وبعد نحو الف عام على وفاته مايزال ضريح محرز بن خلف احد أشهر الولاة الصالحين في تونس (952-1022م)، والذي بني مقامه في عهد الدولة الحفصية بعد قرنين من وفاته، يعتبر محور مدينة تونس العتيقة، ويرتاده الزائرون والمريدون بانتظام منذ عدة قرون.
لكن يخشى اليوم من أن يكون هدفا لأعمال تخريب أو حرق من متشددين اسلاميين برزوا فجأة في تونس بعد سقوط نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
وقالت فاطمة السنوسي /54 عاما/ وإلى جانبها ابنتها هدى /22 عاما/ وقد غطيا رأسيهما بوشاحين مزركشين بشكل فضفاض بينما كانا يهمان بدخول مقام سدي محرز "هذا مقام نفخر به ويبارك خطواتنا، ولا أعتقد ان أيديهم (المتشددين) ستطاله... كل التجار في المدينة العتيقة يحرسونه".
وأضافت ابنتها هدى لوكالة الأنباء الألمانية (د. ب. أ) "عندما نأتي إلى هنا نشعر بالراحة والهدوء. نتقرب إلى الله ونتلو آيات قرآنية. إنهم يكفرون الناس. فأين الكفر في هذا؟ نحن لا نعبد أصناما ولا عبادا. وإنما نتبرك بكرامات الولي الصالح وديننا يشهد بالحظوة التي يتميز بها هؤلاء".
وفي الغرفة الأولى للبهو الداخلي للمقام تنصب إمرأة طاعنة في السن أمامها عدد من الأكواب المصنوعة من الفخار وقد ملأت بمياه جلبت من جوف البئر الموجودة في المقام، تسقي بها الزائرين مقابل بضع قطع نقدية قبل ولوجهم إلى الغرفة الثانية حيث يوجد ضريح الولي الصالح.
في الداخل وقف مراد الماجري وهو شاب متصوف وتسكو وجهه لحية إلى جانب الضريح ليؤدي الصلاة، ووقف خلفه عدد من الشيوخ فيما وقف في الصف الأخير عدد من النساء وعندما فرغ من ذلك تفرق المصلون في داخل المقام للدعاء من أمام الضريح.
وقال الماجري وهو من أتباع الطريقة التيجانية نسبة إلى الولي الصالح سيدي أحمد الفاسي الذي ترجع اصوله إلى المغرب، لـ (د. ب. أ) "إن ما يحصل اليوم بعد ثورات الربيع العربي على أيدي بعض المتشددين، فتنة ليست غريبة على المجتمعات العربية والاسلامية، الأمر حصل مثله في موقعة صفين منذ قرون عديدة بين أنصار الإمام علي وجيش معاوية".
ويضيف الماجري في بهو المقام "إن من سماحة الاسلام إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر تلك الموقعة قبل ان تحدث بعد مماته بسنوات في حديث صحيح. ووصف الطرف المخطئ في الموقعة بالفئة الباغية وليس بالكافرة".
وتابع "اليوم نرى الناس يفتون عن هوى وعن غير ذي علم ودون فهم صحيح للنصوص القرآنية والنبوية. ويذهب بهم الأمر إلى حد تكفير الناس" وقال الماجري إن الله مدح الأولياء الصالحين في القرآن الكريم وهؤلاء مكلفون بتهذيب أخلاق المؤمنين والارتقاء بها.
وبعد أشهر فقط من تنصيب الحكومة الاسلامية في تونس، والتي تقودها حركة النهضة الاسلامية مع حزبين علمانيين، بدأت الاعتداءات على المقامات وزوايا الأولياء الصالحين تتكرر حتى أصبحت ما يشبه حملة منظمة.
وبينما توجه في ذلك أصابع الإتهام إلى أنصار التيار السلفي، زادت هذه الحملة مع تشجيع بعض أئمة المساجد على نسف هذه المقامات بدعوى أنها ضرب من الوثنية ومخالفة للشريعة الاسلامية.
وفي تشرين أول/اكتوبر الماضي أصدر إمام جامع بمدينة القيروان المعروفة بموروثها الديني والصوفي ومعمارها الإسلامي، فتوى تجيز نسف مقام "سيدي الصحبي" الشهير بالجهة مما أشاع مخاوف وسط السكان.
وقال زهير الحداد المشرف على المقام ان هناك مخاوف بين السكان من أن يتعرض المزار إلى اعتداء على غرار ما تعرضت له مقامات أخرى في البلاد.
لكن بمجرد انتشار الخبر تمركزت وحدات أمنية وعسكرية قدمت من ثكنة قريبة للمقام وتكفلت بحراسته وتأمين الأنشطة الصوفية بداخله والحماية لزائريه.
وضريح "سيدي الصحبي" الذي يعد من بين أشهر المقامات بجهة القيروان وكامل تونس أيضا، هو مقام تم تشييده عام 1663 تخليدا لذكرى الصحابي أبي زمعة البلوي الذي توفي عام 654 خلال إحدى الفتوحات الإسلامية بالمنطقة، ودفن في القيروان.
ولكن المخاوف لم تهدأ فما يزال كثير من مرتادي المقامات في العاصمة بشكل خاص، يخشون تكرر أعمال العنف ضد أضرحة الأولياء الصالحين.
وكانت الصدمة كبيرة عندما تعرض في 16 تشرين أول/اكتوبر الماضي المقام المعروف باسم "السيدة منوبية" بمحافظة منوبة المتاخمة للعاصمة، للحرق على أيدي ملثمين يعتقد انتسابهم إلى التيار السلفي.
وقبلها بأسبوعين تعرض مقر "الولي الصالح سيدي بوشوشة" بنفس الجهة إلى الهدم من قبل مجموعات ملتحية. كما عمد سلفيون الى إغلاق مقام "سيدي عبد القادر" بالقوة في محافظة نابل (65 كلم جنوب شرق العاصمة) ومنع الزوار من ارتياده.
واتسعت الهجمات لتطال كذلك أضرحة الرموز الوطنية في تونس من بينهم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة باني تونس الحديثة بعد الاستقلال والزعيم النقابي فرحاد حشاد والكاتب الطاهر الحداد، محرر المرأة.
وقال الكاتب التونسي عبد الدايم السلامي المختص في الشؤون الثقافية لـ(د.ب.أ) "هناك مشكل حقيقي يتعلق بمحاولات نسف خصوصية الهوية التونسية والثقافة الشعبية السائدة بين الطبقات الفقيرة في تونس وحتى الطبقات الغنية".
وأضاف السلامي "التونسيون منفتحون ومتسامحون بطبعهم ولكنهم لا يقبلون هذا الفكر المتشدد. هذا التيار عرضي ولن يكون له مكان في تونس" وتنتشر المقامات بكثرة في كامل المحافظات التونسية حتى ان كل محافظة اشتهرت بوليها الصالح.
وتضم العاصمة وحدها 123 مقاما أو زاوية يعود أغلبها إلى عهد الدولة الحفصية في تونس، ما بين الأعوام 1229 و1574 ميلادي وميزة هذه المقامات أنها علاوة على رمزيتها الثقافية وطبيعتها المعمارية، فقد ظلت على مدى قرون تلعب دورا دينيا واجتماعيا ونفسيا مهما في المجتمع التونسي.
فمثلا يرتاد التونسيون المقامات الشهيرة للتعبد والتقرب إلى الله وأيضا البحث عن الراحة والطمأنينة والتطلع إلى كرامات الولي من أجل حل مشكلاتهم. كما يتبرعون بالأطعمة ويقيمون المأدبات المفتوحة على العامة في تلك المقامات.
ويحدث كذلك ان يتحول المقام إلى فضاء لحفلات الزواج والختان في المناسبات الدينية وهو كذلك ملجأ تأوي إليه المشردات والعوانس ليخدمن مقام الولي الصالح.
ويذكر حسان الحاجبي وهو كاتب تونسي مقيم في باريس في أحد كتاباته "إن المقامات تعكس الكثير من مناحي الحياة في تونس،"لا زالت 'الوعدة' أو 'الزردة'، وتعني مأدبة الأكل، تُقام كل خميس في أجواء احتفائية داخل مقامات وزوايا الأولياء الصالحين، كعنوان شكر لما قدمه هذا الولي أو ذاك لمريديه، أو كتعبير عن التلاحم والتواصل الاجتماعيين في إطار عفوي".
ويضيف الحاجي "ترتبط هذه الزيارات والعادات بطقوس تعبدية كقراءة القرآن والأدعية، وتندرج ضمنها الموسيقى والغناء الصوفيان" ويشير الحاجبي"إن حضور الإنشاد الصوفي يلعب أهمية كبيرة في المقام، كتراث متواصل تناقلته الأجيال شفوياً. ومن مظاهره أن تعقد خاصة في شهر رمضان، مجالس الإنشاد والغناء لذكر الله ولترويض النفس وبعث الطمأنينة والسكون فيها".