وتؤكد أوساط عليمة أن المشروع هو مشروع الأب، تولى هندسته وصناعته وتنفيذه. فالإبن لا ترشحه ملكاته ولا قدراته أو ثقافته ليكون ناشطا عاديا في اتحاد طلابي، فما بالنا بطموح حكم دولة بحجم مصر! وادعى الأب للصحافة الأمريكية بأن ابنه ظل رافضا الانضمام للحزب الحاكم مدة طويلة. وكان عمله في الأساس قد بدأ في المصارف المصرية والأمريكية. ونضيف من عندنا أنه مارس أعمال السمسرة والمضاربة المصرفية وتعلم عقد الصفقات حينما أوكلت إليه عملية بيع ديون مصر، وكان وقتها في العشرينات من العمر أثناء فترة عمله بالمصرف الأمريكي (بنك أوف أميركا) بلندن. وعلى أساس هذه الخبرة يحكم مصر ويدير شؤونها بعد أن وجد من 'يقنعه' بالانضمام للحزب الحاكم الذي يرأسه والده. ومشروع التوريث مشروع عائلي مئة في المئة، ومن أجله صدرت قرارات رئاسية واتخذت إجراءات إدارية وضعت جمال مبارك في المناصب التنفيذية التي بدأها مستشارا اقتصاديا يتبع رئاسة الجمهورية، إلى أن أوكلت إليه مهام مالية وشبابية وحزبية جعلت منه صاحب النفوذ الأقوى في مصر، وما كان له أن يمارس دوره الحالي كحاكم فعلي للبلاد دون رغبة الأب وبغير القرارات التي صدرت ولا الإجراءات التي اتخذت. بعدها اكتفى الأب بأن يكون الواجهة الخارجية لحكم ابنه، بجانب قيامه بمهمة رجل الإطفاء حين تكون هناك حاجة إلى محاصرة الحرائق التي يشعلها الإبن وفريقه.
ونعلم أن وجهة نظر حسني مبارك في المصريين تقوم على الاحتقار الشديد. ووجهة نظره السلبية فيهم شكلت قناعاته بأن جعلت حكم مصر شأنا شخصيا لا يقبل شراكة من أحد، وردد كثيرا عدم عثوره على مصري واحد 'يكون قلبه على مصر' - حسب تعبيره - ليسند إليه منصب نائب الرئيس. وادعى أن السادات كان محظوظا حين اختاره وأسند إليه المنصب. وتحول الشأن الشخصي بالنسبة للحكم إلى شأن عائلي. المهم أنه حول مصر من دولة لها حاكم إلى مزرعة يملكها سيد، على الرغم من وجهة النظر التي تقول بأن حسني مبارك توحد مع الحكم وتوحد الحكم فيه وتستبعد تخليه عنه تحت أي ظرف، إعمالا لرحلة الحاكم العربي، التي تبدأ بالقصر وصولا إلى القبر، دون حاجة إلى محطة في الوسط يستريح فيها من عناء الاستبداد وقهر الرعية. وانتقال الحكم من الشأن الشخصي إلى الشأن العائلي يجعل حسني مبارك ضليعا في مشروع التوريث مهما كان رأيه. وحين يراجع الإنسان نفسه يجد ما ذكره وأكده آخرون عن أهمية اتمام هذا المشروع في حياة الأب. لأن الابن يستمد قوته ووجوده بنفوذ الأب وسلطانه وصلاحياته، ولولاه لبقي جمال مبارك شخصا أقل من العادي، بسبب محدودية قدراته وتدني مهاراته وضعف مستوى ذكائه الاجتماعي. فالأب هو الذي تنازل طواعية عن سلطاته وصلاحياته له، وهو ما لم يحدث مع أقرب المقربين.
لذا فإن استخدام سلاح الملل والمراوغة والميوعة لتمرير المشروع يتم عن عمد. ويستثمره الأب في توفير كل سبل التمكين لابنه، وتسليمه مفاتيح القوة والسلطة بعد تمكينه من الثروة والمال والنفوذ. ولم يتبق إلا مؤسسات القوة، خاصة القوات المسلحة، التي إذا استعصت فمن المرجح أن تواجه بـ'انقلاب بوليسي' تقوم به الشرطة وقوة مباحث أمن الدولة الاخطبوطية. وثمن ذلك يمكن دفعه بتعيين قادة الانقلاب في مناصب عليا في الحكم تدر عليهم مبالغ طائلة. وقد سجل حسني مبارك عدة أهداف في ملعب مناهضي التوريث، لا يجب التقليل منها، وفي وقت بدا فيه الحراك الرافض للتوريث في حالة تراجع.. تعتريه رتابة، ويشكو من انطفاء الوهج الذي أضاء سماوات عامي 2004 و2005 وألقى بضيائه على مستوى من الجسارة في مواجهة أكبر عملية تزييف للانتخابات التشريعية والرئاسية وللتشريعات والقوانين التي مهدت لها ولحقتها بعدما كشف الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات إمكانية انهيار الحكم وسقوط مشروع التوريث. هذا الوهج خبا وعاد النفق الذي دخلته مصر أشد إظلاما مما كان عليه قبل هذا التاريخ، وقل التفاؤل بإمكانية هزيمة مشروع التوريث.
نجح سلاح الملل والمراوغة والميوعة في حصر الخيارات في خيارين. إما القبول بحكم الإبن وريثا لأبيه، أو مواجهة تشدد الحكم الإسلامي. والقوى السياسية الإسلامية هي الأكثر حضورا على المستويين التنظيمي والجماهيري، مقارنة بغيرها. وإن جاءت القوى القومية العربية في الترتيب التالي، إلا أنها تتميز بحضور فكري وثقافي وأكاديمي ومهني بارز، وهذا أتى خصما من رصيد الحضور التنظيمي والجماهيري ومع ذلك لها تأثيرها الملحوظ في توجيه الرأي العام. وتعتبر في طليعة حركة الرفض الشعبية لحكم مبارك ومشروعه، ولا تستطيع القوى القومية إجهاض ذلك المشروع وحدها. وهي مستمرة في نشر وتعبئة الرأي العام عبر خطاب وطني جامع يقدر على إلحاق الهزيمة به. ولا نستغرب إذا ما استقر في وعي كثير من المصريين أن جمال مبارك هو الوريث الذي يمارس الحكم من مدة قبل اختفاء والده أو اعتزاله، وهذا على الرغم من الاحتجاجات المستمرة والمظاهرات المتكررة.
ومع الكثرة العددية لطبقات وفئات العمال والفلاحين وصغار ومتوسطي موظفي الدولة وصغار الكسبة، وهي كثرة تمنح العمل الوطني عمقه الحقيقي، ما زال جهد هذه الكثرة أقل من القدرة على فرض مطالب عامة وجامعة.. لأنها اكتفت بمطالب جزئية وفئوية وهذا أتاح لحسني مبارك فرض ما يريد بعد أن خبر عجز عمال القطاع العام وموظفيه على مدى سنوات عمره عن الحفاظ على مصانعه ومؤسساته وشركاته، وانتصر عليهم وهم يدفعون الآن ثمن ذلك تشريدا وبطالة وفقرا وجهلا وهروبا، وهذا زاد ثقته في كفاءة منظومة الفساد وقدرتها على إدارة الحكم ورعاية النهج البوليسي وتمكنها من تصفية ومصادرة أدوات العمل السياسي والأهلي والنقابي، وبذلك اقتصرت مقاومة التوريث على أفراد وجماعات صغيرة ومتوسطة، ما زالت جديدة، وفي حاجة إلى الوقت والرعاية حتى تنضج ويكتمل نموها.
وضعف هذه الأدوات وقلة إمكانياتها بما لا يقارن بالإمكانيات المتوفرة لمشروع التوريث.. من مال ودعاية ومغريات أدتا إلى ميل ميزان القوى لصالح التوريث، ومع ذلك لم تتوقف مقاومته لحظة. وتنشيط المقاومة وزيادة فعاليتها يقتضي تأسيس حركة سياسية عريضة وعامة، تتسع للقوى الوطنية الرافضة للتوريث، تصيغ لنفسها برنامجا سياسيا وجدولا زمنيا تلتزم به. وهذا الميل زين لصاحب المشروع قدرته على تمريره، استغلالا لظروف الفراغ، الذي يتصوره مخففا لأزمات الحكم واحتقاناته، ومانحا الفرصة للحزب الحاكم أن يكون الحزب الوحيد الذي لا ينافس ولا ينازع، معتمدا على شعارات طفولية مثيرة للسخرية، ينشرها ويروجها باسم الفكر الجديد، بعد أن طلق ذلك الحزب السياسة طلاقا بائنا، بعد أن تحول إلى شركة آلت ملكيتها إلى الساعد الأيمن لجمال مبارك، صاحب أكبر احتكار للحديد وأمين التنظيم وعضو لجنة السياسات.
وميل الميزان لصالح مشروع التوريث جاء نتيجة ما لأنصاره من وجود وتأثير في مجالات المال والاقتصاد والسياسة والإعلام، ومن علاقات وجسور ممتدة مع القوى الانعزالية في الداخل ومع المشروع الصهيوني في المحيط الإقليمي (اتفاقيات الكويز والغاز)، وفي المحيط الدولي ينعمون بدعم ومساندة المنظومة الغربية بكل نفوذها وقوتها وعنصريتها. لذا فإن معركة التوريث ليست سهلة. والتجربة الإنسانية على مر التاريخ تؤكد أن هذا النوع من الانتصار لا يدوم، لما فيه من نقاط ضعف وأمراض تنخر في عظامه. وأهمها أن صاحب المشروع لا يضع الشعب في حسابه ولا يعبأ بمصالحه ولا يراهن عليه، ومن يعتمد عليهم يفتقدون العمق ودون جذور، يسهل اقتلاعهم مع أول ريح للتغيير تهب عليهم. وهم لا يستريحون إلا في أحضان القوى الأجنبية وتحت الحماية الخارجية. لذا اعتبرت زيارة مبارك الأب لواشنطن واستقبال أوباما له فتحا عظيما أتاح له فرصة تقديم أوراق اعتماد جديدة لدى البيت الأبيض، وسوف تكون مصر الرسمية رأس الحربة في المشروع الأمريكي الذي يتسع ويتمدد في ربوع الوطن العربي والعالم الإسلامي.
-----------
القدس
ونعلم أن وجهة نظر حسني مبارك في المصريين تقوم على الاحتقار الشديد. ووجهة نظره السلبية فيهم شكلت قناعاته بأن جعلت حكم مصر شأنا شخصيا لا يقبل شراكة من أحد، وردد كثيرا عدم عثوره على مصري واحد 'يكون قلبه على مصر' - حسب تعبيره - ليسند إليه منصب نائب الرئيس. وادعى أن السادات كان محظوظا حين اختاره وأسند إليه المنصب. وتحول الشأن الشخصي بالنسبة للحكم إلى شأن عائلي. المهم أنه حول مصر من دولة لها حاكم إلى مزرعة يملكها سيد، على الرغم من وجهة النظر التي تقول بأن حسني مبارك توحد مع الحكم وتوحد الحكم فيه وتستبعد تخليه عنه تحت أي ظرف، إعمالا لرحلة الحاكم العربي، التي تبدأ بالقصر وصولا إلى القبر، دون حاجة إلى محطة في الوسط يستريح فيها من عناء الاستبداد وقهر الرعية. وانتقال الحكم من الشأن الشخصي إلى الشأن العائلي يجعل حسني مبارك ضليعا في مشروع التوريث مهما كان رأيه. وحين يراجع الإنسان نفسه يجد ما ذكره وأكده آخرون عن أهمية اتمام هذا المشروع في حياة الأب. لأن الابن يستمد قوته ووجوده بنفوذ الأب وسلطانه وصلاحياته، ولولاه لبقي جمال مبارك شخصا أقل من العادي، بسبب محدودية قدراته وتدني مهاراته وضعف مستوى ذكائه الاجتماعي. فالأب هو الذي تنازل طواعية عن سلطاته وصلاحياته له، وهو ما لم يحدث مع أقرب المقربين.
لذا فإن استخدام سلاح الملل والمراوغة والميوعة لتمرير المشروع يتم عن عمد. ويستثمره الأب في توفير كل سبل التمكين لابنه، وتسليمه مفاتيح القوة والسلطة بعد تمكينه من الثروة والمال والنفوذ. ولم يتبق إلا مؤسسات القوة، خاصة القوات المسلحة، التي إذا استعصت فمن المرجح أن تواجه بـ'انقلاب بوليسي' تقوم به الشرطة وقوة مباحث أمن الدولة الاخطبوطية. وثمن ذلك يمكن دفعه بتعيين قادة الانقلاب في مناصب عليا في الحكم تدر عليهم مبالغ طائلة. وقد سجل حسني مبارك عدة أهداف في ملعب مناهضي التوريث، لا يجب التقليل منها، وفي وقت بدا فيه الحراك الرافض للتوريث في حالة تراجع.. تعتريه رتابة، ويشكو من انطفاء الوهج الذي أضاء سماوات عامي 2004 و2005 وألقى بضيائه على مستوى من الجسارة في مواجهة أكبر عملية تزييف للانتخابات التشريعية والرئاسية وللتشريعات والقوانين التي مهدت لها ولحقتها بعدما كشف الإشراف القضائي الكامل على الانتخابات إمكانية انهيار الحكم وسقوط مشروع التوريث. هذا الوهج خبا وعاد النفق الذي دخلته مصر أشد إظلاما مما كان عليه قبل هذا التاريخ، وقل التفاؤل بإمكانية هزيمة مشروع التوريث.
نجح سلاح الملل والمراوغة والميوعة في حصر الخيارات في خيارين. إما القبول بحكم الإبن وريثا لأبيه، أو مواجهة تشدد الحكم الإسلامي. والقوى السياسية الإسلامية هي الأكثر حضورا على المستويين التنظيمي والجماهيري، مقارنة بغيرها. وإن جاءت القوى القومية العربية في الترتيب التالي، إلا أنها تتميز بحضور فكري وثقافي وأكاديمي ومهني بارز، وهذا أتى خصما من رصيد الحضور التنظيمي والجماهيري ومع ذلك لها تأثيرها الملحوظ في توجيه الرأي العام. وتعتبر في طليعة حركة الرفض الشعبية لحكم مبارك ومشروعه، ولا تستطيع القوى القومية إجهاض ذلك المشروع وحدها. وهي مستمرة في نشر وتعبئة الرأي العام عبر خطاب وطني جامع يقدر على إلحاق الهزيمة به. ولا نستغرب إذا ما استقر في وعي كثير من المصريين أن جمال مبارك هو الوريث الذي يمارس الحكم من مدة قبل اختفاء والده أو اعتزاله، وهذا على الرغم من الاحتجاجات المستمرة والمظاهرات المتكررة.
ومع الكثرة العددية لطبقات وفئات العمال والفلاحين وصغار ومتوسطي موظفي الدولة وصغار الكسبة، وهي كثرة تمنح العمل الوطني عمقه الحقيقي، ما زال جهد هذه الكثرة أقل من القدرة على فرض مطالب عامة وجامعة.. لأنها اكتفت بمطالب جزئية وفئوية وهذا أتاح لحسني مبارك فرض ما يريد بعد أن خبر عجز عمال القطاع العام وموظفيه على مدى سنوات عمره عن الحفاظ على مصانعه ومؤسساته وشركاته، وانتصر عليهم وهم يدفعون الآن ثمن ذلك تشريدا وبطالة وفقرا وجهلا وهروبا، وهذا زاد ثقته في كفاءة منظومة الفساد وقدرتها على إدارة الحكم ورعاية النهج البوليسي وتمكنها من تصفية ومصادرة أدوات العمل السياسي والأهلي والنقابي، وبذلك اقتصرت مقاومة التوريث على أفراد وجماعات صغيرة ومتوسطة، ما زالت جديدة، وفي حاجة إلى الوقت والرعاية حتى تنضج ويكتمل نموها.
وضعف هذه الأدوات وقلة إمكانياتها بما لا يقارن بالإمكانيات المتوفرة لمشروع التوريث.. من مال ودعاية ومغريات أدتا إلى ميل ميزان القوى لصالح التوريث، ومع ذلك لم تتوقف مقاومته لحظة. وتنشيط المقاومة وزيادة فعاليتها يقتضي تأسيس حركة سياسية عريضة وعامة، تتسع للقوى الوطنية الرافضة للتوريث، تصيغ لنفسها برنامجا سياسيا وجدولا زمنيا تلتزم به. وهذا الميل زين لصاحب المشروع قدرته على تمريره، استغلالا لظروف الفراغ، الذي يتصوره مخففا لأزمات الحكم واحتقاناته، ومانحا الفرصة للحزب الحاكم أن يكون الحزب الوحيد الذي لا ينافس ولا ينازع، معتمدا على شعارات طفولية مثيرة للسخرية، ينشرها ويروجها باسم الفكر الجديد، بعد أن طلق ذلك الحزب السياسة طلاقا بائنا، بعد أن تحول إلى شركة آلت ملكيتها إلى الساعد الأيمن لجمال مبارك، صاحب أكبر احتكار للحديد وأمين التنظيم وعضو لجنة السياسات.
وميل الميزان لصالح مشروع التوريث جاء نتيجة ما لأنصاره من وجود وتأثير في مجالات المال والاقتصاد والسياسة والإعلام، ومن علاقات وجسور ممتدة مع القوى الانعزالية في الداخل ومع المشروع الصهيوني في المحيط الإقليمي (اتفاقيات الكويز والغاز)، وفي المحيط الدولي ينعمون بدعم ومساندة المنظومة الغربية بكل نفوذها وقوتها وعنصريتها. لذا فإن معركة التوريث ليست سهلة. والتجربة الإنسانية على مر التاريخ تؤكد أن هذا النوع من الانتصار لا يدوم، لما فيه من نقاط ضعف وأمراض تنخر في عظامه. وأهمها أن صاحب المشروع لا يضع الشعب في حسابه ولا يعبأ بمصالحه ولا يراهن عليه، ومن يعتمد عليهم يفتقدون العمق ودون جذور، يسهل اقتلاعهم مع أول ريح للتغيير تهب عليهم. وهم لا يستريحون إلا في أحضان القوى الأجنبية وتحت الحماية الخارجية. لذا اعتبرت زيارة مبارك الأب لواشنطن واستقبال أوباما له فتحا عظيما أتاح له فرصة تقديم أوراق اعتماد جديدة لدى البيت الأبيض، وسوف تكون مصر الرسمية رأس الحربة في المشروع الأمريكي الذي يتسع ويتمدد في ربوع الوطن العربي والعالم الإسلامي.
-----------
القدس