الملاحظة الأولى ترتبط بانعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية التي ستدخل شهرها الخامس. فالأخيرة ظهَّرت في بداياتها تبدّلاً في خريطة الولاءات بحيث بدت أكثر الأنظمة في المنطقة ميّالةً إلى موسكو، بما فيها تلك الموالية تاريخياً للولايات المتحدة الأمريكية. ولعلّ الأنظمة تلك كانت تريد إفهام واشنطن غضبها من تفاوضها مع إيران وتراجعها عن سياسات ترامب وانتقاداتها الحقوقية الموجّهة لبعض الحكومات. وهي ظنّت أن بوتين سيحرز نصراً سريعاً يعزّز مكانة روسيا الدولية، المُستعادة جزئياً نتيجة حروب الكرملين في جورجيا وأوكرانيا نفسها وسوريا، ونتيجة تدخّلاته عبر مرتزقة «فاغنر» في ليبيا وعدد من الدول الأفريقية، بما يجعلها تضغط على الأمريكيين بعلاقاتها المتحسّنة مع موسكو. غير أن استمرار الحرب واحتمال استدامتها، إضافة إلى حجم العقوبات الغربية على روسيا وأثر ذلك على سياسات الطاقة والنقل والاقتصاد عامة والعلاقة بأوروبا، وهجوم واشنطن الديبلوماسي ودعمها الأوكرانيين بالأسلحة النوعيّة بدأت تُرجع الأمور إلى ما كانت عليه قبل 24 شباط/ فبراير الماضي، ولَو مع حذر وانتظار لما سيُقدم عليه الأمريكيون وما سيعلِنون عنه تباعاً في جولات مسؤوليهم المقبلة في المنطقة.
الملاحظة الثانية أن واشنطن التي أسقطت معظم ملفات الشرق الأوسط من أولوياتها الخارجية منذ أكثر من عقد من الزمن، باستثناء الملف النووي الإيراني، باشرت إعادة النظر في بعض مقارباتها، لا سيّما تجاه دول الخليج لأسباب اقتصادية وعلى تماس بموضوع الطاقة، ولأسباب استراتيجية مرحلية متعلّقة بالحدّ من التقدم الصيني ووقف التقارب مع روسيا والحاجة للقواعد العسكرية. والأرجح أن تعثّر الاتفاق الأمريكي مع إيران ساهم في تحقيق هذه العودة الخليجية، وأن المقاربة الأمريكية الجديدة تُبقي على التعامل الحذِر مع بعض الملفّات (كالملف العراقي)، وتتجنّب التعامل مع ملفّات أخرى – مرحلياً على الأقل – كالملفين الفلسطيني واللبناني مع اكتفاء بمطالبة إسرائيل بتجنّب «التصعيد» مع طهران وحلفائها. أما في سوريا، فيبدو أن صيغة المحافظة على عقوبات «قيصر» والانتشار العسكري لمراقبة الحدود مع العراق ومواصلة الحرب على بقايا «داعش» ومنع الحلول المفروضة روسياً من دون طرح البدائل الجدّية، هي الصيغة التي لن تتبدّل كثيراً.
الملاحظة الثالثة أن القوى الإقليمية الرئيسية تُعيد ترتيب علاقاتها في المنطقة لقطف ثمار المتغيّرات الدولية أو الحدّ من أضرارها. فتركيا التي استفادت من حرب روسيا على أوكرانيا لتبيع طائرات «بيرقدار» الاستثنائية الفاعلية للثانية وتُبقي قنوات الديبلوماسية قائمة مع الأولى وتستثمر موقعها على مدخل البحر الأسود وفي عضوية حلف شمالي الأطلسي للتوسّط من ناحية ولابتزاز الأوروبيين مقابل تخلّي بعضهم عن دعم التنظيمات الكردية من ناحية ثانية، صالحت إسرائيل بعد طول انقطاع، واستمرّت في التعامل مالياً وتجارياً مع إيران، وتصالحت الآن مع السعودية (وإلى حدّ ما مع مصر) وقلّصت التوتّر مع الإمارات وكرّست حضورها في ليبيا. وهي تحاول التوسّع العسكري في سوريا بحجّة تأمين عودة للاجئين إلى المناطق التي تسيطر عليها قواتها. ومصر تريد من جهتها استعادة أدوار ديبلوماسية خسرتها في الماضي، إن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو في الصلة مع الشأن الليبي أو في ما خصّ العلاقة مع السودان والتوتّرات المستمرة مع إثيوبيا بسبب نهر النيل. أما السعودية، فنجح وليّ عهدها في طيّ صفحة اغتيال الصحافي الخاشقجي في إسطنبول عبر تطبيع فرنسا وأمريكا وتركيا الآن معه. وتراجعت حدّة حربه في اليمن بما يترك له إمكانيات تفاوضية في البلد المقسّم والمنكوب. كما تحسّنت علاقات الرياض بالدوحة، في حين تراجع التحالف مع الإمارات التي صارت أقرب إلى الانفراد في سياساتها في المنطقة ودعمها لأنظمة وجماعات في اليمن والسودان ودول شمال أفريقيا، إضافة إلى تطبيعها المتسارع مع إسرائيل والنظام السوري.
إيران من جهتها تستمرّ في السعي للمحافظة على مواقع نفوذها في العراق ولبنان واليمن وتعمل على تمتينه في سوريا على حساب حليفتها روسيا (التي تعيد الانتشار وتنظيم وجودها العسكري ربطاً بالحرب في أوكرانيا). كما تعمل عبر إعلان استمرار التطوير في برنامجها النووي رغم التخريب الإسرائيلي والاغتيالات إظهار تصميمها على عدم التنازل أو الإذعان للشروط الغربية في المفاوضات، مراهنةً على الوقت وعلى ما تعدّه استحالة الحرب الشاملة ضدها.
الملاحظة الرابعة أن أوروبا التي كانت تحاول خطّ نهج سياسي في المنطقة يزاوج بين حماية المصالح الاقتصادية والمحافظة على التوازنات السياسية بين محاور التنافس أو التصارع الإقليمي، صارت اليوم مهجوسة حصراً بتأمين خطوط إمدادٍ لها بالطاقة تعوّض جانباً من النقص في الإمدادات الروسية، ومهجوسة أيضاً بسبل ضبط الحدود المتوسطّية لمنع وصول المزيد من اللاجئين إلى القارة الأوروبية. وما ذُكر يجعلها بلا شكّ عرضة لضغوط كثيرة ويدفعها لغض النظر عن ممارسات ستكتفي مفوضيّات حقوق الإنسان في رفع الصوت لإدانتها، دون تبعات. ولن يقتصر الأمر على إسرائيل في هذا السياق وعلى جرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل أيضاً على معظم الأنظمة العربية (المعنية بالطاقة وضبط الحدود).
الملاحظة الخامسة أن الصين التي لم تُبدِ في المنطقة في السابق أكثر من الاهتمام الاقتصادي، تبادلاً تجارياً وشراءً للنفط، باتت اليوم مقبلة على أدوار وساطة سياسية تريد تأديتها في دول أفريقية على تماس مباشر مع الشرق الأوسط (في إثيوبيا وجنوب السودان أو في مناطق جنوب الصحراء). وهي صارت تسعى علناً لتوظيف علاقاتها الاقتصادية من أجل تقوية حضورها السياسي، ليس كحليف للدول بديلٍ عن أمريكا أو محتلٍ موقعاً قد تخسره روسيا مع الوقت، بل كقطبٍ عالمي قادر على التكيّف مع جميع التحوّلات بمعزل عمّا يقوم به منافسوه أو حلفاؤه أو خصومه.
والملاحظة الأخيرة أن الكلام المتزايد عن الاستقرار والأمن والغذاء أطاح بما طغى لسنوات بعد الثورات العربية العام 2011، وقبل هزيمتها على يد الثورات المضادة والتدخّلات الخارجية، أي الكلام حول الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. وهذا سيكون، إن لم يُعمل عبر الشبكات الحقوقية الدولية والأوروبية والإقليمية على التصدّي له، مدعاة تحصين مرحليّ لمرتكبي التجاوزات والانتهاكات الكثيرة.
الأرجح إذاً أننا أمام حقبة يُعاد فيها تشكيل العلاقات وتبنّي الأولويات، وأننا أمام توازنات جديدة تريد دول ومحاور إرساءها أو الاستفادة منها لبسط هيمنة أو طغيان أو الدفاع عن مصالح، في انتظار انتهاء الحرب الأوكرانية واتّضاح صورة العلاقات الدولية المقبلة واحتمالات الاشتباك الاقتصادي الأمريكي الصيني التي قد تتصدّر ملامحها.
القدس العربي
الملاحظة الثانية أن واشنطن التي أسقطت معظم ملفات الشرق الأوسط من أولوياتها الخارجية منذ أكثر من عقد من الزمن، باستثناء الملف النووي الإيراني، باشرت إعادة النظر في بعض مقارباتها، لا سيّما تجاه دول الخليج لأسباب اقتصادية وعلى تماس بموضوع الطاقة، ولأسباب استراتيجية مرحلية متعلّقة بالحدّ من التقدم الصيني ووقف التقارب مع روسيا والحاجة للقواعد العسكرية. والأرجح أن تعثّر الاتفاق الأمريكي مع إيران ساهم في تحقيق هذه العودة الخليجية، وأن المقاربة الأمريكية الجديدة تُبقي على التعامل الحذِر مع بعض الملفّات (كالملف العراقي)، وتتجنّب التعامل مع ملفّات أخرى – مرحلياً على الأقل – كالملفين الفلسطيني واللبناني مع اكتفاء بمطالبة إسرائيل بتجنّب «التصعيد» مع طهران وحلفائها. أما في سوريا، فيبدو أن صيغة المحافظة على عقوبات «قيصر» والانتشار العسكري لمراقبة الحدود مع العراق ومواصلة الحرب على بقايا «داعش» ومنع الحلول المفروضة روسياً من دون طرح البدائل الجدّية، هي الصيغة التي لن تتبدّل كثيراً.
الملاحظة الثالثة أن القوى الإقليمية الرئيسية تُعيد ترتيب علاقاتها في المنطقة لقطف ثمار المتغيّرات الدولية أو الحدّ من أضرارها. فتركيا التي استفادت من حرب روسيا على أوكرانيا لتبيع طائرات «بيرقدار» الاستثنائية الفاعلية للثانية وتُبقي قنوات الديبلوماسية قائمة مع الأولى وتستثمر موقعها على مدخل البحر الأسود وفي عضوية حلف شمالي الأطلسي للتوسّط من ناحية ولابتزاز الأوروبيين مقابل تخلّي بعضهم عن دعم التنظيمات الكردية من ناحية ثانية، صالحت إسرائيل بعد طول انقطاع، واستمرّت في التعامل مالياً وتجارياً مع إيران، وتصالحت الآن مع السعودية (وإلى حدّ ما مع مصر) وقلّصت التوتّر مع الإمارات وكرّست حضورها في ليبيا. وهي تحاول التوسّع العسكري في سوريا بحجّة تأمين عودة للاجئين إلى المناطق التي تسيطر عليها قواتها. ومصر تريد من جهتها استعادة أدوار ديبلوماسية خسرتها في الماضي، إن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، أو في الصلة مع الشأن الليبي أو في ما خصّ العلاقة مع السودان والتوتّرات المستمرة مع إثيوبيا بسبب نهر النيل. أما السعودية، فنجح وليّ عهدها في طيّ صفحة اغتيال الصحافي الخاشقجي في إسطنبول عبر تطبيع فرنسا وأمريكا وتركيا الآن معه. وتراجعت حدّة حربه في اليمن بما يترك له إمكانيات تفاوضية في البلد المقسّم والمنكوب. كما تحسّنت علاقات الرياض بالدوحة، في حين تراجع التحالف مع الإمارات التي صارت أقرب إلى الانفراد في سياساتها في المنطقة ودعمها لأنظمة وجماعات في اليمن والسودان ودول شمال أفريقيا، إضافة إلى تطبيعها المتسارع مع إسرائيل والنظام السوري.
إيران من جهتها تستمرّ في السعي للمحافظة على مواقع نفوذها في العراق ولبنان واليمن وتعمل على تمتينه في سوريا على حساب حليفتها روسيا (التي تعيد الانتشار وتنظيم وجودها العسكري ربطاً بالحرب في أوكرانيا). كما تعمل عبر إعلان استمرار التطوير في برنامجها النووي رغم التخريب الإسرائيلي والاغتيالات إظهار تصميمها على عدم التنازل أو الإذعان للشروط الغربية في المفاوضات، مراهنةً على الوقت وعلى ما تعدّه استحالة الحرب الشاملة ضدها.
الملاحظة الرابعة أن أوروبا التي كانت تحاول خطّ نهج سياسي في المنطقة يزاوج بين حماية المصالح الاقتصادية والمحافظة على التوازنات السياسية بين محاور التنافس أو التصارع الإقليمي، صارت اليوم مهجوسة حصراً بتأمين خطوط إمدادٍ لها بالطاقة تعوّض جانباً من النقص في الإمدادات الروسية، ومهجوسة أيضاً بسبل ضبط الحدود المتوسطّية لمنع وصول المزيد من اللاجئين إلى القارة الأوروبية. وما ذُكر يجعلها بلا شكّ عرضة لضغوط كثيرة ويدفعها لغض النظر عن ممارسات ستكتفي مفوضيّات حقوق الإنسان في رفع الصوت لإدانتها، دون تبعات. ولن يقتصر الأمر على إسرائيل في هذا السياق وعلى جرائمها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل أيضاً على معظم الأنظمة العربية (المعنية بالطاقة وضبط الحدود).
الملاحظة الخامسة أن الصين التي لم تُبدِ في المنطقة في السابق أكثر من الاهتمام الاقتصادي، تبادلاً تجارياً وشراءً للنفط، باتت اليوم مقبلة على أدوار وساطة سياسية تريد تأديتها في دول أفريقية على تماس مباشر مع الشرق الأوسط (في إثيوبيا وجنوب السودان أو في مناطق جنوب الصحراء). وهي صارت تسعى علناً لتوظيف علاقاتها الاقتصادية من أجل تقوية حضورها السياسي، ليس كحليف للدول بديلٍ عن أمريكا أو محتلٍ موقعاً قد تخسره روسيا مع الوقت، بل كقطبٍ عالمي قادر على التكيّف مع جميع التحوّلات بمعزل عمّا يقوم به منافسوه أو حلفاؤه أو خصومه.
والملاحظة الأخيرة أن الكلام المتزايد عن الاستقرار والأمن والغذاء أطاح بما طغى لسنوات بعد الثورات العربية العام 2011، وقبل هزيمتها على يد الثورات المضادة والتدخّلات الخارجية، أي الكلام حول الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان. وهذا سيكون، إن لم يُعمل عبر الشبكات الحقوقية الدولية والأوروبية والإقليمية على التصدّي له، مدعاة تحصين مرحليّ لمرتكبي التجاوزات والانتهاكات الكثيرة.
الأرجح إذاً أننا أمام حقبة يُعاد فيها تشكيل العلاقات وتبنّي الأولويات، وأننا أمام توازنات جديدة تريد دول ومحاور إرساءها أو الاستفادة منها لبسط هيمنة أو طغيان أو الدفاع عن مصالح، في انتظار انتهاء الحرب الأوكرانية واتّضاح صورة العلاقات الدولية المقبلة واحتمالات الاشتباك الاقتصادي الأمريكي الصيني التي قد تتصدّر ملامحها.
القدس العربي