يضع نزيه بينه وبين موضوعِه فاصلاً من التّرفّع والتأبّي والاستكبار، استكبار يصل حدّ التضخّم المرضيّ الذي يرفض إلا أن يرى في ملايين العرب المنتفضين على طغاتهم (عبيداً). ويتجاهلُ بكل عنجهية سوداء أن هؤلاء الطغاة تفننوا في ابتكار المعتقلات وأنفاق الموت والصرخ والكرابيج المدمرة وكراسي الإعدام يعاملون بها كل من كان يرفضهم وينتقدهم من (العبيد). ولا أدري ماذا كان ينتظر منهم حتى ينالوا صفة الأحرار؟ يمتلك نزيه جرأة تصل في وقاحتها درجة خطيرةً جدا في إلغاء هذا الجانب، ولا يهمه سوى أن يحافظ على فاصلِ احتقار الشعوب وإغفال عذاباتها الاستثنائية. إن من ينكر ما تعرضت له مجتمعات العالم العربي من أشكال المحو والإقصاء والتصغير والاستبداد والانتهاك، سوف يكون في موقف المدافع عن الطاغية ولا تأويل آخر لهذا. إن من ينطلق في موقفه من النظام السياسي الحاكم، من واقعه الفردي الضيق، يكون عديم الرؤية والرؤيا معاً. ولا سيما إذا كان شاعرا (سميناه مع الأسف شاعر رؤيا). فهو يرى أن النظام السوري ضايقه قليلاً ولكنه لم يخفه. وربما كان على نزيه أن يختفي عن أهله وأقاربه عشرين عاماً في غياهب السجون مع كامل طعوم العذاب والقتل الروحي والجسدي حتى يكون له موقف حقيقي من النظام؟ أية رؤية انتهازية هذه التي تشبه رؤية من يقول إن الموت وصل إلى بيت جاري ولكنّ بيتي بخير فما علاقتي؟ ما علاقة شاعر بعقود من القمع والسلب وخنق الحريات في بلده؟ ما علاقة وعيه بالآخرين وشقائهم ومرضهم وموتهم اليومي وخبزهم الأسود؟ كيف يمكن أن تصل حتى الأحاسيس البدائية لدى الكائن البشري إلى درجة تفصيل موقفه من قضية خطيرة وكبيرة وفق ميوله الخاصة؟ ما علاقته طالما أنه يتمتّع بكرم الضيافة وإغماض عين المخابرات عنه؟ ولماذا أغمضت المخابرات عينها عنه؟ هل شكّل نزيه يوماً موقفاً مناوئا بشكل حقيقي للنظام؟
لا أعرف على الصعيد النقدي كيف يمكن لشاعر أن يحول موضوع الحرية إلى مسألةٍ فرديّةٍ ضيّقةٍ لا تتجاوزُ حدود خطواته أو عتبة بيته؟ ما هي قيمة مشروعه الشعري إذاً؟ هل يدعونا نزيه إلى إعادة تقييم تجربته الشعرية بناء على هذه المعطيات؟ ما هي جدوى الرؤيا الشعرية التي تعجز عن رؤية العلاقة الطبيعية بين الفرد وبين الآخرين؟ أي معنى فلسفي مُجْدٍ للحرية عندما أغمضُ عيني عن تاريخ حافل من ممارسات النظام بحق الآخرين، لمجرّد أن ممارساته تلك لم تصبني شخصيا بأذى؟ كيف أوصل نزيه نفسه إلى هذا المستوى الذي بتنا معه مضطرين لتذكيره بأبسط معاني مهمة الشعر ومفهوم الرؤيا؟ ليس هناك أسوأ من التّماهي الاستعلائي بين الفردية والجماعة لدى الشاعر، بمعنى أنه لا يرى حركة الواقع إلا من خلال حركات يديه ومشاكله الخاصة في بيت الزوجية! ولا يتخذ مثل هذاالموقف إلا شخصٌ أنانيٌّ مُصاب بأنفلونزا إنكار الآخر كليّاً... ليس من باب أنَّ الآخر جحيمٌ (سارتريّ)، بل جحيمٌ يقضّ مضجع الشاعر فرديّا ولا يريد أن يعكّر عليه نومه.
إنّ في ذلك تقزيما للتجربة الشعرية إلى قضية محصورة بالكلمات فقط لا علاقة بين الكلمات والواقع. ويصبح الشعر هنا نشاطاً مصاباً بالفصام، وإلا كيف نفهم علاقة شاعر تلك حالته، بما يكتبه هو نفسه عن الحرية والألم والغربة والعزلة؟ ألا يعني موقفه مما يجري أن كلماته تلك في واد، وموقفه الحقيقي في وادٍ آخر؟ ألا يعني هذا أن موضوع الحرية أصبح إنشاء مجازيا لا رصيد له على أرض الواقع؟
ويتّضح الفصام بين الفكرة والتجربة أكثر ما يتجلى في قول نزيه عن نفسه (أنا علماني يساري ماركسي)... ولا أجد ابتذالا رخيصاً لهذه الكلمات أكثر من الابتذال الذي لوّثها به نزيه في ثنايا حواره. إلا إذا أراد نزيه إقناع نفسه – لأنه لن يقنعنا نحن – بأن العلمانية والماركسية واليسارية، تعني أن يسمي ملايين العرب عبيداً، وأن يتفق مع سعدي يوسف في موقفه من هذه الملايين، التي سماها ذلك الشيوعي الأخير (كما يسمي سعدي نفسه) دجاجاً، وسخر منها ومن إرادتها. كيف يتجاهل شاعر علماني ويساري وماركسي حركة الواقع وجدله وتناقضاته الداخلية؟ ويتجرأ بعدها أن يتقنّع باسم الماركسية؟ ولكن يبدو أن نزيه لا يعرف من الماركسية واليسارية إلا الثورة البلشفيّة الكبرى التي يذكرها في حواره عندما أراد الانتقاص من قيمة الانتفاضات العربية واتهامها بأنها لم تفعل مثل البلاشفة. متناسيا أن من مصائر الثورة البلشفية اغتيال الحريات والكرامات وقمع الإبداع واغتيال الآلاف من الروس... ولكن هنا يكمن مربط الفرس: هو مع ثورةٍ بلشفية ويريد ثورة مثلها تقمع الحريات والديمقراطيات والشخصيات. ويرى فيها نموذجه العلمانيّ اليساريّ الذي يراه كذلك كتحصيل حاصل في ثورات الأحزاب القومية العربية التي ادّعت الرؤية العلمانية للواقع، فكان من نتائج علمانيتها السجون والاغتيالات والنفي والقمع والتركيز على فقه العسكر والسجون بمعزل عن بناء الإنسان الحقيقي. هذا ما يمكن استنتاجه من علمانية نزيه ورفضه للانتفاضات ورؤيته المنهزمة للحرية والديمقراطية. أي ماركسي إذاً يكون منسجما مع ماركسيته ويساريته وهو يسمي الملايين من العرب عبيداً لأنهم انتفضوا ضد المستبدين؟ أي علمانية تلك التي تتيح لأي كان أن يبرر لأي نظام استبدادي موقفه وسلوكه؟ خاصة إذا كان هذا النظام يحوي في بنيته عناصرَ مضادّة لأبسط أشكال العلمانية من حيث يسمح هذا النظام (السوري) للثقافة الأصولية الظلامية باعتلاء المنابر والتأثير في الرأي العام، أو يلجأ إلى رؤساء العشائر والطوائف ليجد لدى بعضها سندا له؟ نظام يجمع رئيس الدولة مع شيخ العشيرة أو الطائفة والمفتي في لحظة واحدة؟ كيف لرؤية كهذه أن تصمد أمام اختبار العلمانية؟ أم أن السيد نزيه يستغبي الآخرين في دجل الادعاء الذي يمارسه كشعار فقط؟ هذه ليست عمالة مباشرة للنظام يا سيد نزيه... ولكنها العمالة الأخطر: عمالة لفكر انتهازي مستبدّ ينطلق ويصبّ في شخص الشاعر ولا يتجاوز فرديته المنضوية على نموذج مصغّر من الديكتاتور... تلك عمالة لا يدفعك النظام إليها، بل تذهب أنت إليها بكامل إرادتك كما ذهب الكثيرون من شعراء وأدباء سوريا. (الذين سوف يصبّون كامل غضبهم عليّ بعد هذه المقالة)...
ما هي الماركسية التي تجمع بين كره الديمقراطية وأمريكا معاً وفي وقت واحد؟ ما هي العقلانية في مثل هذا الموقف؟ ما هو الموقف الناضج الذي يُماهي هكذا بكل غباء بين معنى الديمقراطية ومعنى أمريكا؟ بل ويفاخر نزيه بأنه لم يكتب طول عمره في مديح الديمقراطية!.
أولا إن الشاعر – أي شاعر في العالم – الذي لا يحتفي بالديمقراطية هو ديكتاتور نظاميّ موصوفٌ. (ولا نريد أن نستدعي أمثلة نعرفها شخصيا عن سلوك نزيه اليومي المشبع بحس الديكتاتور). وبما أنه اعترف بكرهه للديمقراطية فلا يحق له رفض وصف الديكتاتور. يعني من فمك أدينك... فما هو النقيض للديمقراطية؟ وكيف يكون صادقا الشاعر الذي كتب (كم من البلاد أيتها الحرية)، حين يكره الديمقراطية؟ أيرى أن الحرية تتحقق في بيئة استبدادية مثلا؟ كيف يكره نصفَ الحقيقة ويقرنها بأمريكا؟
أما هذه الأمريكا التي يعتقد نزيه أن كرهها كافٍ ليكون ذا موقف ماركسي ويساري، فذلك أحطّ أنواع رفع الشعارات المهترئة التي أكل الزمن عليها وشرب. حين كان الجميع يتاجر بكره أمريكا الامبريالية والرأسمالية ليأخذ حق الدخول في خانة اليساريين الشيوعيين. نحن أيضا نكره أمريكا يا سيد نزيه. اكرهْ أمريكا كما تشاء وابنك (كنان) مقيمٌ فيها!!! كم من الشيوعيين كره أمريكا وأرسل أولاده وبناته لأمريكا ليدرسوا فيها ويتعلموا من تخلّفها وجهلها ورأسماليتها... هذا ما أقصده بدجل الشعار: تعادي أمريكا وأمريكا تمنح الحرية لأولاك ولمواهبهم التي ما كانت لتتفتح بشكل أساسي لو بقيت في ظل نظام لم يسبب لك الخوف وتدافع عنه... نحن أيضا نكره أمريكا ولكننا نكرهها بالعقل لا بالدجل والشعار. نكرهها بالعقلانية والموقف النقدي الذي يميز في أمريكا نفسها بين أنواع من التفكير والرؤى والفلسفات. نكره في أمريكا الكثير ونعتقد أن أمريكا نفسها تكره في نفسها تلك الأشياء البشعة التي تحتقر الكائن البشري. نكره أمريكا التي نعرف ما معناها الفكري والفلسفي والاقتصادي والسياسي.
نزيه يريد المزاودة على الآخرين في كره أمريكا التي احتلت العراق وأفغانستان (هل يكرهها لاحتلالها أفغانستان؟ أم يعتبر شعب أفغانستان عبيداً ومتخلّفين وجهلة ووهابيين يستاهلون استبداد أمريكا بهم؟ ألا يدافع أبو عفش عن الاستبداد ويرى المنتفضين ضده عبيدا؟ مجرد استنتاج على شكل تساؤل)... وكأن الآخرين لا حق لهم في رفض أمريكا لهذه الأسباب. ليست ميزة أن تكرهها بهذه الطريقة. بل هي ميزة مطعون في مصداقيتها. لأن ابنه عاش من نعيم أمريكا وحريتها وقوانينها واحترامها لشخصيته المبدعة. إن من يكره أمريكا حكما عليه رفض المستبدين من صدام حسين إلى القذافي وحسني مبارك والأسدين معاً... فهؤلاء مع أمريكا مشروع متكامل. إلا إذا كان نزيه يراهم زعماء مقاومين للمشروع الأمريكي في المنطقة!...
لكن من زاوية أخرى، إن كره الديمقراطية وأمريكا معاً يوحي بأكثر من نقيض. هل يقصد أن أمريكا معادلٌ للديمقراطية؟ أم أنها ليست ديمقراطية ويكرهها مع ذلك؟ بأية حال إن دولةً تحاكم رئيسها علناً بتهمة الكذب على الشعب هي دولة ديمقراطية، وكرهها نوعٌ من المراهقة اليسارية.أما إذا كان يعتبر احتلالها للعراق وأفغانستان وارتكابها المذابح في أنحاء العالم، دليلا على لا ديمقراطيتها فهذا فهمٌ مسطحٌ لأمريكا الدولة المؤسساتية والقانون والحريات واستقلال السلطات عن بعضها. وهذا طبعا يحدث في داخل أمريكا لا خارجها. صحيح أن هذا من عجائب أمريكا، ولكن هذه هي أمريكا. التي لا تقتل متظاهراً أمام البيت الأبيض. ولا تعتقل طفلاً وتقطع قضيبه وتشوه جثته، و لا تذبح متظاهرا من حنجرته لأنه كان يهتف ضد الرئيس الأمريكي. أنا لا أتحدث عن أمريكا الامبريالية خارج حدودها لا عن العراق ولا عن غوانتونامو ولا عن سجن أبو غريب... ولكن ما فعلته أمريكا في السجون الخارجية لا يختلف عما فعلته أنظمة العروبة والقومية والنّضال والممانعة بحق شعوبها. بل ربما كانت سجون أمريكا نسخةً مهذّبة عن سجون صدام والقذّافي والأسدين...
من جهة ثانية، يقول أبو عفش عن المعارضة السورية: (أجل يريدون إصلاحات، وهذا ما كنا نتحدث عنه أربعين عاماً، لكنهم اليوم لا يريدون هذه الإصلاحات، بل إنّهم يعملون جاهدين لعدمِ إنجاحِها وتحقّقها، هم يسعون اليوم لمنع المؤسسة السورية من تحقيق هذه الإصلاحات، وهذه جريمة أخرى، فهم لن يمهلوا النظام السوري للقيام بالإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة، ولا يمكن أن تتحقق عبر النداء على الناس بالميكرفونات، نحن نعرف كيف تبنى الدول، وكيف تتحقق الإصلاحات الاجتماعية والسياسية، الإصلاح لا يتحقق في ست ساعات، ولا في ستة أشهر)
إذا كان هو من المنادين بالإصلاحات أربعين سنة، فلماذا لم تحقق دولته تلك الإصلاحات؟ وكيف يمكن أن نفهم أنها إصلاحات لا تتحقق لا في ستة ساعات ولا في ستة أشهر؟ حسنا، ولا في اربعين سنة تتحقق؟!. ماذا يريد أبو عفش من هذه السفسطة؟ ما هو الوقت الذي تستغرقه الإصلاحات؟ أربعون عاما تراكمت فيها بُنى الفساد والدمار الأخلاقي والدعارة السياسية والحزبية والأمنية ونخر الدود شرايين المجتمع... فماذا ننتظر؟ متى يكون ذلك؟ في اي تقويم أسطوريّ؟ لا يمكن قراءة كلام أبو عفش إلا على أنه نوعٌ من التعجيز والاحتيال على العقول. هو مستكينٌ للنظام الاستبدادي. لا يعجبه أن يستفيق الشعب بعد أربعين عاما لا في ليبيا ولا في سوريا ولا في مصر. يريد فقط أن ينادي بالإصلاحات في مواقفه مستسلما للعبة الشكوى من الواقع ولا يريد أي فعل حقيقي. فكأنه يقول أربعون عاما من الانتظار، فلننتظر أربعين عاما إضافية، لم الاستعجال؟ ربما لو تحققت الإصلاحات (وكم صارت مقيتة هذه الكلمة) فسوف يفقد أبو عفش مبررات تذمره الذهني من عدم تحققها... لا أرى في ذلك إلا مرضا نفسيا حقيقيا. أطالب بالموضوع من أربعين عاماً، ولكن لا أسعى جديا لتحقيقه، وإذا جاءت فرصة تاريخية للبدء بالضغط الحقيقي لإنجاز الموضوع الذي كنت أحلم به فإني أخاف من التغيير وأرتعد منه... بهذه الصورة أنا مريض نفسي أحتاج لعلاج... وفي أهذب الأحوال فذلك خوف ورهابٌ من التغيير. أما أن يقول لنا نزيه (نحن نعرف كيف تبنى الدول) في سياق تبريره لعدم تحقيق إصلاحات، وأنها تأخذ وقتاً، فنقول له فقط إن اليابان الحديثة بنيت خلال سنوات أقل بكثير مما يتوهم ومما يريد أن يمنحه للنظام من وقت وفرص لا نهائية... لذلك نشكّ في أنه يعرف كيف تبنى الدول حقاً.
كما أنه ليس هناك شاعر حقيقي ولا مثقف حقيقي يخشى من التغيير، لأن نزيه ينتقل بعد ذلك للهجوم على المثقف والمثقفين السوريين تحديدا. ويقول: (وهناك المثقفون الذين أخاف منهم، أولئكَ الذين يعتبرون الثقافة مرتبة وصناعة يجب عليكَ دائماً أن تنتبه منهم، وأن لا تدير ظهرك لهم، وإذا ما واجهتهم أوح لهم دوماً أن معك سلاحاً، أياً كان هذا السلاح، سلاح السلاح، أو سلاح وقاحتك وفجورك واحتقارك، أرِهم إياه، وإلا سيظلون مثقفين، يعني سيظلون استبداداً، نعرف ماذا يفعل المثقفون اليوم، كل المثقفين الذين كانوا أُجراء أيام حافظ الأسد وبشار الأسد؛ الآن عندما رأوا السوق مربحة أكثر صاروا يعملون أجراء لدى أعداء بشار الأسد وحافظ الأسد، المثقفون الذين جلسوا على الكراسي العالية في الأيام الماضية هم اليوم موعودون بكراسٍ أخرى، المثقف كائن وسخ، المثقف الذي يعمل في الفنون والكتابة كي يستطيع أن ينفي عنه الوساخة عليه أن لا يقول أنه ينتمي لجنس المثقفين؛ ...الخ)
نقول: إن معظم المثقفين الذين يعنيهم بكلامه (الأجراء) ما زالوا جالسين على كراسيهم الممنوحة لهم من قبل الأسدين الاثنين. وكان هو واحدا من أصحاب هذه الكراسي في وزارة الثقافة. ووزيرة ثقافته الآن نائبة رئيس الجمهورية ومسشارته في الشؤون الثقافية، كذلك كوليت خوري مستشارته، وها هي بثينة شعبان، صاحبة رسالة الدكتوراه حول الشعر والسياسة في شعر (شيلي) الانكليزي تجلس منذ سنوات على كرسي متنقل من منصب إلى منصب. وهؤلاء مثقففو الإعلام السوري ما زالوا على منابرهم وشعراء البعث بشكل أو بآخر ما زالوا يمارسون مواقفهم المعادية للحرية مثلهم مثل نزيه.
أما كثير من المثقفين المضادين للثقافة الحاكمة فهم بين منفيّ ومعتقل سابق لعشرات السنوات، أو هو الآن في جبهة المعارضة. لا نختلف أن بعضا ممن أراد ركوب التيار وهؤلاء معروفون ولا يمكن أن يكونوا حجة لنزيه ليشمل المثقفين المعارضين كلهم في سلة واحدة. تلك رؤية شمولية استبدادية تساوي بين الطالح والصالح لتضرب في النهاية كل ما هو صالح بحجة وجود عدد من الطالحين... أما قوله: المثقف كائن وسخ... فذلك منتهى درجات الصبيانية والمراهقة النزقة في فهم المثقف. وهذا كلامٌ لا يختلف في العمق عن كلام أي رجل مخابرات مدجج بنظراته الحاقدة وهو يحدق في مجموعة مثقفين معتقلين خرجوا في مظاهرة أو وقعوا على بيان. كلام عدوانيّ غير واعٍ ينظر للجميع على أنهم متساوون في القيمة. بهذا المعنى يصبح صابر فلحوط بقيمة إدوارد سعيد في الوساخة. ويصبح خالد العبود بقيمة محمد أركون. ويصبح حسن م يوسف بقيمة صادق جلال العظم... كلهم وسخون بنظر نزيه. حسنا... لماذا انحاز نزيه إلى سلامة كيلة وميشيل كيلو إذاً؟ هل هذان خارج معنى المثقف؟ أم أنهما يمثلان له شيئا على صعيد ما؟ نحن نحترم ونختلف مع الاثنين. ولكن السؤال لماذا لا يعي نزيه أنه يقع في أردأِ أشكال التناقض عندما يَستشهد بهما على أنهما مثقفان جيدان؟ ولكن لايمكن أن نطالبه بحسن النظر والتعبير وهو يرتعد ويخرج الزبد من فمه وهو يوزع الشتائم يمينا ويسارا. لا شك أنه سيرتجل الأفكار ارتجالا ويقع في كل هذه التناقضات المضحكة.
هذا إذا استعدنا معنى الشاعر الحقيقي، الذي لابد أن يكون مثقفا لتكون تجربته غنية ومقنعة وذات معنى وجدوى وقدرة على التأثير والبقاء. هل نزيه شاعر مثقف؟ فإذا كان مثقفا هل هو مثقف وسخ؟ وإذا كان محمود درويش مثقفا – ولا أحد يمكنه إنكار ذلك – فهل هو مثقف وسخ؟ بل إذا كان سعدي يوسف – نموذجه المفضَّل – مثقفا، فهل هو مثقف وسخ؟
الوساخة تكمن في المواقف المعادية للحرية والديمقراطية والشعوب. مهما كان صاحبها. لهذا على نزيه أن ينتقي كلماته على الأقل كشاعر يجب أن يعرف كيف يدير العلاقات بين الكلمات. على الأقل أيضا حتى لا يقع هو في التهمة نفسها وحتى لا يقع (أصدقاؤه الشيوعيون الأخيرون) في التهمة نفسها.
لقد اختار نزيه أن يدافع عن سعدي يوسف – وله ما يشاء من حرية الدفاع عمن يريد – لأن سعدي يتطابق معه في احتقار انتفاضات الشعوب من جهة، ولأنه شيوعي مظلوم من جهة ثانية. نزيه الذي كان يعمل في دار المدى تحت إشراف فخري كريم الشيوعي الذي سرق ملايين الدولارات من الحزب الشيوعي العراقي لم يكن يفطن إلى أنه يعمل مع مثقف وسخ. وعندما يريد إعطاء نظام مضى على بنيته الفاسدة الرثة خمسون عاماً مزيدا من الوقت ليصلح ويغير، لم يكن ينتبه إلى أنه يقوم بدور محامي الشيطان، وما كان محامي الشيطان يوما إلا وسخاً، بل تفوح النتانة من مسام جلده على بعد سنة...
أخيراً...
لا يعتقدْ نزيه أن كلامنا هنا هو تبرئة لجهة ضدّ جهة. ولا نطقا بلسان أحد، فلا أحد أقف خلفه ولا أمامه لأنطق باسمه. وأنا أعرف جيدا مستويات المثقفين المعارضين وجدوى بعضهم من لاجدوى البعض الآخر. ولا يحسبْ نزيه كذلك أنني أخون صداقته ومشاعر الألفة التي كانت بيننا في مواقف كثيرة، لأن الأمر بالنسبة لي لا يتصل بعلاقة شخصية بين شاعرين. لقد فرّطتُ بالكثير من علاقاتي الشخصية والأدبية منذ انتفاضة السوريين في 15 آذار 2011 وليعتبر نفسه من جملة من فرطت بعلاقتي معهم، لأن علاقتي مع موقفي الرافض للاستبداد والقمع والقتل الرسمي الممنهج، هي علاقة أضعها بالدرجة الأولى وبعدها تأتي الحسابات الأخرى... لن أكون صديقا لشاعر ولا كاتب يقف ضد الشعوب مهما كانت مبرراته، ولا صديقا لشاعر يرى فينا عبيدا، لأني من جملة من ثار على هذا النظام وأنا كلي شعور بالحرية المطلقة، تاركا حرير العبودية لمن أمضى عشرات العقود وهو يريد التغيير وينتظره، وحين جاءه خاف منه واحتمى بانتماءات ما قبل المجتمع المدني والحضاري. (انتماءات) أقل ما يقال عنها إنها نابعة من فهم ضيق للوطن... وفهمُك يا نزيه – إن كنت تريد الفهم – كفاية...
--------------------
خاص ألف
لا أعرف على الصعيد النقدي كيف يمكن لشاعر أن يحول موضوع الحرية إلى مسألةٍ فرديّةٍ ضيّقةٍ لا تتجاوزُ حدود خطواته أو عتبة بيته؟ ما هي قيمة مشروعه الشعري إذاً؟ هل يدعونا نزيه إلى إعادة تقييم تجربته الشعرية بناء على هذه المعطيات؟ ما هي جدوى الرؤيا الشعرية التي تعجز عن رؤية العلاقة الطبيعية بين الفرد وبين الآخرين؟ أي معنى فلسفي مُجْدٍ للحرية عندما أغمضُ عيني عن تاريخ حافل من ممارسات النظام بحق الآخرين، لمجرّد أن ممارساته تلك لم تصبني شخصيا بأذى؟ كيف أوصل نزيه نفسه إلى هذا المستوى الذي بتنا معه مضطرين لتذكيره بأبسط معاني مهمة الشعر ومفهوم الرؤيا؟ ليس هناك أسوأ من التّماهي الاستعلائي بين الفردية والجماعة لدى الشاعر، بمعنى أنه لا يرى حركة الواقع إلا من خلال حركات يديه ومشاكله الخاصة في بيت الزوجية! ولا يتخذ مثل هذاالموقف إلا شخصٌ أنانيٌّ مُصاب بأنفلونزا إنكار الآخر كليّاً... ليس من باب أنَّ الآخر جحيمٌ (سارتريّ)، بل جحيمٌ يقضّ مضجع الشاعر فرديّا ولا يريد أن يعكّر عليه نومه.
إنّ في ذلك تقزيما للتجربة الشعرية إلى قضية محصورة بالكلمات فقط لا علاقة بين الكلمات والواقع. ويصبح الشعر هنا نشاطاً مصاباً بالفصام، وإلا كيف نفهم علاقة شاعر تلك حالته، بما يكتبه هو نفسه عن الحرية والألم والغربة والعزلة؟ ألا يعني موقفه مما يجري أن كلماته تلك في واد، وموقفه الحقيقي في وادٍ آخر؟ ألا يعني هذا أن موضوع الحرية أصبح إنشاء مجازيا لا رصيد له على أرض الواقع؟
ويتّضح الفصام بين الفكرة والتجربة أكثر ما يتجلى في قول نزيه عن نفسه (أنا علماني يساري ماركسي)... ولا أجد ابتذالا رخيصاً لهذه الكلمات أكثر من الابتذال الذي لوّثها به نزيه في ثنايا حواره. إلا إذا أراد نزيه إقناع نفسه – لأنه لن يقنعنا نحن – بأن العلمانية والماركسية واليسارية، تعني أن يسمي ملايين العرب عبيداً، وأن يتفق مع سعدي يوسف في موقفه من هذه الملايين، التي سماها ذلك الشيوعي الأخير (كما يسمي سعدي نفسه) دجاجاً، وسخر منها ومن إرادتها. كيف يتجاهل شاعر علماني ويساري وماركسي حركة الواقع وجدله وتناقضاته الداخلية؟ ويتجرأ بعدها أن يتقنّع باسم الماركسية؟ ولكن يبدو أن نزيه لا يعرف من الماركسية واليسارية إلا الثورة البلشفيّة الكبرى التي يذكرها في حواره عندما أراد الانتقاص من قيمة الانتفاضات العربية واتهامها بأنها لم تفعل مثل البلاشفة. متناسيا أن من مصائر الثورة البلشفية اغتيال الحريات والكرامات وقمع الإبداع واغتيال الآلاف من الروس... ولكن هنا يكمن مربط الفرس: هو مع ثورةٍ بلشفية ويريد ثورة مثلها تقمع الحريات والديمقراطيات والشخصيات. ويرى فيها نموذجه العلمانيّ اليساريّ الذي يراه كذلك كتحصيل حاصل في ثورات الأحزاب القومية العربية التي ادّعت الرؤية العلمانية للواقع، فكان من نتائج علمانيتها السجون والاغتيالات والنفي والقمع والتركيز على فقه العسكر والسجون بمعزل عن بناء الإنسان الحقيقي. هذا ما يمكن استنتاجه من علمانية نزيه ورفضه للانتفاضات ورؤيته المنهزمة للحرية والديمقراطية. أي ماركسي إذاً يكون منسجما مع ماركسيته ويساريته وهو يسمي الملايين من العرب عبيداً لأنهم انتفضوا ضد المستبدين؟ أي علمانية تلك التي تتيح لأي كان أن يبرر لأي نظام استبدادي موقفه وسلوكه؟ خاصة إذا كان هذا النظام يحوي في بنيته عناصرَ مضادّة لأبسط أشكال العلمانية من حيث يسمح هذا النظام (السوري) للثقافة الأصولية الظلامية باعتلاء المنابر والتأثير في الرأي العام، أو يلجأ إلى رؤساء العشائر والطوائف ليجد لدى بعضها سندا له؟ نظام يجمع رئيس الدولة مع شيخ العشيرة أو الطائفة والمفتي في لحظة واحدة؟ كيف لرؤية كهذه أن تصمد أمام اختبار العلمانية؟ أم أن السيد نزيه يستغبي الآخرين في دجل الادعاء الذي يمارسه كشعار فقط؟ هذه ليست عمالة مباشرة للنظام يا سيد نزيه... ولكنها العمالة الأخطر: عمالة لفكر انتهازي مستبدّ ينطلق ويصبّ في شخص الشاعر ولا يتجاوز فرديته المنضوية على نموذج مصغّر من الديكتاتور... تلك عمالة لا يدفعك النظام إليها، بل تذهب أنت إليها بكامل إرادتك كما ذهب الكثيرون من شعراء وأدباء سوريا. (الذين سوف يصبّون كامل غضبهم عليّ بعد هذه المقالة)...
ما هي الماركسية التي تجمع بين كره الديمقراطية وأمريكا معاً وفي وقت واحد؟ ما هي العقلانية في مثل هذا الموقف؟ ما هو الموقف الناضج الذي يُماهي هكذا بكل غباء بين معنى الديمقراطية ومعنى أمريكا؟ بل ويفاخر نزيه بأنه لم يكتب طول عمره في مديح الديمقراطية!.
أولا إن الشاعر – أي شاعر في العالم – الذي لا يحتفي بالديمقراطية هو ديكتاتور نظاميّ موصوفٌ. (ولا نريد أن نستدعي أمثلة نعرفها شخصيا عن سلوك نزيه اليومي المشبع بحس الديكتاتور). وبما أنه اعترف بكرهه للديمقراطية فلا يحق له رفض وصف الديكتاتور. يعني من فمك أدينك... فما هو النقيض للديمقراطية؟ وكيف يكون صادقا الشاعر الذي كتب (كم من البلاد أيتها الحرية)، حين يكره الديمقراطية؟ أيرى أن الحرية تتحقق في بيئة استبدادية مثلا؟ كيف يكره نصفَ الحقيقة ويقرنها بأمريكا؟
أما هذه الأمريكا التي يعتقد نزيه أن كرهها كافٍ ليكون ذا موقف ماركسي ويساري، فذلك أحطّ أنواع رفع الشعارات المهترئة التي أكل الزمن عليها وشرب. حين كان الجميع يتاجر بكره أمريكا الامبريالية والرأسمالية ليأخذ حق الدخول في خانة اليساريين الشيوعيين. نحن أيضا نكره أمريكا يا سيد نزيه. اكرهْ أمريكا كما تشاء وابنك (كنان) مقيمٌ فيها!!! كم من الشيوعيين كره أمريكا وأرسل أولاده وبناته لأمريكا ليدرسوا فيها ويتعلموا من تخلّفها وجهلها ورأسماليتها... هذا ما أقصده بدجل الشعار: تعادي أمريكا وأمريكا تمنح الحرية لأولاك ولمواهبهم التي ما كانت لتتفتح بشكل أساسي لو بقيت في ظل نظام لم يسبب لك الخوف وتدافع عنه... نحن أيضا نكره أمريكا ولكننا نكرهها بالعقل لا بالدجل والشعار. نكرهها بالعقلانية والموقف النقدي الذي يميز في أمريكا نفسها بين أنواع من التفكير والرؤى والفلسفات. نكره في أمريكا الكثير ونعتقد أن أمريكا نفسها تكره في نفسها تلك الأشياء البشعة التي تحتقر الكائن البشري. نكره أمريكا التي نعرف ما معناها الفكري والفلسفي والاقتصادي والسياسي.
نزيه يريد المزاودة على الآخرين في كره أمريكا التي احتلت العراق وأفغانستان (هل يكرهها لاحتلالها أفغانستان؟ أم يعتبر شعب أفغانستان عبيداً ومتخلّفين وجهلة ووهابيين يستاهلون استبداد أمريكا بهم؟ ألا يدافع أبو عفش عن الاستبداد ويرى المنتفضين ضده عبيدا؟ مجرد استنتاج على شكل تساؤل)... وكأن الآخرين لا حق لهم في رفض أمريكا لهذه الأسباب. ليست ميزة أن تكرهها بهذه الطريقة. بل هي ميزة مطعون في مصداقيتها. لأن ابنه عاش من نعيم أمريكا وحريتها وقوانينها واحترامها لشخصيته المبدعة. إن من يكره أمريكا حكما عليه رفض المستبدين من صدام حسين إلى القذافي وحسني مبارك والأسدين معاً... فهؤلاء مع أمريكا مشروع متكامل. إلا إذا كان نزيه يراهم زعماء مقاومين للمشروع الأمريكي في المنطقة!...
لكن من زاوية أخرى، إن كره الديمقراطية وأمريكا معاً يوحي بأكثر من نقيض. هل يقصد أن أمريكا معادلٌ للديمقراطية؟ أم أنها ليست ديمقراطية ويكرهها مع ذلك؟ بأية حال إن دولةً تحاكم رئيسها علناً بتهمة الكذب على الشعب هي دولة ديمقراطية، وكرهها نوعٌ من المراهقة اليسارية.أما إذا كان يعتبر احتلالها للعراق وأفغانستان وارتكابها المذابح في أنحاء العالم، دليلا على لا ديمقراطيتها فهذا فهمٌ مسطحٌ لأمريكا الدولة المؤسساتية والقانون والحريات واستقلال السلطات عن بعضها. وهذا طبعا يحدث في داخل أمريكا لا خارجها. صحيح أن هذا من عجائب أمريكا، ولكن هذه هي أمريكا. التي لا تقتل متظاهراً أمام البيت الأبيض. ولا تعتقل طفلاً وتقطع قضيبه وتشوه جثته، و لا تذبح متظاهرا من حنجرته لأنه كان يهتف ضد الرئيس الأمريكي. أنا لا أتحدث عن أمريكا الامبريالية خارج حدودها لا عن العراق ولا عن غوانتونامو ولا عن سجن أبو غريب... ولكن ما فعلته أمريكا في السجون الخارجية لا يختلف عما فعلته أنظمة العروبة والقومية والنّضال والممانعة بحق شعوبها. بل ربما كانت سجون أمريكا نسخةً مهذّبة عن سجون صدام والقذّافي والأسدين...
من جهة ثانية، يقول أبو عفش عن المعارضة السورية: (أجل يريدون إصلاحات، وهذا ما كنا نتحدث عنه أربعين عاماً، لكنهم اليوم لا يريدون هذه الإصلاحات، بل إنّهم يعملون جاهدين لعدمِ إنجاحِها وتحقّقها، هم يسعون اليوم لمنع المؤسسة السورية من تحقيق هذه الإصلاحات، وهذه جريمة أخرى، فهم لن يمهلوا النظام السوري للقيام بالإصلاحات، فهذه لا تكون في يوم وليلة، ولا يمكن أن تتحقق عبر النداء على الناس بالميكرفونات، نحن نعرف كيف تبنى الدول، وكيف تتحقق الإصلاحات الاجتماعية والسياسية، الإصلاح لا يتحقق في ست ساعات، ولا في ستة أشهر)
إذا كان هو من المنادين بالإصلاحات أربعين سنة، فلماذا لم تحقق دولته تلك الإصلاحات؟ وكيف يمكن أن نفهم أنها إصلاحات لا تتحقق لا في ستة ساعات ولا في ستة أشهر؟ حسنا، ولا في اربعين سنة تتحقق؟!. ماذا يريد أبو عفش من هذه السفسطة؟ ما هو الوقت الذي تستغرقه الإصلاحات؟ أربعون عاما تراكمت فيها بُنى الفساد والدمار الأخلاقي والدعارة السياسية والحزبية والأمنية ونخر الدود شرايين المجتمع... فماذا ننتظر؟ متى يكون ذلك؟ في اي تقويم أسطوريّ؟ لا يمكن قراءة كلام أبو عفش إلا على أنه نوعٌ من التعجيز والاحتيال على العقول. هو مستكينٌ للنظام الاستبدادي. لا يعجبه أن يستفيق الشعب بعد أربعين عاما لا في ليبيا ولا في سوريا ولا في مصر. يريد فقط أن ينادي بالإصلاحات في مواقفه مستسلما للعبة الشكوى من الواقع ولا يريد أي فعل حقيقي. فكأنه يقول أربعون عاما من الانتظار، فلننتظر أربعين عاما إضافية، لم الاستعجال؟ ربما لو تحققت الإصلاحات (وكم صارت مقيتة هذه الكلمة) فسوف يفقد أبو عفش مبررات تذمره الذهني من عدم تحققها... لا أرى في ذلك إلا مرضا نفسيا حقيقيا. أطالب بالموضوع من أربعين عاماً، ولكن لا أسعى جديا لتحقيقه، وإذا جاءت فرصة تاريخية للبدء بالضغط الحقيقي لإنجاز الموضوع الذي كنت أحلم به فإني أخاف من التغيير وأرتعد منه... بهذه الصورة أنا مريض نفسي أحتاج لعلاج... وفي أهذب الأحوال فذلك خوف ورهابٌ من التغيير. أما أن يقول لنا نزيه (نحن نعرف كيف تبنى الدول) في سياق تبريره لعدم تحقيق إصلاحات، وأنها تأخذ وقتاً، فنقول له فقط إن اليابان الحديثة بنيت خلال سنوات أقل بكثير مما يتوهم ومما يريد أن يمنحه للنظام من وقت وفرص لا نهائية... لذلك نشكّ في أنه يعرف كيف تبنى الدول حقاً.
كما أنه ليس هناك شاعر حقيقي ولا مثقف حقيقي يخشى من التغيير، لأن نزيه ينتقل بعد ذلك للهجوم على المثقف والمثقفين السوريين تحديدا. ويقول: (وهناك المثقفون الذين أخاف منهم، أولئكَ الذين يعتبرون الثقافة مرتبة وصناعة يجب عليكَ دائماً أن تنتبه منهم، وأن لا تدير ظهرك لهم، وإذا ما واجهتهم أوح لهم دوماً أن معك سلاحاً، أياً كان هذا السلاح، سلاح السلاح، أو سلاح وقاحتك وفجورك واحتقارك، أرِهم إياه، وإلا سيظلون مثقفين، يعني سيظلون استبداداً، نعرف ماذا يفعل المثقفون اليوم، كل المثقفين الذين كانوا أُجراء أيام حافظ الأسد وبشار الأسد؛ الآن عندما رأوا السوق مربحة أكثر صاروا يعملون أجراء لدى أعداء بشار الأسد وحافظ الأسد، المثقفون الذين جلسوا على الكراسي العالية في الأيام الماضية هم اليوم موعودون بكراسٍ أخرى، المثقف كائن وسخ، المثقف الذي يعمل في الفنون والكتابة كي يستطيع أن ينفي عنه الوساخة عليه أن لا يقول أنه ينتمي لجنس المثقفين؛ ...الخ)
نقول: إن معظم المثقفين الذين يعنيهم بكلامه (الأجراء) ما زالوا جالسين على كراسيهم الممنوحة لهم من قبل الأسدين الاثنين. وكان هو واحدا من أصحاب هذه الكراسي في وزارة الثقافة. ووزيرة ثقافته الآن نائبة رئيس الجمهورية ومسشارته في الشؤون الثقافية، كذلك كوليت خوري مستشارته، وها هي بثينة شعبان، صاحبة رسالة الدكتوراه حول الشعر والسياسة في شعر (شيلي) الانكليزي تجلس منذ سنوات على كرسي متنقل من منصب إلى منصب. وهؤلاء مثقففو الإعلام السوري ما زالوا على منابرهم وشعراء البعث بشكل أو بآخر ما زالوا يمارسون مواقفهم المعادية للحرية مثلهم مثل نزيه.
أما كثير من المثقفين المضادين للثقافة الحاكمة فهم بين منفيّ ومعتقل سابق لعشرات السنوات، أو هو الآن في جبهة المعارضة. لا نختلف أن بعضا ممن أراد ركوب التيار وهؤلاء معروفون ولا يمكن أن يكونوا حجة لنزيه ليشمل المثقفين المعارضين كلهم في سلة واحدة. تلك رؤية شمولية استبدادية تساوي بين الطالح والصالح لتضرب في النهاية كل ما هو صالح بحجة وجود عدد من الطالحين... أما قوله: المثقف كائن وسخ... فذلك منتهى درجات الصبيانية والمراهقة النزقة في فهم المثقف. وهذا كلامٌ لا يختلف في العمق عن كلام أي رجل مخابرات مدجج بنظراته الحاقدة وهو يحدق في مجموعة مثقفين معتقلين خرجوا في مظاهرة أو وقعوا على بيان. كلام عدوانيّ غير واعٍ ينظر للجميع على أنهم متساوون في القيمة. بهذا المعنى يصبح صابر فلحوط بقيمة إدوارد سعيد في الوساخة. ويصبح خالد العبود بقيمة محمد أركون. ويصبح حسن م يوسف بقيمة صادق جلال العظم... كلهم وسخون بنظر نزيه. حسنا... لماذا انحاز نزيه إلى سلامة كيلة وميشيل كيلو إذاً؟ هل هذان خارج معنى المثقف؟ أم أنهما يمثلان له شيئا على صعيد ما؟ نحن نحترم ونختلف مع الاثنين. ولكن السؤال لماذا لا يعي نزيه أنه يقع في أردأِ أشكال التناقض عندما يَستشهد بهما على أنهما مثقفان جيدان؟ ولكن لايمكن أن نطالبه بحسن النظر والتعبير وهو يرتعد ويخرج الزبد من فمه وهو يوزع الشتائم يمينا ويسارا. لا شك أنه سيرتجل الأفكار ارتجالا ويقع في كل هذه التناقضات المضحكة.
هذا إذا استعدنا معنى الشاعر الحقيقي، الذي لابد أن يكون مثقفا لتكون تجربته غنية ومقنعة وذات معنى وجدوى وقدرة على التأثير والبقاء. هل نزيه شاعر مثقف؟ فإذا كان مثقفا هل هو مثقف وسخ؟ وإذا كان محمود درويش مثقفا – ولا أحد يمكنه إنكار ذلك – فهل هو مثقف وسخ؟ بل إذا كان سعدي يوسف – نموذجه المفضَّل – مثقفا، فهل هو مثقف وسخ؟
الوساخة تكمن في المواقف المعادية للحرية والديمقراطية والشعوب. مهما كان صاحبها. لهذا على نزيه أن ينتقي كلماته على الأقل كشاعر يجب أن يعرف كيف يدير العلاقات بين الكلمات. على الأقل أيضا حتى لا يقع هو في التهمة نفسها وحتى لا يقع (أصدقاؤه الشيوعيون الأخيرون) في التهمة نفسها.
لقد اختار نزيه أن يدافع عن سعدي يوسف – وله ما يشاء من حرية الدفاع عمن يريد – لأن سعدي يتطابق معه في احتقار انتفاضات الشعوب من جهة، ولأنه شيوعي مظلوم من جهة ثانية. نزيه الذي كان يعمل في دار المدى تحت إشراف فخري كريم الشيوعي الذي سرق ملايين الدولارات من الحزب الشيوعي العراقي لم يكن يفطن إلى أنه يعمل مع مثقف وسخ. وعندما يريد إعطاء نظام مضى على بنيته الفاسدة الرثة خمسون عاماً مزيدا من الوقت ليصلح ويغير، لم يكن ينتبه إلى أنه يقوم بدور محامي الشيطان، وما كان محامي الشيطان يوما إلا وسخاً، بل تفوح النتانة من مسام جلده على بعد سنة...
أخيراً...
لا يعتقدْ نزيه أن كلامنا هنا هو تبرئة لجهة ضدّ جهة. ولا نطقا بلسان أحد، فلا أحد أقف خلفه ولا أمامه لأنطق باسمه. وأنا أعرف جيدا مستويات المثقفين المعارضين وجدوى بعضهم من لاجدوى البعض الآخر. ولا يحسبْ نزيه كذلك أنني أخون صداقته ومشاعر الألفة التي كانت بيننا في مواقف كثيرة، لأن الأمر بالنسبة لي لا يتصل بعلاقة شخصية بين شاعرين. لقد فرّطتُ بالكثير من علاقاتي الشخصية والأدبية منذ انتفاضة السوريين في 15 آذار 2011 وليعتبر نفسه من جملة من فرطت بعلاقتي معهم، لأن علاقتي مع موقفي الرافض للاستبداد والقمع والقتل الرسمي الممنهج، هي علاقة أضعها بالدرجة الأولى وبعدها تأتي الحسابات الأخرى... لن أكون صديقا لشاعر ولا كاتب يقف ضد الشعوب مهما كانت مبرراته، ولا صديقا لشاعر يرى فينا عبيدا، لأني من جملة من ثار على هذا النظام وأنا كلي شعور بالحرية المطلقة، تاركا حرير العبودية لمن أمضى عشرات العقود وهو يريد التغيير وينتظره، وحين جاءه خاف منه واحتمى بانتماءات ما قبل المجتمع المدني والحضاري. (انتماءات) أقل ما يقال عنها إنها نابعة من فهم ضيق للوطن... وفهمُك يا نزيه – إن كنت تريد الفهم – كفاية...
--------------------
خاص ألف