلتي «الدعوة» و«الاعتصام»، لأن حسن البنا لا يعتبر بأي حال من الأحوال من الزعامات الوطنية في تاريخ مصر الحديث التي تضم أسماءً قبل ثورة 1919. وفي أثنائها وما بعدها، فهو زعيم ديني وسياسي لجماعة دينية سياسية بعينها في مصر، وزعيم ديني وسياسي لامتداداتها في العديد من البلدان العربية.
وكما اهتمت مجلتا «الدعوة» و«الاعتصام» بهذه المناسبة، فلقد اهتمت مجلة «المجتمع» الكويتية بها أيضاً في ذلك العام.
كما أن ذكرى حسن البنا في مجلة «الدعوة» منذ سماح أنور السادات لها باستئناف الصدور عام 1976، وذكراه في مجلتي «الاعتصام» و«المجتمع» في المنتصف الأول من السبعينات الميلادية، وذكراه في مجلة «الشهاب» اللبنانية من عام 1966 إلى توقف صدورها في عام 1975، وقبلها حينما كانت تحمل اسم «المجتمع» من عام 1959. كانت ذكرى حية، وكانت هذه المنابر الإخوانية تحفل بالكتابة التمجيدية عنه بمناسبة ومن دون مناسبة.
ليس صحيحاً أن الحديث عن حسن البنا ظل أمراً شائكاً لا يقترب الباحثون والمؤرخون منه - كما علَّلت تلك المقدمة - بسبب الصراعات السياسية المختلفة التي حدثت في مصر بعد ثورة 1952. رغم أن حسن البنا - كما قالت - مات قبل الثورة.
ليس صحيحاً لأنه بعد إنشاء محكمة الثورة في أوائل شهر سبتمبر (أيلول) عام 1953 حوكمت مجموعة من العاملين في البوليس السياسي بتهمة التورط في اغتيال حسن البنا، وقد صدرت بحقهم عقوبات. وكانت من بين التهم الموجهة لإبراهيم عبد الهادي رئيس الوزراء ووزير الداخلية بعد اغتيال سلفه النقراشي، تسهيل مهمة البوليس السياسي في اغتيال البنا، فحكم عليه بالإعدام. ولم ينفذ هذا الحكم لأن محمد نجيب اعترض عليه وخفّفه إلى حكم بالسجن.
وليس صحيحاً لأن أتباع حسن البنا في حدود اطلاعي ألّفوا عنه منذ اغتياله إلى عام 1954 ستة كتب.
وما بين عام 1946 و12 فبراير 1949 تاريخ اغتياله، وكان عمره يتراوح ما بين 39 و42 عاماً! أّلف عنه أكثر من كتاب. وكان أنور الجندي ثاني اثنين ألّفاً عنه في حياته.
وهاتان ميّزتان من ناحية الكم لم يحظَ بمثلها في التواريخ التي ذكرتها زعيم سياسي من مصر.
قالت مقدمة المجلة في آخر ما جاء فيها: «وفي السنوات الأخيرة أصدر الرئيس السادات قرارين هامين هما: رفع الرقابة عن الصحف، ورفع الرقابة عن الكتب، ولكن هناك قراراً ثالثاً لم يتم إعلانه وإن كان في حقيقته أكثر خطورة من القرارين السابقين. والفضل في هذا القرار الجديد يعود إلى الرئيس السادات أيضاً. هذا القرار المعلن هو قرار منع الرقابة نهائياً على دراسة تاريخ مصر الحديث بكل جوانبه وشخصياته المختلفة. فلم يعد هناك (فيتو) ضد الحديث عن أي زعيم سياسي ظهر قبل 1952، ولا (فيتو) ضد إنصافه أو دراسته وتقييم مواقفه. ومن هنا امتلأت الصحف والمكتبات بدراسات عن النحاس وسراج الدين وإبراهيم عبد الهادي وحريق القاهرة وسائر الشخصيات والأحداث والأحزاب التي ظهرت قبل الثورة. ومع ذلك فقد ظل حسن البنا - وحده - بعيداً عن الميدان حتى الآن بغير سبب وبغير ضرورة، فالحرية التي يملكها الباحثون الآن في التفكير والتعبير ينبغي أن تمتد إلى شخصية حسن البنا، باعتباره زعيماً سياسياً كبيراً، وليس فقط باعتباره منشئاً لـ(الإخوان) المسلمين وقائداً لهم».
المعلومة عن قرار السادات الثالث غير المعلن التي وردت في هذه السطور تنقض ادعاء المقدمة أن شخصية حسن البنا وحدها هي التي تعرضت لإهمال دراستها. ويرد على هذا الادعاء أنه في الأيام الأخيرة من عام 1977، صدر كتاب رفعت السعيد الشهير «حسن البنا: متى... كيف... ولماذا؟».
أعلمنا رفعت السعيد في مقدمة الطبعة التاسعة لهذا الكتاب التي كتبها في شهر يونيو (حزيران) 1990 أن فكرة الكتاب خطرت على باله في الأيام الأولى من دخوله سجن القلعة بعد أحداث 18 و19 يناير (كانون الثاني) عام 1977 (انتفاضة الخبز) وأنه بدأ العمل عليه بعد السماح له بتلقي كتب وصحف وأوراق متعلقة بموضوع كتابه الذي يعمل عليه. وفور خروجه من السجن شرع في إتمام الكتاب إلى أن أنجزه بصورته النهائية، في ذلك العام.
الدور السياسي والديني المهم الذي قام به حسن البنا في مصر هو إنشاؤه لجماعة الإخوان المسلمين. وهذا الدور لا يمكن الحديث عنه بمعزل عن إنشائه لهذه الجماعة وقيادته لها. فشخصية هذا الرجل السياسية والدينية ليس لها إلّا هذا الجانب الوحيد، والقول بغير ذلك تحذلق في المنطق وتفذلك في التفسير وتزيد في القول.
مقدمة مجلة «الهلال» كانت في تلك الآونة تعبر عن تحيز سافر لزعامة حسن البنا في تلك الآونة. ويجب أن ننظر إليها أنها كتبت في ظل تحالف سياسي بين أنور السادات وبين الإخوان المسلمين. تحالف سياسي لم تهتز أركانه عند الإخوان المسلمين مع إعلان السادات عن مبادرة السلام في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1977.
إن المقتطفات المنشورة في مجلة «الهلال» من موضوع «حسن البنا في رأي كاتب أميركي»، كان أنور الجندي غشّ هذه المجلة فيه مرتين:
الأولى، أنه كان قد نشره في مجلة «الرسالة» بأكمله في منتصف عام 1952، في سلسلة مقالات كان عنوانها «حسن البنا: الرجل القرآني».
الأخرى، وهي ثالثة الأثافي، أن النص الذي نسبه أنور الجندي إلى كاتب أميركي يدعى روبير جاكسون، نص مزور من ألفه إلى يائه. ولا وجود لكاتب أميركي يدعى بهذا الاسم. وهذا ما تناولته بتفصيل هنا في هذه الجريدة في مقالين، هما: («أنور الجندي وجاكسون والبنا» و«حسن البنا وفضيحة إخوانية بين «النيويورك كرونيكل» و«النيويورك بوست»).
وكان أول كاتب وقع ضحية لتزوير أنور الجندي، الكاتب والمؤرخ رفعت السعيد، فقد أحال في كتابه عن حسن البنا المذكور عنوانه آنفاً إلى مجلة «الهلال» عدد 1 أبريل، أربع مرات.
نأتي الآن للحديث عن الآمر الآخر الذي استرعى انتباهي.
بمراجعة أعداد مجلة «الهلال» قبل ذلك العدد المذكور وبعده وجدت أن الصيغة الغريبة في ترويستها ممتدة من عدد 1 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1976 إلى عدد 1 يونيو عام 1977.
في عدد خاص أصدرته مجلة «الهلال» عن رجاء النقاش، عدد 1 فبراير 2007، فسر لنا رجاء النقاش تلك الصيغة الغريبة في ترويسة المجلة في حديث شامل أجراه معه مجدي الدقاق، رئيس تحريرها وقتذاك.
يقول رجاء النقاش: «... حتى تولت أستاذتي الكبيرة أمينة السعيد رئاسة مجلس إدارة الهلال، وحاولت أن تصدر قراراً برئاستي لتحرير المجلة التي كنت أنا عملياً رئيس تحريرها في تلك الفترة نحو سنة 1976. وأرادت أمينة السعيد تثبيتي في رئاسة التحرير بدلاً مما كان يكتب في كل عدد من عبارة (أشرف على تحرير هذا العدد، رجاء النقاش). وكانت هذه العبارة تتكرر في كل عدد. وفوجئت أمينة السعيد بأن الرئيس الراحل أنور السادات يستدعيها ويقول لها: لا تصدري قراراً بتعيين رجاء النقاش رئيساً لتحرير الهلال، لأن يوسف السباعي جاءني وقال لي: إذا حدث ذلك فسوف أستقيل من كل مناصبي. وكان السباعي أيامها رئيساً لمجلس إدارة الأهرام ورئيساً للتحرير. وقد كان السباعي يعترض على تعييني رئيساً لمجلة ثقافية شعبية مهمة هي الهلال. لأنه كان يرى أنني منحاز إلى نجيب محفوظ ضده. والحقيقة أنه لم يكن في ذهني شيء من ذلك. ولم أكن أتصور أن الإعجاب بنجيب محفوظ يعني إغضاب يوسف السباعي حتى حدثت هذه القصة الغريبة. فعرفت أن يوسف السباعي يحمل في نفسه مرارة تجاهي لا يمكن التخلص منها أبداً. ولما كنت على معرفة بأن يوسف السباعي كان في مركز من أقوى المراكز في عصر السادات فقد علمت أن هناك (فيتو) سوف يظل يطاردني».
ثمة أمر ثالث استرعى انتباهي أيضاً.
ظهر اسم أمينة السعيد في ترويسة مجلة «الهلال» ابتداء من عدد 1 مايو 1976، بوصفها رئيسة مجلة إدارة دار الهلال، ومرفق في الترويسة اسم رئيس التحرير صالح جودت، الذي شغل هذا المنصب ابتداء من عدد 1 سبتمبر 1971.
استمر اسمه مترافقاً مع اسمها في الترويسة في الأعداد التالية:
عدد 1 يونيو، وعدد 1 يوليو، وعدد 1 أغسطس (آب)، وعدد 1 سبتمبر.
الإشكال أن رئيس التحرير الشاعر صالح جودت كان قد توفي في 23 يونيو من ذلك العام!
وعليه فهو قد تولى رئاسة تحرير ثلاثة أعداد من مجلة «الهلال» صدرت بعد وفاته!!!
وهذه حادثة «هلالية» إعجازية لم تحصل قط في تاريخ الصحافة في العالم. وأشك أنها ستتكرر في قادم الدهور. وهذه هي شيمة المعجزات، فالصنف فيها يحدث مرة واحدة كما يقضي بذلك ناموسها.
وفي محاولة لعقلنة هذه الحادثة «الهلالية» الإعجازية، أسأل: هل يا ترى حصل خطأ في تسجيل قيد يوم وشهر وفاته؟!... وللحديث بقية.
--------------
الشرق الاوسط