صناعة زعيم للمعارضة السورية
حازم نهار
17 سبتمبر 2014 حازم نهار
كاتب وباحث سوري مقيم في الدوحة، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية. ومن ترجماته "سورية .. الاقتراع أم الرصاص".
- 10 سبتمبر 2014 |
داعش.. فخر الصناعة العالمية
- 21 أغسطس 2014 |
أسوأ من الكيماوي
-
اختيارات القرّاء
مشاهدة تعليقاً إرسالاً - 1 2 3 4 5 6
في كل مناسبة تجري فيها "انتخابات" أو عملية لاختيار رئيس لتشكيل سوري معارض، أتذكر فكرة مهمة طرحتها على كثيرين مرارًا، من دون أي استجابة أو إدراك لأهميتها، وهي "ضرورة صناعة زعيم للمعارضة والثورة". فهذه المسألة هي العنوان الرئيس الذي يتكثف فيه، اليوم، فشل أو إرباك المعارضة السياسية والثورة في آن معًا. نعم، فالزعامة تصنع صناعة، وينبغي أن يكون هناك جهد مركّز لإعادة تقديم الموهبة الفردية بشكل جديد، على الرغم من إقرارنا بضرورة توافر المواهب الأولية التي تشكل أساسًا مهمًا للبناء عليه.
في الأشهر الأولى للثورة، لم يعجب أحدًا التحذير الذي تلخصه مقولة "ثورة بلا رأس ستتحول تدريجيًا إلى ثورة بألف رأس". بالطبع، كانت الأمية السياسية، ولا تزال، هي المهيمنة، إذ سيقت، في هذا الإطار، حجج ومبررات تنتمي إلى "القرباطية"، وليس إلى الديمقراطية. هنا جاء مثلًا اعتماد آلية تبديل رئيس المجلس الوطني كل ثلاثة أشهر، بما يوحي وكأننا في إطار لعبة يديرها أطفال، وليس في إطار العمل السياسي.
واحدة من تلك المبررات الساذجة مفادها أن الثورة قامت ضد حكم الفرد المستبد، وعلينا ألا نكرر هذه المأساة. هذا صحيح من حيث الجوهر، لكن من قال إن التخلص من الاستبداد الفردي يعني قتل الأفراد وإنكار التمايزات والمساواة بينهم، وكأنهم متماثلون في قدراتهم وذكائهم ومواهبهم! تمامًا كما أن الثورة ضد العلاقات الأبوية الاستبدادية في الأسرة لا تعني قتل الآباء والتنكر لعلاقة الأبوة ذاتها.
ثمة فهم سطحي وساذج لمعنى العمل الجماعي والمؤسسي، والذي غدا معادلًا لإنكار وجود الفرد المتميز ودوره كليًا لمصلحة "عمل جماعي"، تتحول فيه ما يسمونها "المؤسسة السياسية" إلى معمل بليد لإنتاج الكاسات ذات المقاس الواحد واللون الواحد. في الحقيقة، لا يعني العمل الجماعي المؤسّسي قتل الأفراد ومواهبهم وتميزهم، بل يعني إيجاد أنماط وآليات من العمل، تبني علاقة صحية بين الفرد والجماعة، وتعطي الفرصة للأفراد المتميزين للقيام بدورهم من خلال القانون الذي تضعه الجماعة بآليات ديمقراطية.
كثيرٌ من العجزة وفاقدي الموهبة ينادون بالعمل الجماعي والمؤسسي زورًا وبهتانًا للتغطية على عجزهم، فالمعنى العميق المستتر في ذواتهم هو أنهم مهما فعلوا، ومهما بذلوا جهدًا، فإنهم، كأفراد، لن يصلوا إلى قامة فلان في الفكر أو الثقافة أو السياسة أو العلاقات والمواهب الشخصية، وبالتالي، أفضل طريقة تلائمهم تكمن في تقصير قامات الأفراد المتميزين، بالقدر الذي لا يسمح لهم بتجاوز قامات الأفراد العاجزين في الجماعة.
أيهما أفضل، وجود زعيم محكوم بمؤسسة سياسية وبقوانينها، وبإمكاننا تغييره ديمقراطيًا، أم وجود شخصيات عديدة قدمت نفسها دفعة واحدة، كزعامات للثورة والمعارضة في تنافس سلبي وساذج، الأمر الذي أدى إلى تشويش السوريين بينها وفقدان حالة "المركز الواحد" الضروري في مثل هذه المرحلة؟ لقد كانت معظم الشخصيات المعارضة مبدعة في إفشال بعضها بعضًا، ولم تدرك أنها عندما تُفشل "قائدها" المؤقت، فإنها ستفشل جميعها في الحصيلة. السنوات الأربع الماضية تدلل على أن هذه الطريقة لم تنتج إلا الفوضى، وحرق الجميع للجميع من دون استثناء. لا مراء أن البشر يحتاجون في اللحظات الحاسمة من تاريخهم إلى قادة وزعماء، وهذا صحيح في الشرق والغرب، مع فارق أن زعماء الشرق كانوا فوق القانون والمحاسبة، ويسعون إلى البقاء إلى الأبد، بينما زعماء الغرب يخضعون للقانون والمحاسبة والآليات الديمقراطية في تداول السلطة.
تقدمت، في سياق الثورة، شخصيات طموحة نحو القيادة، بعضها من الرعيل السياسي القديم، وبعضها الآخر جديد لا علم له بالسياسة وشؤونها، لكنها جميعها، كما ظهر، لا تملك حدًا أدنى من المقومات الضرورية، وقد اجتمعت فيها صفاتٌ جعلت منها عقبة حقيقية أمام بلورة بديل ممكن: الضحالة الثقافية، الخفة السياسية و"النطْوَطة" المستمرة، الجهل السياسي، الافتتان بالظهور الإعلامي، الغرور والفردية السلبية، حالة من عدم الثقة بالذات، تجلت بمسايرة المزاج العام من جهة، والتعاطي الساذج مع السفراء والوزراء، بالاستناد إلى منطق التسوّل، من جهة أخرى.. إلخ. يضاف إلى ذلك عدم إدراك أن الزعامة تحتاج إلى عنصرين متلازمين، توافر القدرات والمواهب الشخصية، ووجود فريق عمل مساعد للزعيم أو القائد المرحلي، يعمل على تنبيهه وتطوير أدائه في النواحي كافة، الشكلية منها والجوهرية.
أذكر كيف قدمت المعارضة نفسها في أول إطلالة لها على العالم والشعب السوري، فقد كانت الصورة مثيرة للشفقة، عندما تم الإعلان عن تشكيل ما عرف بـ"المجلس الوطني السوري" في 2 أكتوبر/تشرين أول 2011. كانت خلفية الصورة الأولى للمعارضة بالية، وهي أقرب إلى عمل الهواة، وانعكاسها كان سلبيًا في أذهان السوريين، وتلقتها الدول بسخرية. فقد كان الجميع في هرج ومرج، وبعضهم يسير ويتحرك في أثناء المؤتمر الصحافي، وأشخاص يقفون خلف رئيس المجلس وهو يلقي خطبته، الكل موجودون على المنصة، وخطبة غير مدققة، وتحضير ساذج للرد على أسئلة بديهية متوقعة من الصحافيين.
عندما رأيت تلك الصورة، رئيس المجلس وحوله رهط كبير من المتزاحمين على الظهور في الصورة، قلت لكثيرين منهم إن السوريين لن يحترموا هذا الظهور، ولن يكون له أثر في قلوبهم وعقولهم. واحدة من النقاط المهمة في علم النفس، هي معرفة كيفية إظهار القائد بصورة تجعل من الحب والاحترام في آن معًا عنصريّ الرسالة الأساسية، المراد إيصالها إلى الجمهور. واحدة من عناصر الرزانة والهيبة المهمة تتمثل بأن نترك "الزعيم" المفترض ليظهر وحده في الصورة، لكن، على ما يبدو، كان السادة أعضاء المكتب التنفيذي مصرِّين، آنذاك، على الظهور في الصورة، والتحدث إلى الجمهور، وعلى تذوق شيء من برميل العسل الإعلامي! ولا غرابة في ما بعد أن تصرّ قبيلة المعارضة كلها على المشاركة في أي وفد مخصص لزيارة الدول، أو أن يلهث كثيرون وراء الظهور الإعلامي، حتى لو كانوا ممن لم يقرأوا صفحة واحدة طوال حياتهم.
في المقابل، كانت جهة أخرى في المعارضة مصرّةً على أن تصدّر ديناصورات أو مستحاثات "قومية" و"يسارية" لزعامة المعارضة والثورة، منطلقةً من الأرضية الثقافية والسياسية ذاتها، تقريبًا، التي ظل النظام يصدح بها طوال نصف قرن، ويتعاطى معها السوريون بالاشمئزاز أو السخرية. قدمت هذه الجهة نفسها بخطابٍ باهتٍ وطموحٍ متدنٍ، يصلحان فحسب أن يدفنا في الماضي، وليس في بلدٍ اكتسحته ثورة عارمة هزت جميع أركانه، وفي ظل نظام لم يترك فنًا من فنون الإجرام لم يرتكبه. كان الهاجس الرئيس لهذا الطرف المعارض إثبات نفسه فحسب في مواجهة أطراف معارضة أخرى، والغريب أنه قدم نفسه للقيادة، مع أنه لا يزال حتى اليوم يتعامل في العمق مع النظام الحاكم بوصفه شرعيًا، وبحالة من عدم الاكتراث بآلام الناس. وخلافاتٌ كثيرة وصلت إلينا، خصوصاً في أشهر الثورة الأولى، على أنها خلافات سياسية، كانت في جوهرها وحقيقتها خلافات شخصية قديمة، أو خلافات على الزعامة، لا أكثر ولا أقل، وكان ذلك واضحًا وصريحًا في كواليس المعارضة.
اليوم يذهب رئيس ويأتي آخر، يذهب أمين عام ويأتي غيره، فيما السوريون لا يكترثون. والجميع يعلم أن ثمة آليات غير نزيهة وغير موضوعية سائدة وراء الوصول إلى هذه المواقع. كذلك، لا يخفى أن التوازنات الهشة والسطحية في داخل التراكيب السياسية كلها للمعارضة قد جعلت منصب الرئيس، أي رئيس، تافهًا وبلا أي قيمة، فهي ترغمه على تمضية نصف وقته في التواصل مع كتل سياسية هشة ومريضة وخلبية، لمعرفة رضاها عنه، وليصبح هاجسه الرئيس ممارسة سياسة الإرضاء أو المجاملة أو الشراء.
ما أحوج السوريين، اليوم، إلى زعامات أخرى، تحمل مشروعًا وطنيًا ديمقراطيًا حديثًا، واثقة بالنفس ومتواضعة في الآن نفسه، تستمع إلى النصيحة، ذات صدقية، نزيهة، تملك فهمًا واسعًا في السياسة والعلاقات الدولية، وثقافة حديثة تمنحها العمق والصبر اللازمين، ولديها معرفة كبيرة بالمجتمع السوري والنظام الحاكم، وحولها فريق عمل مخلص وخبير في حقول شتى، يرعى هذه الزعامة ويعلمها ويساعدها، ويقيها من شرور نفسها.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/c990d52c-f50c-4d00-a762-4a1440e11db1#sthash.1wqF6XvE.dpuf في الأشهر الأولى للثورة، لم يعجب أحدًا التحذير الذي تلخصه مقولة "ثورة بلا رأس ستتحول تدريجيًا إلى ثورة بألف رأس". بالطبع، كانت الأمية السياسية، ولا تزال، هي المهيمنة، إذ سيقت، في هذا الإطار، حجج ومبررات تنتمي إلى "القرباطية"، وليس إلى الديمقراطية. هنا جاء مثلًا اعتماد آلية تبديل رئيس المجلس الوطني كل ثلاثة أشهر، بما يوحي وكأننا في إطار لعبة يديرها أطفال، وليس في إطار العمل السياسي.
واحدة من تلك المبررات الساذجة مفادها أن الثورة قامت ضد حكم الفرد المستبد، وعلينا ألا نكرر هذه المأساة. هذا صحيح من حيث الجوهر، لكن من قال إن التخلص من الاستبداد الفردي يعني قتل الأفراد وإنكار التمايزات والمساواة بينهم، وكأنهم متماثلون في قدراتهم وذكائهم ومواهبهم! تمامًا كما أن الثورة ضد العلاقات الأبوية الاستبدادية في الأسرة لا تعني قتل الآباء والتنكر لعلاقة الأبوة ذاتها.
كثيرٌ من العجزة وفاقدي الموهبة ينادون بالعمل الجماعي والمؤسسي زورًا وبهتانًا للتغطية على عجزهم، فالمعنى العميق المستتر في ذواتهم هو أنهم مهما فعلوا، ومهما بذلوا جهدًا، فإنهم، كأفراد، لن يصلوا إلى قامة فلان في الفكر أو الثقافة أو السياسة أو العلاقات والمواهب الشخصية، وبالتالي، أفضل طريقة تلائمهم تكمن في تقصير قامات الأفراد المتميزين، بالقدر الذي لا يسمح لهم بتجاوز قامات الأفراد العاجزين في الجماعة.
أيهما أفضل، وجود زعيم محكوم بمؤسسة سياسية وبقوانينها، وبإمكاننا تغييره ديمقراطيًا، أم وجود شخصيات عديدة قدمت نفسها دفعة واحدة، كزعامات للثورة والمعارضة في تنافس سلبي وساذج، الأمر الذي أدى إلى تشويش السوريين بينها وفقدان حالة "المركز الواحد" الضروري في مثل هذه المرحلة؟ لقد كانت معظم الشخصيات المعارضة مبدعة في إفشال بعضها بعضًا، ولم تدرك أنها عندما تُفشل "قائدها" المؤقت، فإنها ستفشل جميعها في الحصيلة. السنوات الأربع الماضية تدلل على أن هذه الطريقة لم تنتج إلا الفوضى، وحرق الجميع للجميع من دون استثناء. لا مراء أن البشر يحتاجون في اللحظات الحاسمة من تاريخهم إلى قادة وزعماء، وهذا صحيح في الشرق والغرب، مع فارق أن زعماء الشرق كانوا فوق القانون والمحاسبة، ويسعون إلى البقاء إلى الأبد، بينما زعماء الغرب يخضعون للقانون والمحاسبة والآليات الديمقراطية في تداول السلطة.
تقدمت، في سياق الثورة، شخصيات طموحة نحو القيادة، بعضها من الرعيل السياسي القديم، وبعضها الآخر جديد لا علم له بالسياسة وشؤونها، لكنها جميعها، كما ظهر، لا تملك حدًا أدنى من المقومات الضرورية، وقد اجتمعت فيها صفاتٌ جعلت منها عقبة حقيقية أمام بلورة بديل ممكن: الضحالة الثقافية، الخفة السياسية و"النطْوَطة" المستمرة، الجهل السياسي، الافتتان بالظهور الإعلامي، الغرور والفردية السلبية، حالة من عدم الثقة بالذات، تجلت بمسايرة المزاج العام من جهة، والتعاطي الساذج مع السفراء والوزراء، بالاستناد إلى منطق التسوّل، من جهة أخرى.. إلخ. يضاف إلى ذلك عدم إدراك أن الزعامة تحتاج إلى عنصرين متلازمين، توافر القدرات والمواهب الشخصية، ووجود فريق عمل مساعد للزعيم أو القائد المرحلي، يعمل على تنبيهه وتطوير أدائه في النواحي كافة، الشكلية منها والجوهرية.
أذكر كيف قدمت المعارضة نفسها في أول إطلالة لها على العالم والشعب السوري، فقد كانت الصورة مثيرة للشفقة، عندما تم الإعلان عن تشكيل ما عرف بـ"المجلس الوطني السوري" في 2 أكتوبر/تشرين أول 2011. كانت خلفية الصورة الأولى للمعارضة بالية، وهي أقرب إلى عمل الهواة، وانعكاسها كان سلبيًا في أذهان السوريين، وتلقتها الدول بسخرية. فقد كان الجميع في هرج ومرج، وبعضهم يسير ويتحرك في أثناء المؤتمر الصحافي، وأشخاص يقفون خلف رئيس المجلس وهو يلقي خطبته، الكل موجودون على المنصة، وخطبة غير مدققة، وتحضير ساذج للرد على أسئلة بديهية متوقعة من الصحافيين.
في المقابل، كانت جهة أخرى في المعارضة مصرّةً على أن تصدّر ديناصورات أو مستحاثات "قومية" و"يسارية" لزعامة المعارضة والثورة، منطلقةً من الأرضية الثقافية والسياسية ذاتها، تقريبًا، التي ظل النظام يصدح بها طوال نصف قرن، ويتعاطى معها السوريون بالاشمئزاز أو السخرية. قدمت هذه الجهة نفسها بخطابٍ باهتٍ وطموحٍ متدنٍ، يصلحان فحسب أن يدفنا في الماضي، وليس في بلدٍ اكتسحته ثورة عارمة هزت جميع أركانه، وفي ظل نظام لم يترك فنًا من فنون الإجرام لم يرتكبه. كان الهاجس الرئيس لهذا الطرف المعارض إثبات نفسه فحسب في مواجهة أطراف معارضة أخرى، والغريب أنه قدم نفسه للقيادة، مع أنه لا يزال حتى اليوم يتعامل في العمق مع النظام الحاكم بوصفه شرعيًا، وبحالة من عدم الاكتراث بآلام الناس. وخلافاتٌ كثيرة وصلت إلينا، خصوصاً في أشهر الثورة الأولى، على أنها خلافات سياسية، كانت في جوهرها وحقيقتها خلافات شخصية قديمة، أو خلافات على الزعامة، لا أكثر ولا أقل، وكان ذلك واضحًا وصريحًا في كواليس المعارضة.
اليوم يذهب رئيس ويأتي آخر، يذهب أمين عام ويأتي غيره، فيما السوريون لا يكترثون. والجميع يعلم أن ثمة آليات غير نزيهة وغير موضوعية سائدة وراء الوصول إلى هذه المواقع. كذلك، لا يخفى أن التوازنات الهشة والسطحية في داخل التراكيب السياسية كلها للمعارضة قد جعلت منصب الرئيس، أي رئيس، تافهًا وبلا أي قيمة، فهي ترغمه على تمضية نصف وقته في التواصل مع كتل سياسية هشة ومريضة وخلبية، لمعرفة رضاها عنه، وليصبح هاجسه الرئيس ممارسة سياسة الإرضاء أو المجاملة أو الشراء.
ما أحوج السوريين، اليوم، إلى زعامات أخرى، تحمل مشروعًا وطنيًا ديمقراطيًا حديثًا، واثقة بالنفس ومتواضعة في الآن نفسه، تستمع إلى النصيحة، ذات صدقية، نزيهة، تملك فهمًا واسعًا في السياسة والعلاقات الدولية، وثقافة حديثة تمنحها العمق والصبر اللازمين، ولديها معرفة كبيرة بالمجتمع السوري والنظام الحاكم، وحولها فريق عمل مخلص وخبير في حقول شتى، يرعى هذه الزعامة ويعلمها ويساعدها، ويقيها من شرور نفسها.
صناعة زعيم للمعارضة السورية
حازم نهار
17 سبتمبر 2014 حازم نهار
كاتب وباحث سوري مقيم في الدوحة، رئيس تحرير مجلة "المشكاة"، فكرية حقوقية فصلية، من مؤلفاته، مسرح سعد الله ونوس، والتأخر في المجتمع العربي وتجلياته التربوية في العائلة والمدرسة، ومسارات السلطة والمعارضة في سورية. ومن ترجماته "سورية .. الاقتراع أم الرصاص".
- 10 سبتمبر 2014 |
داعش.. فخر الصناعة العالمية
- 21 أغسطس 2014 |
أسوأ من الكيماوي
-
اختيارات القرّاء
مشاهدة تعليقاً إرسالاً - 1 2 3 4 5 6
في كل مناسبة تجري فيها "انتخابات" أو عملية لاختيار رئيس لتشكيل سوري معارض، أتذكر فكرة مهمة طرحتها على كثيرين مرارًا، من دون أي استجابة أو إدراك لأهميتها، وهي "ضرورة صناعة زعيم للمعارضة والثورة". فهذه المسألة هي العنوان الرئيس الذي يتكثف فيه، اليوم، فشل أو إرباك المعارضة السياسية والثورة في آن معًا. نعم، فالزعامة تصنع صناعة، وينبغي أن يكون هناك جهد مركّز لإعادة تقديم الموهبة الفردية بشكل جديد، على الرغم من إقرارنا بضرورة توافر المواهب الأولية التي تشكل أساسًا مهمًا للبناء عليه.
في الأشهر الأولى للثورة، لم يعجب أحدًا التحذير الذي تلخصه مقولة "ثورة بلا رأس ستتحول تدريجيًا إلى ثورة بألف رأس". بالطبع، كانت الأمية السياسية، ولا تزال، هي المهيمنة، إذ سيقت، في هذا الإطار، حجج ومبررات تنتمي إلى "القرباطية"، وليس إلى الديمقراطية. هنا جاء مثلًا اعتماد آلية تبديل رئيس المجلس الوطني كل ثلاثة أشهر، بما يوحي وكأننا في إطار لعبة يديرها أطفال، وليس في إطار العمل السياسي.
واحدة من تلك المبررات الساذجة مفادها أن الثورة قامت ضد حكم الفرد المستبد، وعلينا ألا نكرر هذه المأساة. هذا صحيح من حيث الجوهر، لكن من قال إن التخلص من الاستبداد الفردي يعني قتل الأفراد وإنكار التمايزات والمساواة بينهم، وكأنهم متماثلون في قدراتهم وذكائهم ومواهبهم! تمامًا كما أن الثورة ضد العلاقات الأبوية الاستبدادية في الأسرة لا تعني قتل الآباء والتنكر لعلاقة الأبوة ذاتها.
ثمة فهم سطحي وساذج لمعنى العمل الجماعي والمؤسسي، والذي غدا معادلًا لإنكار وجود الفرد المتميز ودوره كليًا لمصلحة "عمل جماعي"، تتحول فيه ما يسمونها "المؤسسة السياسية" إلى معمل بليد لإنتاج الكاسات ذات المقاس الواحد واللون الواحد. في الحقيقة، لا يعني العمل الجماعي المؤسّسي قتل الأفراد ومواهبهم وتميزهم، بل يعني إيجاد أنماط وآليات من العمل، تبني علاقة صحية بين الفرد والجماعة، وتعطي الفرصة للأفراد المتميزين للقيام بدورهم من خلال القانون الذي تضعه الجماعة بآليات ديمقراطية.
كثيرٌ من العجزة وفاقدي الموهبة ينادون بالعمل الجماعي والمؤسسي زورًا وبهتانًا للتغطية على عجزهم، فالمعنى العميق المستتر في ذواتهم هو أنهم مهما فعلوا، ومهما بذلوا جهدًا، فإنهم، كأفراد، لن يصلوا إلى قامة فلان في الفكر أو الثقافة أو السياسة أو العلاقات والمواهب الشخصية، وبالتالي، أفضل طريقة تلائمهم تكمن في تقصير قامات الأفراد المتميزين، بالقدر الذي لا يسمح لهم بتجاوز قامات الأفراد العاجزين في الجماعة.
أيهما أفضل، وجود زعيم محكوم بمؤسسة سياسية وبقوانينها، وبإمكاننا تغييره ديمقراطيًا، أم وجود شخصيات عديدة قدمت نفسها دفعة واحدة، كزعامات للثورة والمعارضة في تنافس سلبي وساذج، الأمر الذي أدى إلى تشويش السوريين بينها وفقدان حالة "المركز الواحد" الضروري في مثل هذه المرحلة؟ لقد كانت معظم الشخصيات المعارضة مبدعة في إفشال بعضها بعضًا، ولم تدرك أنها عندما تُفشل "قائدها" المؤقت، فإنها ستفشل جميعها في الحصيلة. السنوات الأربع الماضية تدلل على أن هذه الطريقة لم تنتج إلا الفوضى، وحرق الجميع للجميع من دون استثناء. لا مراء أن البشر يحتاجون في اللحظات الحاسمة من تاريخهم إلى قادة وزعماء، وهذا صحيح في الشرق والغرب، مع فارق أن زعماء الشرق كانوا فوق القانون والمحاسبة، ويسعون إلى البقاء إلى الأبد، بينما زعماء الغرب يخضعون للقانون والمحاسبة والآليات الديمقراطية في تداول السلطة.
تقدمت، في سياق الثورة، شخصيات طموحة نحو القيادة، بعضها من الرعيل السياسي القديم، وبعضها الآخر جديد لا علم له بالسياسة وشؤونها، لكنها جميعها، كما ظهر، لا تملك حدًا أدنى من المقومات الضرورية، وقد اجتمعت فيها صفاتٌ جعلت منها عقبة حقيقية أمام بلورة بديل ممكن: الضحالة الثقافية، الخفة السياسية و"النطْوَطة" المستمرة، الجهل السياسي، الافتتان بالظهور الإعلامي، الغرور والفردية السلبية، حالة من عدم الثقة بالذات، تجلت بمسايرة المزاج العام من جهة، والتعاطي الساذج مع السفراء والوزراء، بالاستناد إلى منطق التسوّل، من جهة أخرى.. إلخ. يضاف إلى ذلك عدم إدراك أن الزعامة تحتاج إلى عنصرين متلازمين، توافر القدرات والمواهب الشخصية، ووجود فريق عمل مساعد للزعيم أو القائد المرحلي، يعمل على تنبيهه وتطوير أدائه في النواحي كافة، الشكلية منها والجوهرية.
أذكر كيف قدمت المعارضة نفسها في أول إطلالة لها على العالم والشعب السوري، فقد كانت الصورة مثيرة للشفقة، عندما تم الإعلان عن تشكيل ما عرف بـ"المجلس الوطني السوري" في 2 أكتوبر/تشرين أول 2011. كانت خلفية الصورة الأولى للمعارضة بالية، وهي أقرب إلى عمل الهواة، وانعكاسها كان سلبيًا في أذهان السوريين، وتلقتها الدول بسخرية. فقد كان الجميع في هرج ومرج، وبعضهم يسير ويتحرك في أثناء المؤتمر الصحافي، وأشخاص يقفون خلف رئيس المجلس وهو يلقي خطبته، الكل موجودون على المنصة، وخطبة غير مدققة، وتحضير ساذج للرد على أسئلة بديهية متوقعة من الصحافيين.
عندما رأيت تلك الصورة، رئيس المجلس وحوله رهط كبير من المتزاحمين على الظهور في الصورة، قلت لكثيرين منهم إن السوريين لن يحترموا هذا الظهور، ولن يكون له أثر في قلوبهم وعقولهم. واحدة من النقاط المهمة في علم النفس، هي معرفة كيفية إظهار القائد بصورة تجعل من الحب والاحترام في آن معًا عنصريّ الرسالة الأساسية، المراد إيصالها إلى الجمهور. واحدة من عناصر الرزانة والهيبة المهمة تتمثل بأن نترك "الزعيم" المفترض ليظهر وحده في الصورة، لكن، على ما يبدو، كان السادة أعضاء المكتب التنفيذي مصرِّين، آنذاك، على الظهور في الصورة، والتحدث إلى الجمهور، وعلى تذوق شيء من برميل العسل الإعلامي! ولا غرابة في ما بعد أن تصرّ قبيلة المعارضة كلها على المشاركة في أي وفد مخصص لزيارة الدول، أو أن يلهث كثيرون وراء الظهور الإعلامي، حتى لو كانوا ممن لم يقرأوا صفحة واحدة طوال حياتهم.
في المقابل، كانت جهة أخرى في المعارضة مصرّةً على أن تصدّر ديناصورات أو مستحاثات "قومية" و"يسارية" لزعامة المعارضة والثورة، منطلقةً من الأرضية الثقافية والسياسية ذاتها، تقريبًا، التي ظل النظام يصدح بها طوال نصف قرن، ويتعاطى معها السوريون بالاشمئزاز أو السخرية. قدمت هذه الجهة نفسها بخطابٍ باهتٍ وطموحٍ متدنٍ، يصلحان فحسب أن يدفنا في الماضي، وليس في بلدٍ اكتسحته ثورة عارمة هزت جميع أركانه، وفي ظل نظام لم يترك فنًا من فنون الإجرام لم يرتكبه. كان الهاجس الرئيس لهذا الطرف المعارض إثبات نفسه فحسب في مواجهة أطراف معارضة أخرى، والغريب أنه قدم نفسه للقيادة، مع أنه لا يزال حتى اليوم يتعامل في العمق مع النظام الحاكم بوصفه شرعيًا، وبحالة من عدم الاكتراث بآلام الناس. وخلافاتٌ كثيرة وصلت إلينا، خصوصاً في أشهر الثورة الأولى، على أنها خلافات سياسية، كانت في جوهرها وحقيقتها خلافات شخصية قديمة، أو خلافات على الزعامة، لا أكثر ولا أقل، وكان ذلك واضحًا وصريحًا في كواليس المعارضة.
اليوم يذهب رئيس ويأتي آخر، يذهب أمين عام ويأتي غيره، فيما السوريون لا يكترثون. والجميع يعلم أن ثمة آليات غير نزيهة وغير موضوعية سائدة وراء الوصول إلى هذه المواقع. كذلك، لا يخفى أن التوازنات الهشة والسطحية في داخل التراكيب السياسية كلها للمعارضة قد جعلت منصب الرئيس، أي رئيس، تافهًا وبلا أي قيمة، فهي ترغمه على تمضية نصف وقته في التواصل مع كتل سياسية هشة ومريضة وخلبية، لمعرفة رضاها عنه، وليصبح هاجسه الرئيس ممارسة سياسة الإرضاء أو المجاملة أو الشراء.
ما أحوج السوريين، اليوم، إلى زعامات أخرى، تحمل مشروعًا وطنيًا ديمقراطيًا حديثًا، واثقة بالنفس ومتواضعة في الآن نفسه، تستمع إلى النصيحة، ذات صدقية، نزيهة، تملك فهمًا واسعًا في السياسة والعلاقات الدولية، وثقافة حديثة تمنحها العمق والصبر اللازمين، ولديها معرفة كبيرة بالمجتمع السوري والنظام الحاكم، وحولها فريق عمل مخلص وخبير في حقول شتى، يرعى هذه الزعامة ويعلمها ويساعدها، ويقيها من شرور نفسها.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/opinion/c990d52c-f50c-4d00-a762-4a1440e11db1#sthash.1wqF6XvE.dpufفي الأشهر الأولى للثورة، لم يعجب أحدًا التحذير الذي تلخصه مقولة "ثورة بلا رأس ستتحول تدريجيًا إلى ثورة بألف رأس". بالطبع، كانت الأمية السياسية، ولا تزال، هي المهيمنة، إذ سيقت، في هذا الإطار، حجج ومبررات تنتمي إلى "القرباطية"، وليس إلى الديمقراطية. هنا جاء مثلًا اعتماد آلية تبديل رئيس المجلس الوطني كل ثلاثة أشهر، بما يوحي وكأننا في إطار لعبة يديرها أطفال، وليس في إطار العمل السياسي.
واحدة من تلك المبررات الساذجة مفادها أن الثورة قامت ضد حكم الفرد المستبد، وعلينا ألا نكرر هذه المأساة. هذا صحيح من حيث الجوهر، لكن من قال إن التخلص من الاستبداد الفردي يعني قتل الأفراد وإنكار التمايزات والمساواة بينهم، وكأنهم متماثلون في قدراتهم وذكائهم ومواهبهم! تمامًا كما أن الثورة ضد العلاقات الأبوية الاستبدادية في الأسرة لا تعني قتل الآباء والتنكر لعلاقة الأبوة ذاتها.
كثيرٌ من العجزة وفاقدي الموهبة ينادون بالعمل الجماعي والمؤسسي زورًا وبهتانًا للتغطية على عجزهم، فالمعنى العميق المستتر في ذواتهم هو أنهم مهما فعلوا، ومهما بذلوا جهدًا، فإنهم، كأفراد، لن يصلوا إلى قامة فلان في الفكر أو الثقافة أو السياسة أو العلاقات والمواهب الشخصية، وبالتالي، أفضل طريقة تلائمهم تكمن في تقصير قامات الأفراد المتميزين، بالقدر الذي لا يسمح لهم بتجاوز قامات الأفراد العاجزين في الجماعة.
أيهما أفضل، وجود زعيم محكوم بمؤسسة سياسية وبقوانينها، وبإمكاننا تغييره ديمقراطيًا، أم وجود شخصيات عديدة قدمت نفسها دفعة واحدة، كزعامات للثورة والمعارضة في تنافس سلبي وساذج، الأمر الذي أدى إلى تشويش السوريين بينها وفقدان حالة "المركز الواحد" الضروري في مثل هذه المرحلة؟ لقد كانت معظم الشخصيات المعارضة مبدعة في إفشال بعضها بعضًا، ولم تدرك أنها عندما تُفشل "قائدها" المؤقت، فإنها ستفشل جميعها في الحصيلة. السنوات الأربع الماضية تدلل على أن هذه الطريقة لم تنتج إلا الفوضى، وحرق الجميع للجميع من دون استثناء. لا مراء أن البشر يحتاجون في اللحظات الحاسمة من تاريخهم إلى قادة وزعماء، وهذا صحيح في الشرق والغرب، مع فارق أن زعماء الشرق كانوا فوق القانون والمحاسبة، ويسعون إلى البقاء إلى الأبد، بينما زعماء الغرب يخضعون للقانون والمحاسبة والآليات الديمقراطية في تداول السلطة.
تقدمت، في سياق الثورة، شخصيات طموحة نحو القيادة، بعضها من الرعيل السياسي القديم، وبعضها الآخر جديد لا علم له بالسياسة وشؤونها، لكنها جميعها، كما ظهر، لا تملك حدًا أدنى من المقومات الضرورية، وقد اجتمعت فيها صفاتٌ جعلت منها عقبة حقيقية أمام بلورة بديل ممكن: الضحالة الثقافية، الخفة السياسية و"النطْوَطة" المستمرة، الجهل السياسي، الافتتان بالظهور الإعلامي، الغرور والفردية السلبية، حالة من عدم الثقة بالذات، تجلت بمسايرة المزاج العام من جهة، والتعاطي الساذج مع السفراء والوزراء، بالاستناد إلى منطق التسوّل، من جهة أخرى.. إلخ. يضاف إلى ذلك عدم إدراك أن الزعامة تحتاج إلى عنصرين متلازمين، توافر القدرات والمواهب الشخصية، ووجود فريق عمل مساعد للزعيم أو القائد المرحلي، يعمل على تنبيهه وتطوير أدائه في النواحي كافة، الشكلية منها والجوهرية.
أذكر كيف قدمت المعارضة نفسها في أول إطلالة لها على العالم والشعب السوري، فقد كانت الصورة مثيرة للشفقة، عندما تم الإعلان عن تشكيل ما عرف بـ"المجلس الوطني السوري" في 2 أكتوبر/تشرين أول 2011. كانت خلفية الصورة الأولى للمعارضة بالية، وهي أقرب إلى عمل الهواة، وانعكاسها كان سلبيًا في أذهان السوريين، وتلقتها الدول بسخرية. فقد كان الجميع في هرج ومرج، وبعضهم يسير ويتحرك في أثناء المؤتمر الصحافي، وأشخاص يقفون خلف رئيس المجلس وهو يلقي خطبته، الكل موجودون على المنصة، وخطبة غير مدققة، وتحضير ساذج للرد على أسئلة بديهية متوقعة من الصحافيين.
في المقابل، كانت جهة أخرى في المعارضة مصرّةً على أن تصدّر ديناصورات أو مستحاثات "قومية" و"يسارية" لزعامة المعارضة والثورة، منطلقةً من الأرضية الثقافية والسياسية ذاتها، تقريبًا، التي ظل النظام يصدح بها طوال نصف قرن، ويتعاطى معها السوريون بالاشمئزاز أو السخرية. قدمت هذه الجهة نفسها بخطابٍ باهتٍ وطموحٍ متدنٍ، يصلحان فحسب أن يدفنا في الماضي، وليس في بلدٍ اكتسحته ثورة عارمة هزت جميع أركانه، وفي ظل نظام لم يترك فنًا من فنون الإجرام لم يرتكبه. كان الهاجس الرئيس لهذا الطرف المعارض إثبات نفسه فحسب في مواجهة أطراف معارضة أخرى، والغريب أنه قدم نفسه للقيادة، مع أنه لا يزال حتى اليوم يتعامل في العمق مع النظام الحاكم بوصفه شرعيًا، وبحالة من عدم الاكتراث بآلام الناس. وخلافاتٌ كثيرة وصلت إلينا، خصوصاً في أشهر الثورة الأولى، على أنها خلافات سياسية، كانت في جوهرها وحقيقتها خلافات شخصية قديمة، أو خلافات على الزعامة، لا أكثر ولا أقل، وكان ذلك واضحًا وصريحًا في كواليس المعارضة.
اليوم يذهب رئيس ويأتي آخر، يذهب أمين عام ويأتي غيره، فيما السوريون لا يكترثون. والجميع يعلم أن ثمة آليات غير نزيهة وغير موضوعية سائدة وراء الوصول إلى هذه المواقع. كذلك، لا يخفى أن التوازنات الهشة والسطحية في داخل التراكيب السياسية كلها للمعارضة قد جعلت منصب الرئيس، أي رئيس، تافهًا وبلا أي قيمة، فهي ترغمه على تمضية نصف وقته في التواصل مع كتل سياسية هشة ومريضة وخلبية، لمعرفة رضاها عنه، وليصبح هاجسه الرئيس ممارسة سياسة الإرضاء أو المجاملة أو الشراء.
ما أحوج السوريين، اليوم، إلى زعامات أخرى، تحمل مشروعًا وطنيًا ديمقراطيًا حديثًا، واثقة بالنفس ومتواضعة في الآن نفسه، تستمع إلى النصيحة، ذات صدقية، نزيهة، تملك فهمًا واسعًا في السياسة والعلاقات الدولية، وثقافة حديثة تمنحها العمق والصبر اللازمين، ولديها معرفة كبيرة بالمجتمع السوري والنظام الحاكم، وحولها فريق عمل مخلص وخبير في حقول شتى، يرعى هذه الزعامة ويعلمها ويساعدها، ويقيها من شرور نفسها.
في هذا الإطار يمكن فهم الانتقادات الشديدة اللهجة التي وجهها المرشد علي خامنئي الى الولايات المتحدة. ليس بسيطاً عقد «مؤتمر الامن والسلام في العراق» بحضور دولي وعربي واسع ومن دون توجيه دعوة الى طهران. ان تغييب ايران عن لقاء يوفر مظلة دولية لضرب «داعش» في العراق وترميم المشهد السياسي في هذا البلد يشكل دليلاً جديداً على استمرار رفض الاعتراف بأنها «الدولة المهمة» في الاقليم. يشبه تغييب ايران عن مؤتمر باريس سحب الدعوة التي كانت وجهت اليها للمشاركة في مؤتمر»جنيف 2» في سويسرا والذي كان مخصصاً للسعي الى حل سياسي في سورية. استبعاد ايران يعني في الحالين عدم الاعتراف بأنها «الدولة المهمة» ويبطن انطباعاً بأنها «دولة مهمة لكنها جزء من المشكلة وليس من الحل».
كانت ايران في «اوج قوتها» عشية اندلاع «الربيع العربي». كانت صاحبة الكلمة الأولى في بغداد ودمشق وبيروت. أعطت الانطباع انها الوحيدة القادرة على التأثير في الملفين الأهم في المنطقة وهما أمن النفط وامن اسرائيل. افادت من غياب الدور المصري وانتقلت الى محاصرة الدور السعودي عبر اسقاط حكومة سعد الحريري في بيروت ودعم الحوثيين في اليمن وأحداث البحرين.
تعرض النجاح الايراني الواسع لانتكاستين. الأولى حين عجز النظام السوري عن حسم المعركة ضد معارضيه على رغم نجاح طهران في منع سقوطه. الثانية حين فشلت الحكومة الموالية لها في بغداد في منع «داعش» من الاستيلاء على مساحات واسعة من العراق. اصطدم الدور الايراني في الهلال بانتفاضة سنّية في العراق وسورية وكانت لها بعض الاصداء حتى في لبنان.
استجارت السلطة العراقية بأميركا لمواجهة خطر «داعش». اشترط باراك اوباما قيام حكومة جامعة في بغداد. والمقصود اعطاء المكون السني صفة الشريك الفعلي وانهاء سياسات الغلبة والتهميش وانهاء السياسات الكيدية في التعامل مع الاقليم الكردي. وليس سراً ان قيام حكومة من هذا النوع يحرم ايران من صفة اللاعب الوحيد على المسرح العراقي. وبدا واضحاً ان ادارة اوباما ليست في وارد اقتلاع «داعش» لاعادة تقديم العراق هدية الى ايران.
الافتراق في سورية اكثر وضوحاً وخطورة. أكد اوباما استهداف «داعش» ايضاً في سورية لكنه رفض اي تنسيق مع النظام السوري. ذهب ابعد من ذلك بإعلان عزمه على تمويل «الجيش الحر» وتدريبه. وهذا يعني ان أميركا ستحرم النظام السوري من فرصة ذهبية كان يعول عليها لإعادة تأهيله دولياً. اعتبرت واشنطن ان نظام الرئيس بشار الاسد جزء من المشكلة ولا يستطيع ان يكون جزءاً من الحل. لا تنوي ادارة اوباما اقتلاع النظام السوري لكنها تنوي ممارسة الضغوط عليه لإجباره على السير في حل سياسي. وواضح ان اي حل سياسي في سورية سيقلص الدور الايراني فيها وهو أمر لا بد ان يترك بعض الآثار على التوازنات الحالية في لبنان.
اقتلاع «داعش» من العراق وسورية لا يقل عن جراحة جدية ومؤلمة للوضع في دولتين عربيتين اساسيتين. فشل الجراحة يعني استمرار الحروب الأهلية والمواجهات بين المكونات. نجاحها سيؤدي الى قيام هلال مختلف ودور ايراني مختلف. لا بد من الانتظار لمعرفة خيارات ايران. هل تتمسك باسترجاع الهلال كاملاً من قبضة «داعش» والجراح الاميركي وهل هي قادرة على معركة بهذا الحجم ام ستفضل خيارات اقل من الخرائط لتكون صاحبة الكلمة الوحيدة في اقاليم تشبهها؟ ولا بد هنا من الالتفات الى رجل اسمه فلاديمير بوتين دفع اوكرانيا الى التفكك ولم يرف له جفن.
----------
الحياة