يشهد الشرق الأوسط حالياً تطوّرات متسارعة على وقع محادثات فيينا النووية والحوار السعودي – الإيراني والمسعى التركي لترميم العلاقات مع القاهرة والرياض. وهذه المتغيرات التي أتت بعد حملة التطبيع مع إسرائيل إبان حكم دونالد ترامب، تأتي في سياق إعادة تركيب المنطقة وتنظيم الخلافات بين أقطابها من أجل وقف الاستنزاف وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار في ظل تعذّر التسويات الناجزة.
لكن الواقعية السياسية التي فرضت نفسها على جدول الأعمال الإقليمي، لن تقود على الأرجح إلى إطفاء نزاعات مزمنة أو مستجدة منذ عقد من الزمن، إذ أن مسيرة التعافي ستكون شاقة بعد تصدع عدة دول مركزية وانهيار اقتصادات وتحريك خرائط وميليشيات ومنظمات إرهابية. ولأن هذه المنطقة تبقى أساسية في صراعات الكبار وفي رسم توازنات تشكيل النظام الدولي الجديد، يمكن لإعادة النظر في سياسات القوى الإقليمية الأساسية ولنهج التهدئة في التوصل إلى تنظيم الخلافات وليس إلى قرب بلورة مشهد جيوسياسي جديد.
الشرق الأوسط موئل الديانات التوحيدية الثلاث ومسرح نزاعاتها وانقساماتها التي تسري أيضاً على المسلمين وخاصة بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد حرب العراق في 2003 وتأجيج الفتنة. ومن الواضح أن الأمر زاد حدة مع استئناف إيران تصدير ثورتها من اليمن إلى سوريا، واستخدام ذلك لتوسيع نفوذها على حساب ديمومة الدول العربية وأراضيها وشعوبها. ونظرا للتناقضات الجذرية بين الجانبين من ناحية التوجه الديني والسياسي وتبعا لعدم وجود قرار إيراني باحترام قواعد القانون الدولي في احترام سيادة الدول، أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه جلسات الحوار لن يتخطى، على الأرجح، التهدئة والحفاظ على الوضع القائم، مع إمكانية لبعض الحلحلة في بعض الملفات الخلافية.
والواضح أن المعطى الجديد الإيراني – السعودي شجع الرئيس رجب طيب أردوغان على ترتيب علاقاته مع الرياض بعد محاولته إصلاح علاقاته مع القاهرة وذلك حتى لا يكون الخاسر في التجاذب بين القوى الإقليمية الكبرى وتأثر المكاسب التي أحرزها.
من ناحية التسلسل، منذ نهاية عام 2019، كانت هناك مخاوف حقيقية من أن تؤدي الأزمة في شرق البحر المتوسط والمواجهة في ليبيا إلى صراعات مفتوحة. ومع ذلك، أدى تضاعف عدد الأطراف الفاعلة وديناميكية التضامن الأوروبي مع اليونان وقبرص إلى صراعات منخفضة الحدة. ولذا كان الانتقال من إدارة ترامب إلى إدارة بايدن كافياً، مع التلويح بفرض العقوبات الأوروبية ضد أنقرة، حتى يبدأ الرئيس أردوغان في التراجع ومحاولة التصالح مع الاتحاد الأوروبي ومصر. وهكذا يمكن أن تنجح الآليات الدبلوماسية وعناصر القوة الناعمة في الحد من مخاطر المواجهة المسلحة.
ومن هنا في مواجهة التكوين الجديد في منطقة البحر الأبيض المتوسط المتميز بتعاظم الدور التركي، والاندفاع الروسي، ووصول الصين، وتراجع الدور الأميركي، تجهد القوى الأوروبية لاستعادة موطئ قدم في منطقة غير مستقرة وحيوية بالنسبة إلى مصالح القارة القديمة خاصة بعدما أصاب الكسوف دورها من سوريا إلى ليبيا. في الوقت الحالي، لم تنجح المبادرة الفرنسية لإنقاذ لبنان وجعله بوابة العودة الأوروبية إلى المشرق، لكن هذه الانتكاسات لم تمنع المفوضية الأوروبية من تقديم “أجندة جديدة للبحر المتوسط” في فبراير الماضي، بتمويل يصل إلى سبعة مليار يورو للفترة 2021 – 2027.
يحدث كل ذلك بعد الركود في مساعي التطبيع بين إسرائيل ودول عربية خلافاً لما كان عليه الأمر في ظل إدارة ترامب. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر اتفاقية التعاون الاستراتيجي الموقعة بين الصين وإيران، وكذلك النشاط الروسي من سوريا إلى ليبيا، ونهج إدارة بايدن المتردد، مدى إعادة التشكيل الجيوسياسي في الإقليم. وفي موازاة ذلك لا يبدو أن اتجاه بعض الدول العربية لإعادة الوصل مع دمشق وإعادة تأهيل النظام عربياً، قد يقود بالضرورة لإزالة التحفظات الغربية حيال الرئيس بشار الأسد أو لتفكيك مناطق النفوذ مع امتداداتها الإقليمية والدولية.
--------
العرب
لكن الواقعية السياسية التي فرضت نفسها على جدول الأعمال الإقليمي، لن تقود على الأرجح إلى إطفاء نزاعات مزمنة أو مستجدة منذ عقد من الزمن، إذ أن مسيرة التعافي ستكون شاقة بعد تصدع عدة دول مركزية وانهيار اقتصادات وتحريك خرائط وميليشيات ومنظمات إرهابية. ولأن هذه المنطقة تبقى أساسية في صراعات الكبار وفي رسم توازنات تشكيل النظام الدولي الجديد، يمكن لإعادة النظر في سياسات القوى الإقليمية الأساسية ولنهج التهدئة في التوصل إلى تنظيم الخلافات وليس إلى قرب بلورة مشهد جيوسياسي جديد.
من خلال تفحص المتغيرات الأخيرة يتضح أننا لسنا أمام مصالحات أو أمام حسم الموقف لصالح محور معين، بل أمام محاولة تهدئة وتنظيم للخلافات بانتظار نتائج محادثات فييناتتسارع الأحداث والمتغيّرات في الشرق الأوسط المضطرب، إذ أن وصول إدارة جو بايدن واتجاه العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وتغيير السياسة الأميركية إزاء الرياض، دفع نحو تنظيم الحوار السعودي – الإيراني في العراق ومحاولة ترتيب تهدئة بين قوتين أساسيتين في الإقليم، تخاصمتا طويلا وخاضتا حروبا بالوكالة منذ عدة سنوات. والآن مع توجهات واشنطن، يبدو أن المساكنة الباردة تلوح في الأفق.
الشرق الأوسط موئل الديانات التوحيدية الثلاث ومسرح نزاعاتها وانقساماتها التي تسري أيضاً على المسلمين وخاصة بين المملكة العربية السعودية وإيران بعد حرب العراق في 2003 وتأجيج الفتنة. ومن الواضح أن الأمر زاد حدة مع استئناف إيران تصدير ثورتها من اليمن إلى سوريا، واستخدام ذلك لتوسيع نفوذها على حساب ديمومة الدول العربية وأراضيها وشعوبها. ونظرا للتناقضات الجذرية بين الجانبين من ناحية التوجه الديني والسياسي وتبعا لعدم وجود قرار إيراني باحترام قواعد القانون الدولي في احترام سيادة الدول، أقصى ما يمكن أن تتوصل إليه جلسات الحوار لن يتخطى، على الأرجح، التهدئة والحفاظ على الوضع القائم، مع إمكانية لبعض الحلحلة في بعض الملفات الخلافية.
والواضح أن المعطى الجديد الإيراني – السعودي شجع الرئيس رجب طيب أردوغان على ترتيب علاقاته مع الرياض بعد محاولته إصلاح علاقاته مع القاهرة وذلك حتى لا يكون الخاسر في التجاذب بين القوى الإقليمية الكبرى وتأثر المكاسب التي أحرزها.
من ناحية التسلسل، منذ نهاية عام 2019، كانت هناك مخاوف حقيقية من أن تؤدي الأزمة في شرق البحر المتوسط والمواجهة في ليبيا إلى صراعات مفتوحة. ومع ذلك، أدى تضاعف عدد الأطراف الفاعلة وديناميكية التضامن الأوروبي مع اليونان وقبرص إلى صراعات منخفضة الحدة. ولذا كان الانتقال من إدارة ترامب إلى إدارة بايدن كافياً، مع التلويح بفرض العقوبات الأوروبية ضد أنقرة، حتى يبدأ الرئيس أردوغان في التراجع ومحاولة التصالح مع الاتحاد الأوروبي ومصر. وهكذا يمكن أن تنجح الآليات الدبلوماسية وعناصر القوة الناعمة في الحد من مخاطر المواجهة المسلحة.
ومن هنا في مواجهة التكوين الجديد في منطقة البحر الأبيض المتوسط المتميز بتعاظم الدور التركي، والاندفاع الروسي، ووصول الصين، وتراجع الدور الأميركي، تجهد القوى الأوروبية لاستعادة موطئ قدم في منطقة غير مستقرة وحيوية بالنسبة إلى مصالح القارة القديمة خاصة بعدما أصاب الكسوف دورها من سوريا إلى ليبيا. في الوقت الحالي، لم تنجح المبادرة الفرنسية لإنقاذ لبنان وجعله بوابة العودة الأوروبية إلى المشرق، لكن هذه الانتكاسات لم تمنع المفوضية الأوروبية من تقديم “أجندة جديدة للبحر المتوسط” في فبراير الماضي، بتمويل يصل إلى سبعة مليار يورو للفترة 2021 – 2027.
يحدث كل ذلك بعد الركود في مساعي التطبيع بين إسرائيل ودول عربية خلافاً لما كان عليه الأمر في ظل إدارة ترامب. بالإضافة إلى ذلك، تُظهر اتفاقية التعاون الاستراتيجي الموقعة بين الصين وإيران، وكذلك النشاط الروسي من سوريا إلى ليبيا، ونهج إدارة بايدن المتردد، مدى إعادة التشكيل الجيوسياسي في الإقليم. وفي موازاة ذلك لا يبدو أن اتجاه بعض الدول العربية لإعادة الوصل مع دمشق وإعادة تأهيل النظام عربياً، قد يقود بالضرورة لإزالة التحفظات الغربية حيال الرئيس بشار الأسد أو لتفكيك مناطق النفوذ مع امتداداتها الإقليمية والدولية.
الواقعية السياسية التي فرضت نفسها على جدول الأعمال الإقليمي، لن تقود على الأرجح إلى إطفاء نزاعات مزمنة أو مستجدة منذ عقد من الزمنيتضح من خلال تفحص المتغيرات الأخيرة أننا لسنا أمام مصالحات أو أمام حسم الموقف لصالح محور معين، بل أمام محاولة تهدئة وتنظيم للخلافات بانتظار نتائج محادثات فيينا وتداعيات نجاحها المحتمل، وكذلك اتضاح الوضع الإسرائيلي الداخلي والانعكاسات على اختبار القوة المستمر مع إيران التي تنتظر أيضا نتائج انتخاباتها الرئاسية في يونيو القادم. وحسبما سربت الصحافة الأميركية عن المباحثات التي دارت في واشنطن بين كبار مسؤولي الأمن القومي الإسرائيلي وإدارة بايدن عن وجود خلافات كبيرة بشأن نية الإدارة العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والذي يعتبره الجانب الإسرائيلي ممهّداً لكي تصبح إيران دولة على عتبة إنتاج أسلحة نووية، بينما تكسب على الفور المليارات من الدولارات، مما يتيح لها حسب الإسرائيليين “زرع النفوذ وتصدير الإرهاب في جميع أنحاء الشرق الأوسط وصولا إلى تدمير إسرائيل نفسها”. وعلى ما يبدو لا يأبه فريق بايدن بهذه المخاوف وتعديل توجهاته الاستراتيجية على أساسها. وهذا المثل لوحده يكشف وجود هوة من عدم الثقة بين حليفين تاريخيين، وهو بالإضافة إلى التغيير التكتيكي في خطابات العديد من الأطراف، يؤكد أن ترتيب استقرار الحد الأدنى ليس بالمضمون في الشرق الأوسط المسكون بالهواجس والأساطير والمغامرات الإمبراطورية ولعنة الجغرافيا والثروات.
--------
العرب