وأخطر تهمة جرى توجيهها الى غادة عون، وفق القاموس القضائي، تكمن في تقديمها ما يكفي من أدلّة على أنّها مجرد أداة طيّعة في "عملية دعائية" يقودها رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل الذي يستقوي بتوقيع رئيس الجمهورية ميشال عون.
وباتت القاضية غادة عون من أشهر القضاة، في الدوائر الدولية المعنية بلبنان، لأنّها تحمل الإسم الذي أوردته التقارير الدبلوماسية في تعدادها أبرز الأسباب التي دفعت بالرئيس عون الى منع صدور التشكيلات والمناقلات القضائية التي أجراها مجلس القضاء الأعلى، في مناخ من الضغط الدولي لإصلاح القضاء وتحصين استقلاليته، كبند ملح من بنود برنامج إنقاذ لبنان الذي وضعته "الدول المانحة" ولم تنسه المبادرة الفرنسية.
وينظر مجلس القضاء الأعلى نظرة قاسية الى غادة عون، لأنّها، خدمة لميولها السياسية، تتجاوز صلاحياتها القانونية، وتُثير معارك سياسية، وتخرق واجب التحفّظ، مستندة، في ما تقوم به، الى حماية رئيس الجمهورية.
وعجز مجلس القضاء، مراراً وتكراراً، مستعملاً الوسائل القانونية المتوافرة لديه، عن ردع القاضية عون، فتركها لمصيرها ممّا أدخلها، في معركة مفتوحة، مع الأطراف التي تُلاحقها، وهي أطراف تملك ما يكفي من قوة إعلامية ومالية وسياسية.
وظهر لغادة عون أنّ الحماية السلطوية التي توفّرت لها لا تستطيع سوى منع نقلها من مركزها، ولكنّها أعجز من أن تحميها معنوياً، لأنّ تمادي هذه الجهة، في الدفاع الإعلامي عنها يزيد "ورطتها" لدى الرأي العام.
وهذه الحقيقة، دفعت بالقاضية عون الى ممارسة ضغوط على زملائها، من أجل مناصرتها، متوسّلة إطلالات عدة على مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تتناسب، بطبيعة الحال، و"واجب التحفّظ"، ولكنّ الجميع، يتقدمهم مجلس القضاء الأعلى، إلتزموا الصمت، على خلفية أنّ معركتها ليست معركة قضائية بل سياسية.
قد تكون أهداف القاضية عون ونياتها سليمة، في بلد يشكو من قضاء يصمت عن الفساد والهدر وسرقة المال العام، ولكنّ مشكلتها الجوهرية أنّها أفسدت مكافحة الفساد بالتسييس، متغافلة عن حقيقة ساطعة، وهي أنّ أساس العلّة في القضاء اللبناني هو التسييس، وهذا ما ينكب على علاجه الإصلاحيون في لبنان والخارج، فالمطالب المتكررة بوجوب التوصل الى قانون يوفّر استقلالية القضاء، هدفه توفير الدواء الناجع لداء القضاء المميت، أي "التسييس".
إنّ القاضية غادة عون وقعت في فخ الشعارات الكبرى، فإذا كانت الجهة التي تميل إليها تحترف إطلاق الشعارات، فهي احترفت ملاحقات بخلفية شعاراتية، لا أكثر ولا أقل، إذ إنّ كلّ الملفات التي فتحتها، وغالبيتها، بوجه خصوم "العهد"، لم تحقق أيّاً من أهدافها، بل أتت بنتائج عكسية، بحيث أضرّت بمصالح الدولة من دون أن تُضر، فعلاً، بالمستهدفين بها.
يحتاج لبنان، من دون أدنى شك، إلى عملية "الأيادي البيضاء"، ولكنّ هذه العملية لا تبدأ بنائب عام إستئنافي في جبل لبنان يعمل لمصلحة فريق سياسي إشكالي، بل تبدأ بتنظيف القضاء وتنزيهه واستقلاليته، ليتمكن من أن يكون شاملاً في ملاحقاته، ونزيهاً في تحقيقاته، ومستقلاً في أحكامه.
وهذه الإستقلالية المنشودة قد يكون توفيرها في لبنان أصعب من المس بالنظام الدستوري القائم، لأنّ قضاء مستقلاً ونزيهاً، لا يترك ميليشيا تعبث بمصالح البلاد العليا، ولا يرضى بمنطقة تحكم نفسها، وفق "شريعة الغاب"، ولا برجال سلطة ودين يضعون خطوطاً حمراء على هذا أو ذاك، ولا بسياسيين يحملون في جيوبهم مفاتيح السجون، ولا بأمن يحوّل الزنزانات الى معتقلات.
وبهذا فإنّ القاضية غادة عون، في واقع الحال، لا تدفع، وفق شكواها، ثمن ملاحقة الفاسدين، بل هي تدفع ثمن "تسليع" وظيفتها القضائية لطرحها في البازار السياسي، حيث تجري أكبر عملية تهديم لدولة وتجويع لشعب.
كان على القاضية عون أن تكون نموذجاً لقضاء يطمح إليه اللبنانيون كما المجتمع الدولي، ولو خفتت نجوميتها، بدل أن تكون نموذجاً عن القضاة الذين لا يمكن معهم بناء سلطة قضائية مستقلة تعلو بميزانها، فوق كل هوى وجنوح ورغبة.
--------
النهار
--------
النهار