كثيرا ما حدث ان اتفقت مع الصديق عماد الدين باقي، وبعض الاحيان مع "سعيد"، نجل آية الله الشيخ حسين علي منتظري، على السفر الى مدينة "قم" لزيارة الشيخ والجلوس اليه. وكثيرا ما كان يقول عماد بان الاوضاع لا تسمح بهذا الامر، خصوصا وان النظام يبدي الكثير من الحساسية تجاه من يقومون بزيارته خاصة من غير الايرانيين. وكثيرا ما تذرع عماد بهذه الحساسية مضيفا بان الاجهزة الامنية لم تتحمل حتى قربه وتبنيه لمواقف الشيخ ما سبب في ملاحقته ودخوله السجن لاكثر من مرة وبأحكام وصلت إلى اكثر من سنتين. هذه المحاذير التي ابداها كل من عماد وسعيد ما كانت لتفتّ من عضدي وعزمي على زيارته.
خلال هذه الفترة كنت على تواصل مع "سعيد" عبر الهاتف، خصوصا بعد ان كلفني الشيخ مشكورا بترجمة كتابه "ديدگاه ها" او ("وجهات نظر" – حسب ما تم التوافق معه على تسميته بالعربية).بهدف الاستفادة منها على الموقع الرسمي للشيخ حتى يطلع عليها المقلدون والمتابعون لمواقفه الدينية والفكرية والسياسية.
قمت بترجمة جزء من الكاتب، وبقي علي الوفاء بالوعد لإتمام ما تبقى. لم اكمل المهمة بالتمام، اذ وقبل ان يتسنى لي ايصالها لخدمته جاء قرار اخراجي من إيران، ما قطع الطريق على استكمال ما وعدت به. واعتقد ان هذه الترجمة قد التحقت بالخسائر الكثيرة التي مُنيت بها جراء قرار الجمهورية الاسلامية الذي لم يمنحني سوى 48 ساعة لمغادرة إيران.
بعد اطلاق سراح عماد الدين من السجن في المرة الاخيرة في العام 2007، أي بعد مضي ثلاث سنوات عن تاريخ فك الحصار عن الشيخ منتظري وخروجه من الاقامة الجبرية في منزله، وعصر يوم ربيعي، اتصل بي عماد واخبرني نيته السفر إلى "قم" سائلا عن رغبتي في مرافقته. وافقت على العرض ووضعت شرطا هو اقرب إلى قلبه بان تتضمن الرحلة زيارة للشيخ في منزله، فكان ما اراد واردت.
الرحلة بدأ في الصباح الباكر. في الطريق إلى "قم" تجاذت الحديث مع عماد حول كثير من الامور، منها ما يتعلق بالحركة الاصلاحية ومرحلة الرئيس محمد خاتمي والنشاط الذي يقوم به عماد في جمعية الدفاع عن حقوق السجناء المدنيين والسياسيين والدعم الذي يقدمه الشيخ في هذا الموضوع.
وصلنا إلى "قم" قرابة الظهر، ومباشرة توجهنا إلى منزل سعيد منتظري الذي كان بانتظارنا بناء على اتصال هاتفي اجراه عماد ليلا.
زقاق بسيط وضيق قد لا يتسع لسيارتين، باب لا يختلف عن الابواب المجاورة ولا يمكن تمييزه، لا وجود للحراسات الا العناصر الامنية التي تراقب المنزل بشكل خفي ومن بعيد.
هي المرة الاولى التي ادخل بها إلى الفناء الخلفي لمنزل الشيخ منتظري منذ العام 1985 عندما كان نائبا لقائد الثورة. اذ كان الدخول آنذاك يستوجب المرور بكثير من نقاط التفتيش والسؤال عن الجهة التي اود مقابلتها في المكتب، وبعد المرور بكل هذه الاجراءات، كان علي ان اقطع مسافة طويلة لكي اصل إلى الغرفة المخصصة للشيخ حسن ابراهيمي مدير مكتب الشيخ، بانتظار ان اتحين الفرصة لالقاء التحية والسلام على الشيخ والتي غالبا ما كانت تلوح بين الفراغ من لقاء والاستعداد للقاء جديد.
كان الشيخ حينها وهو نائب قائد الثورة، يفترش الارض على "موكيت" بني اللون باهت، ويتحلق حوله الزوار من مسؤولين ورجالات دولة وشخصيات غير ايرانية. كانت يستند إلى يده على الارض فترتعش اليد بشكل غريب، ومرة سألت احد الجالسين بقربي عن السبب في هذا الارتعاش، فقال لي انه يعاني من الام في الاعصاب بسبب التعذيب الذي تعرض له خلال فترة اعتقاله في سجون الشاه.
اذكر يومها انه وبعد خروج الزائرين من غرفة الاستقبال، نهض وازاح ستارة متواضعة فانشقت عن باب حديدي اكثره من الزجاج، ففتحه ودلف إلى منزله الخاص ودخلت بمعية شخصين آخرين وراءه ليكون اللقاء بعيدا عن الرسمية.
طرقنا الباب، فاستقبلنا "سعيد" على الباب طالبا منا الدخول، في الباحة الصغيرة التي لا تشبه الحديقة بشيء. شاهدت سيارة من نوع "بيكان" (ايرانية الصنع) قديمة الطراز محملة بادوات منزلية ومطبخية.
في الباحة، اطلت علينا سيدة تلتف بالشادور الإيراني المنزلي، وفي لحظة انتابني شعور من الرهبة، اذ لم يعهد احد انه دخل إلى منزل احد المراجع الدينية وكان في استقباله اهل المنزل ما لم يكن من الاقارب المقربين. لكني وبعد لحظات ومن حرارة الاستقبال ادركت ان "سعيد" كان قد اخبر الاهل بهذه الزيارة.
السيدة كانت زوج سعيد، التي تزوج بها بعد استشهاد شقيقه الشيخ محمد منتظري في تفجير مركز الحزب الجمهوري عام 1981. تذكرتني وتذكرت من اكون، فتداعت عندها ذكريات من ماضٍ لا يغادرها عن زوج مفعم بالحيوية والنشاط امتدت علاقاته شرقا وغربا، من فلسطين مرورا بلبنان وصولا إلى اقصى نقطة فيها للثوريين وجود.
دخلنا إلى منزل "سعيد" الذي لا يفصله سوى جدار تحوّل في سنوات الحصار، وخلافا لكل المبادئ الانسانية والشرعية، إلى جدار للفصل بين الاب وابنه بقرار من "ولي الامر". جلسنا وانا اتحرق شوقا للدخول على الشيخ ورؤيته من جديد. ماء بارد وبعض الفواكه، واذا بالباب الداخلي ينشق ليدخل علينا الشيخ متحررا من لباسه الديني، نهضنا احتراما وللتحية. دخل علينا وقد اطل برأسه اولا ليستكشف الموجودين، وعندما لم يجد سوى سعيد وعماد الذي لم يفارقه، لم يتبق امامه سوى هذا القادم الغريب، فصاح بي "كيف حالك يا سيد فحص". لا اخفي انني تلعثمت للحظات، فهذا الذي يمازحني هو نفس الشخص الذي ارعب النظام واخافه حتى وهو في الاقامة الجبرية عندما كان ممنوعا عليه التواصل مع الخارج.
بدايةً اعتذرَ عن عدم تمكنه من الجلوس على الارض بسبب بعض الآلام في المفاصل، وجلس على كرسي في زاوية الغرفة، طالبا من "سعيد" ان يقوم بواجب الضيافة.
بعدها التفت الي وسألني عن أحوالي بلغة انكليزية رشيقة وجميلة تخالطها لهجة اصفهانية مشهورة بغنتها. وتحت وطأة المفاجأة رددت عليه، ثم سألته كيف ومتى تعلمتم هذه اللغة، فقال ضاحكا، خلال المدة التي كنت فيها محاصرا وفي الاقامة الجبرية، وجدت متسعا من الوقت لدراسة هذه اللغة إلى جانب الاعمال البحثية الاخرى التي كنت اشتغل بها.
ثم قطع الحديث ليسأل سعيد ويسألنا: هل تناولتم طعام الغداء؟ فاجاب سعيد بشيء من المواربة، باننا سنخرج للقيام ببعض الاعمال ونتناول الطعام بعدها. فما كان منه الا ان قال: اذا اردتم، لدي في المنزل شيء من "الكشك" اعددته بنفسي بامكانكم الاكل منه. ضحك سعيد، وقال له "لا داعي، سنقوم بالواجب بعد ان ننتهي من عملنا".
ثم عاد وتوجه لي بالسؤال، عن الاوضاع الفلسطينية، وما الذي حل بالرئيس ياسر عرفات، كيف كانت وفاته، وكأنه يريد ان يسمع مع معرفته بالمسائل ومتابعتها، ثم ترحّم عليه ودعا للفلسطينيين بالنصر.
ثم استطرد وقال لي: "متى تنوي الانتهاء من ترجمة ما بقي من الكتاب؟" واضاف مازحا متوجها بالكلام إلى "سعيد": "لا بد ان ندفع بدل اتعاب السيد على الترجمة". لم اجرؤ على الرد، لكنني اسمعته رفضي لهذه المسألة، وانها اقل الواجب تجاه من أحب واقدّر. فما كان من "سعيد"، وكأنه احس بالارباك الذي اصابني، الا ان نهض وقال: نستأذن منك للخروج إلى بعض الاعمال، فنهض الشيخ لتوديعنا. استأذنته بالتقاط صورة معه، فاخذ بيدي واوقفني إلى جانبه وصاح بعماد ان ينضم الينا طالبا من ابنه ان يلتقط لنا صورة تبقى للذكرى.
في هذه الاثناء، وقبل ان نهم بالمغادرة، سألني من حيث لا احتسب عن "المقابلة الصحافية" التي اجريتها معه عام 2000 لصالح جريدة "الحياة" التي كنت اعمل معها، وهل مازلت احتفظ بالنسخة الخطية التي اجاب بها على الاسئلة الخمسة اضافة للرسالة الخاصة التي بعثها لي من اقامته الجبرية. فقلت: "إطمئن بالا يا مولانا، النسخة والرسالة بحوزتي وقد تركتها في لبنان خوفا من العسس واشياء اخرى".
وهنا اذكر انني وفي بدايات وصولي إلى إيران عام 2000، حدث ان تعرفت على عماد الدين باقي في مكاتب صحيفة "فتح" التي كان عضوا في هيئة التحرير فيها إلى جانب "اكبر كنجي" ويرأس تحريرها الاستاذ "علي حكمت" ويديرها الدكتور "يدالله اسلامي"، امين عام تجمع النواب السابقين. وبإشارة من "علي حكمت" تتعلق بالشيخ منتظري امام عماد كانت كفيلة بازالة الحواجز والمسافات بيني وبينه، وتحول التعارف إلى لقاء حول الشيخ.
بعد ايام، أسررت لعماد برغبتي في اجراء مقابلة مع الشيخ وهو في حصاره. اتقدت عيناه بالفرحة والرهبة، وذكّرني بما في ذلك من مخاطر، فقلت لا بأس طالما لن اضع عليها اسمي، المهم ان يصل صوت وكلام الشيخ. اتفقنا ان اكتب الاسئلة ليقوم هو بايصالها إلى الشيخ احمد نجل منتظري الذي سيقوم هو بدوره بايصالها لوالده اثناء الزيارة الاسبوعية المسموح بها. وبعد عشرة ايام بالتحديد، تلقيت اتصالا من عماد يخبرني بانه يحمل لي أمانة من احد الاشخاص. فهمت ما كان يرمي له، فسارعت للقائه في جريدة "فتح"، واخذت الاوراق واعدت استنساخها اذ لم يكن هناك حاجة للترجمة فقد كتب الشيخ اجابته بلغة عربية جزلة وجميلة. ثم ذهبت إلى اقرب مركز للبريد والاتصالات وارسلتها إلى جريدة "الحياة" في بيروت، التي قامت بنشرها لكن من دون ان تقدر اهمية ان تحصل على لقاء كهذا!
بالعودة إلى سؤال الشيخ عن المقابلة، ادهشني انه استذكر وبعد سبع سنوات احد الاسئلة التي تتعلق بمقاصد الشريعة وحقوق الانسان والحريات. ونبهني باسلوب الاستاذ العطوف، بأن: الفقه الشيعي لا يوجد فيه مصطلح اسمه "مقاصد الشريعة"، لكن وبسبب ادراكه للبعد الذي حمله السؤال والتحديات التي تواجه المجتمعات الاسلامية، فقد أجاب عليه بما يقتضي.
خرجنا بعد توديعه، وكلي فضول لأعرف السر الكامن وراء هذه السيارة المحملة بوسائل منزلية ومطبخية. فقال سعيد، نحن على ابواب الصيف، والشيخ سيعطل دروسه الفقهية بعد ايام، وقد قمنا باستئجار منزل في قرية "كهك" جنوب شرق "قم" على بعد 65 كليومترا، وهي المنطقة التي باتت الان ذات شهرة عالمية بسبب منشآة تخصيب اليورانيوم التي كشف عنها مؤخرا في منطقة "فردو". وبما ان المنزل المستأجر لا توجد فيه ادوات منزلية ومطبخية، لذا علينا ان ننقل ما لدينا في هذا المنزل إلى هناك لكي نستطيع قضاء الصيف.
(ملاحظة: كثير من المراجع والشخصيات الدينية في مدينة "قم" تمتلك منازل خاصة وبساتين في هذه المنطقة لتميزها بالطقس الجميل والمعتدل حتى عندما تصل درجة الحرارة في قم إلى الخمسين درجة مئوية.)
خرجنا برفقة "سعيد" الذي قادنا بعد ان انضم اليه حفيد الشيخ ونجل السيد هادي هاشمي لحضور فاتحة احد رجال الدين الاصفهانيين المقربين من الشيخ. بعدها قال سعيد: "الآن حان وقت تناول الطعام". وكان المساء قد حل، فتوجهنا إلى احد المطاعم وتناولنا الكباب الإيراني المشهور. وقال سعيد، في مقارنة لا تخلو من الغمز: هل هذا الطعام افضل ام "الكشك" الذي انقذتكم منه في منزل الوالد!"
hassanfahs@hotmail.com
خلال هذه الفترة كنت على تواصل مع "سعيد" عبر الهاتف، خصوصا بعد ان كلفني الشيخ مشكورا بترجمة كتابه "ديدگاه ها" او ("وجهات نظر" – حسب ما تم التوافق معه على تسميته بالعربية).بهدف الاستفادة منها على الموقع الرسمي للشيخ حتى يطلع عليها المقلدون والمتابعون لمواقفه الدينية والفكرية والسياسية.
قمت بترجمة جزء من الكاتب، وبقي علي الوفاء بالوعد لإتمام ما تبقى. لم اكمل المهمة بالتمام، اذ وقبل ان يتسنى لي ايصالها لخدمته جاء قرار اخراجي من إيران، ما قطع الطريق على استكمال ما وعدت به. واعتقد ان هذه الترجمة قد التحقت بالخسائر الكثيرة التي مُنيت بها جراء قرار الجمهورية الاسلامية الذي لم يمنحني سوى 48 ساعة لمغادرة إيران.
بعد اطلاق سراح عماد الدين من السجن في المرة الاخيرة في العام 2007، أي بعد مضي ثلاث سنوات عن تاريخ فك الحصار عن الشيخ منتظري وخروجه من الاقامة الجبرية في منزله، وعصر يوم ربيعي، اتصل بي عماد واخبرني نيته السفر إلى "قم" سائلا عن رغبتي في مرافقته. وافقت على العرض ووضعت شرطا هو اقرب إلى قلبه بان تتضمن الرحلة زيارة للشيخ في منزله، فكان ما اراد واردت.
الرحلة بدأ في الصباح الباكر. في الطريق إلى "قم" تجاذت الحديث مع عماد حول كثير من الامور، منها ما يتعلق بالحركة الاصلاحية ومرحلة الرئيس محمد خاتمي والنشاط الذي يقوم به عماد في جمعية الدفاع عن حقوق السجناء المدنيين والسياسيين والدعم الذي يقدمه الشيخ في هذا الموضوع.
وصلنا إلى "قم" قرابة الظهر، ومباشرة توجهنا إلى منزل سعيد منتظري الذي كان بانتظارنا بناء على اتصال هاتفي اجراه عماد ليلا.
زقاق بسيط وضيق قد لا يتسع لسيارتين، باب لا يختلف عن الابواب المجاورة ولا يمكن تمييزه، لا وجود للحراسات الا العناصر الامنية التي تراقب المنزل بشكل خفي ومن بعيد.
هي المرة الاولى التي ادخل بها إلى الفناء الخلفي لمنزل الشيخ منتظري منذ العام 1985 عندما كان نائبا لقائد الثورة. اذ كان الدخول آنذاك يستوجب المرور بكثير من نقاط التفتيش والسؤال عن الجهة التي اود مقابلتها في المكتب، وبعد المرور بكل هذه الاجراءات، كان علي ان اقطع مسافة طويلة لكي اصل إلى الغرفة المخصصة للشيخ حسن ابراهيمي مدير مكتب الشيخ، بانتظار ان اتحين الفرصة لالقاء التحية والسلام على الشيخ والتي غالبا ما كانت تلوح بين الفراغ من لقاء والاستعداد للقاء جديد.
كان الشيخ حينها وهو نائب قائد الثورة، يفترش الارض على "موكيت" بني اللون باهت، ويتحلق حوله الزوار من مسؤولين ورجالات دولة وشخصيات غير ايرانية. كانت يستند إلى يده على الارض فترتعش اليد بشكل غريب، ومرة سألت احد الجالسين بقربي عن السبب في هذا الارتعاش، فقال لي انه يعاني من الام في الاعصاب بسبب التعذيب الذي تعرض له خلال فترة اعتقاله في سجون الشاه.
اذكر يومها انه وبعد خروج الزائرين من غرفة الاستقبال، نهض وازاح ستارة متواضعة فانشقت عن باب حديدي اكثره من الزجاج، ففتحه ودلف إلى منزله الخاص ودخلت بمعية شخصين آخرين وراءه ليكون اللقاء بعيدا عن الرسمية.
طرقنا الباب، فاستقبلنا "سعيد" على الباب طالبا منا الدخول، في الباحة الصغيرة التي لا تشبه الحديقة بشيء. شاهدت سيارة من نوع "بيكان" (ايرانية الصنع) قديمة الطراز محملة بادوات منزلية ومطبخية.
في الباحة، اطلت علينا سيدة تلتف بالشادور الإيراني المنزلي، وفي لحظة انتابني شعور من الرهبة، اذ لم يعهد احد انه دخل إلى منزل احد المراجع الدينية وكان في استقباله اهل المنزل ما لم يكن من الاقارب المقربين. لكني وبعد لحظات ومن حرارة الاستقبال ادركت ان "سعيد" كان قد اخبر الاهل بهذه الزيارة.
السيدة كانت زوج سعيد، التي تزوج بها بعد استشهاد شقيقه الشيخ محمد منتظري في تفجير مركز الحزب الجمهوري عام 1981. تذكرتني وتذكرت من اكون، فتداعت عندها ذكريات من ماضٍ لا يغادرها عن زوج مفعم بالحيوية والنشاط امتدت علاقاته شرقا وغربا، من فلسطين مرورا بلبنان وصولا إلى اقصى نقطة فيها للثوريين وجود.
دخلنا إلى منزل "سعيد" الذي لا يفصله سوى جدار تحوّل في سنوات الحصار، وخلافا لكل المبادئ الانسانية والشرعية، إلى جدار للفصل بين الاب وابنه بقرار من "ولي الامر". جلسنا وانا اتحرق شوقا للدخول على الشيخ ورؤيته من جديد. ماء بارد وبعض الفواكه، واذا بالباب الداخلي ينشق ليدخل علينا الشيخ متحررا من لباسه الديني، نهضنا احتراما وللتحية. دخل علينا وقد اطل برأسه اولا ليستكشف الموجودين، وعندما لم يجد سوى سعيد وعماد الذي لم يفارقه، لم يتبق امامه سوى هذا القادم الغريب، فصاح بي "كيف حالك يا سيد فحص". لا اخفي انني تلعثمت للحظات، فهذا الذي يمازحني هو نفس الشخص الذي ارعب النظام واخافه حتى وهو في الاقامة الجبرية عندما كان ممنوعا عليه التواصل مع الخارج.
بدايةً اعتذرَ عن عدم تمكنه من الجلوس على الارض بسبب بعض الآلام في المفاصل، وجلس على كرسي في زاوية الغرفة، طالبا من "سعيد" ان يقوم بواجب الضيافة.
بعدها التفت الي وسألني عن أحوالي بلغة انكليزية رشيقة وجميلة تخالطها لهجة اصفهانية مشهورة بغنتها. وتحت وطأة المفاجأة رددت عليه، ثم سألته كيف ومتى تعلمتم هذه اللغة، فقال ضاحكا، خلال المدة التي كنت فيها محاصرا وفي الاقامة الجبرية، وجدت متسعا من الوقت لدراسة هذه اللغة إلى جانب الاعمال البحثية الاخرى التي كنت اشتغل بها.
ثم قطع الحديث ليسأل سعيد ويسألنا: هل تناولتم طعام الغداء؟ فاجاب سعيد بشيء من المواربة، باننا سنخرج للقيام ببعض الاعمال ونتناول الطعام بعدها. فما كان منه الا ان قال: اذا اردتم، لدي في المنزل شيء من "الكشك" اعددته بنفسي بامكانكم الاكل منه. ضحك سعيد، وقال له "لا داعي، سنقوم بالواجب بعد ان ننتهي من عملنا".
ثم عاد وتوجه لي بالسؤال، عن الاوضاع الفلسطينية، وما الذي حل بالرئيس ياسر عرفات، كيف كانت وفاته، وكأنه يريد ان يسمع مع معرفته بالمسائل ومتابعتها، ثم ترحّم عليه ودعا للفلسطينيين بالنصر.
ثم استطرد وقال لي: "متى تنوي الانتهاء من ترجمة ما بقي من الكتاب؟" واضاف مازحا متوجها بالكلام إلى "سعيد": "لا بد ان ندفع بدل اتعاب السيد على الترجمة". لم اجرؤ على الرد، لكنني اسمعته رفضي لهذه المسألة، وانها اقل الواجب تجاه من أحب واقدّر. فما كان من "سعيد"، وكأنه احس بالارباك الذي اصابني، الا ان نهض وقال: نستأذن منك للخروج إلى بعض الاعمال، فنهض الشيخ لتوديعنا. استأذنته بالتقاط صورة معه، فاخذ بيدي واوقفني إلى جانبه وصاح بعماد ان ينضم الينا طالبا من ابنه ان يلتقط لنا صورة تبقى للذكرى.
في هذه الاثناء، وقبل ان نهم بالمغادرة، سألني من حيث لا احتسب عن "المقابلة الصحافية" التي اجريتها معه عام 2000 لصالح جريدة "الحياة" التي كنت اعمل معها، وهل مازلت احتفظ بالنسخة الخطية التي اجاب بها على الاسئلة الخمسة اضافة للرسالة الخاصة التي بعثها لي من اقامته الجبرية. فقلت: "إطمئن بالا يا مولانا، النسخة والرسالة بحوزتي وقد تركتها في لبنان خوفا من العسس واشياء اخرى".
وهنا اذكر انني وفي بدايات وصولي إلى إيران عام 2000، حدث ان تعرفت على عماد الدين باقي في مكاتب صحيفة "فتح" التي كان عضوا في هيئة التحرير فيها إلى جانب "اكبر كنجي" ويرأس تحريرها الاستاذ "علي حكمت" ويديرها الدكتور "يدالله اسلامي"، امين عام تجمع النواب السابقين. وبإشارة من "علي حكمت" تتعلق بالشيخ منتظري امام عماد كانت كفيلة بازالة الحواجز والمسافات بيني وبينه، وتحول التعارف إلى لقاء حول الشيخ.
بعد ايام، أسررت لعماد برغبتي في اجراء مقابلة مع الشيخ وهو في حصاره. اتقدت عيناه بالفرحة والرهبة، وذكّرني بما في ذلك من مخاطر، فقلت لا بأس طالما لن اضع عليها اسمي، المهم ان يصل صوت وكلام الشيخ. اتفقنا ان اكتب الاسئلة ليقوم هو بايصالها إلى الشيخ احمد نجل منتظري الذي سيقوم هو بدوره بايصالها لوالده اثناء الزيارة الاسبوعية المسموح بها. وبعد عشرة ايام بالتحديد، تلقيت اتصالا من عماد يخبرني بانه يحمل لي أمانة من احد الاشخاص. فهمت ما كان يرمي له، فسارعت للقائه في جريدة "فتح"، واخذت الاوراق واعدت استنساخها اذ لم يكن هناك حاجة للترجمة فقد كتب الشيخ اجابته بلغة عربية جزلة وجميلة. ثم ذهبت إلى اقرب مركز للبريد والاتصالات وارسلتها إلى جريدة "الحياة" في بيروت، التي قامت بنشرها لكن من دون ان تقدر اهمية ان تحصل على لقاء كهذا!
بالعودة إلى سؤال الشيخ عن المقابلة، ادهشني انه استذكر وبعد سبع سنوات احد الاسئلة التي تتعلق بمقاصد الشريعة وحقوق الانسان والحريات. ونبهني باسلوب الاستاذ العطوف، بأن: الفقه الشيعي لا يوجد فيه مصطلح اسمه "مقاصد الشريعة"، لكن وبسبب ادراكه للبعد الذي حمله السؤال والتحديات التي تواجه المجتمعات الاسلامية، فقد أجاب عليه بما يقتضي.
خرجنا بعد توديعه، وكلي فضول لأعرف السر الكامن وراء هذه السيارة المحملة بوسائل منزلية ومطبخية. فقال سعيد، نحن على ابواب الصيف، والشيخ سيعطل دروسه الفقهية بعد ايام، وقد قمنا باستئجار منزل في قرية "كهك" جنوب شرق "قم" على بعد 65 كليومترا، وهي المنطقة التي باتت الان ذات شهرة عالمية بسبب منشآة تخصيب اليورانيوم التي كشف عنها مؤخرا في منطقة "فردو". وبما ان المنزل المستأجر لا توجد فيه ادوات منزلية ومطبخية، لذا علينا ان ننقل ما لدينا في هذا المنزل إلى هناك لكي نستطيع قضاء الصيف.
(ملاحظة: كثير من المراجع والشخصيات الدينية في مدينة "قم" تمتلك منازل خاصة وبساتين في هذه المنطقة لتميزها بالطقس الجميل والمعتدل حتى عندما تصل درجة الحرارة في قم إلى الخمسين درجة مئوية.)
خرجنا برفقة "سعيد" الذي قادنا بعد ان انضم اليه حفيد الشيخ ونجل السيد هادي هاشمي لحضور فاتحة احد رجال الدين الاصفهانيين المقربين من الشيخ. بعدها قال سعيد: "الآن حان وقت تناول الطعام". وكان المساء قد حل، فتوجهنا إلى احد المطاعم وتناولنا الكباب الإيراني المشهور. وقال سعيد، في مقارنة لا تخلو من الغمز: هل هذا الطعام افضل ام "الكشك" الذي انقذتكم منه في منزل الوالد!"
hassanfahs@hotmail.com