ولِمَ لا؟ فمنذ رئاسة نتنياهو لأول حكومة، دمّر نهائياً عملية السلام مع الفلسطينيين، واكتفى بأقل قدر من السلام مع جواره الإقليمي. أما مع الأعداء، فبانتظار تورط الولايات المتحدة، لم يقم الاّ "بقص العشب"، و"المعارك بين الحروب".
يمحص الاستراتيجيون عوامل نجاح أو فشل أي جيش، من خلال تحليل الفلسفة التي تقف وراء عقيدته العسكرية. يمحصون حكمتها التاريخية، مطابقتها للتحدّيات، والخيارات التي تفتحها للأمّة. أية أمّة. إذ لا شيء يكسر استراتيجيات أي جيش مثل عقيدة متناقضة ومحدودة!
كيف لنتنياهو أن يتفاجأ؟ وهو الذي أسّس لمنطق إحباط فرص السلام، ومنهج إبقاء نار المعارك الأبدية حوله، واعتمد استراتيجية عرجاء بإقامة الأسوار، والدرء التكتيكي للمخاطر التي التفت كالغابات من كل حدب.
فإن كنت تبني استراتيجية دولة ما على قدرتها الأبدية "لكسر رأس" جوارها (على حدّ تعبير وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير)، يصبح أي ثقب في مناعتها انكساراً وجودياً! وهذا ما كاد يحصل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وبذلك نفهم الشعور الراهن بالقلق العميق، "إنّ ما نمرّ فيه، لا يمكن أن يفهمه الآخرون، لأنّ ما يجري لا يشبه شيئاً يعرفونه". فتلك هي المعادلة التي وضعهم فيها نتنياهو.
أقول هذا الكلام، وأنا أقارن هذا المنطق، بالعقيدة العفوية لشعوب الإقليم! بقيت هذه الشعوب لقرون وقرون، دون أية رؤية استراتيجية. بقيت لا لشيء إلاّ لكونها بالتعريف، وبحسب محمود درويش، "ملح الأرض!". إنّها لا تبحث عن حلول صفرية، تبني سلمها، وتتعايش مع جيرانها، وتوازن علاقاتها بمنطق عملي. هي تهزم أو تنتصر أمام الغزاة البعيدين، تنهار دولها وتعمر، تتبدّل حدودها أو تتغيّر أسماؤها، لكنها كملح الأرض، تبقى! أما هؤلاء المتعصبون اليمينيون الإسرائيليون، فلقد ظنوا أنّهم لا يتركون شيئاً للأقدار، فصاروا خطراً وجودياً على الإقليم بأسره.
ثمة دروس عميقة أخرى!
فمنذ بناء سور الصين العظيم، يعلّمنا التاريخ أنّ كل سور مآله أن يثقب. فهل ستعود إسرائيل لتوظيف عشرات المليارات من الشيكلات في أسوار جديدة وتقنيات الفانتازيا الافتراضية؟ بل لم تفدها الأسوار إلاّ بالمزيد من وهم وبطر القوة وهوس التقوقع، والتغاضي الفادح عن رؤية الحقائق التاريخية.
لا يقتصر الأمر على العقلية وحدها، بل يمتد عميقاً في البنية المعنوية والتكتيكية!
فلقد أعمت روح الفروسية الاستخبارية، وخداع الصفقات مع روسيا وإيران، بَصَر المخطّطين العسكريين حتى على الصعيد التكتيكي. لم تنفع تحذيرات الدول الحليفة لإسرائيل، ولم يكف ما عُرف عن لقاءات بيروت لإيقاظ الغرور والاستخفاف المحقون بالأوهام السياسية. بل، وبحسب ما يتسرّب، كانت إسرائيل على علم، إلى حدّ بعيد، بتعقيد الأنفاق، وبالوضع في سيناء، وبما يرد من إيران، وبطبيعة التجهيزات إلخ..
ثم، يجيء التخلخل المعنوي!
فكيف لجيش أن يحارب ومن خلفه كتلة من المسيانيين المتعصبين والمهووسين، المتعطشين للاستيلاء على الأراضي. يتكاثرون بانفلات، لا يعملون، بل يصلّون ويرون أنّ صلواتهم سبب "انتصارات إسرائيل"، (وليس هزائمها بالطبع)، ويرفلون بنعم ميزانية ينتجها العلمانيون الذين يعتبرهم المسيانيون، أحفاد الرواد المؤسسين العلمانيين الذين خانوا رسالة قيام الدولة. ليس ثمة وصفة فصامية أنجح، لكسر معنويات وانضباط أي جيش.
فوق ذلك، تشير الدراسات للأثر التخريبي لاختراق السياسة لصلب العلاقات في الجيش الإسرائيلي. في حينه، تنبأ بن غوريون بالحركات "الميركانتيلية" للسياسة الإسرائيلية، فكتب أنّ "أية محاولة لإشراك الجيش في الألعاب السياسية تشكّل خطراً على الدولة وأمنها. من الضروري أن يبقى الجيش خارج السياسة".
لكن تدريجياً، ومع وصول نتنياهو لرئاسة الوزراء، تصاعد نفوذ المستوطنين والمتعصبين، وتسرّبت السياسة حثيثاً من ثقوب الصراعات، والمحاباة، والمحسوبية، السياسية والشخصية.
يقول الاستراتيجي العسكري الأميركي الكبير ك. س مارشال إنّ "جيشاً لا يستطيع إقصاء قائد ناجح عن قيادة مهمّة تحتاج لنوع آخر من القادة، هو جيش مكتوب له أن يخسر". فكيف يمكن ذلك مع تلويث السياسة للقرار المهني لتصبح معياراً للولاء؟
أبعد من ذلك، وفي سياق الصراع الجاري ضدّ مساعي هؤلاء المسيانيين اليهود لإعادة هيكلة الدولة، تظهر بيانات "وسائل التواصل" إنّه رغم التلاحم الذي ولّدته الصدمة، نشأ شعور واسع لدى المجندين والضباط بانكشاف ظهرهم، فيما يخوض المجتمع مخاض التصدّي لانقلاب المتعصبين على جوهر الدولة.
بل، وقبل ذلك بعقود، كان ثمة مرض خطير يتسلّل بعمق في بنية الجيش والاحتياط. فبعد نزول الجيش للشوارع في الضفة الغربية، تحوّلت قطاعات من الجيش عن احترافها القتالي، لتصير مجرد أداة لقمع المدنيين الفلسطينيين. وبحسب الخبرة العسكرية، لا شيء يفسخ الجيوش ويقوّض انضباطها وكفاءتها وروحها المعنوية مثل تحوّلها لقوة قمع فاسدة تنتهك الأعراف، كوسيلة وحيدة لتحقيق المهمّات التعسفية.
ثم، بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، طفت على السطح ظواهر أخرى! فعندما انفجر الذعر في الحكومة، زايد نتنياهو على المتطرّفين في حكومته، بل تجاوزهم في حماقة الأهداف. إذ، بعد التدمير المنهجي لعلميات السلام، وبعد جهده لجعل الحياة مستحيلة على الفلسطينيين، وبعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لم يبق لنتنياهو، إلاّ أن يضع أمام جيشه مهمّات مستحيلة. الترانسفير، ثم القضاء على "حماس" ثم تحرير المحتجزين.
في ظلّ عزلته الدولية والإقليمية، وأمام التناقض الصارخ في الأهداف، والشطح في السياسات، كيف لا يطيش حجر التخطيط العسكري؟
في بداية العمليات، طفت عيوب جوهرية عديدة أخرى. فنتيجة الفشل في تحقيق الأهداف، والفشل في تحقيق المستوى المطلوب من تضافر الأسلحة، ظهرت احتكاكات ميدانية بين القطعات، وتكاثر ضحايا النيران الصديقة. وفوق كل ذلك، جاءت الاحتكاكات المتكرّرة بين العسكريين ونتنياهو، وما يتسرّب من مهاترات من داخل وخارج "الكابينيت"، لتزيد الطين بلة.
واثقٌ أنّ الخبراء العسكريين المختصين، سيستخلصون ما هو أعمق بكثير من هذه المقاربة الأولية. لكن السؤال الذي يبقى بعد كل هذا الكلام: "ماذا سيفعل نتنياهو بعد أن ثقب منطقه حتى العظم؟".
---------
النهار العربي