فبعد سنتين من الآن، وإن لم يستجد جديد، بأقدار الله أو بأقدار الناس، سوف يكون مبارك قد قضى على كرسي الرئاسة ثلاثين سنة كبيسة، وضرب الرقم القياسي في البقاء بحكم مصر منذ محمد علي الألباني أوائل القرن التاسع عشر، ولا يبدو أن مبارك ـ الموغل في ثمانينياته ـ قد يقنع بما مضى، وقد يتطلع إلى أن يظل رئيسا حتى يبلغ سنته المئة، وهو يردد كل فترة عبارته المأثورة، وهي أنه سوف يبقى في الحكم 'حتى آخر نفس'، ربما بقصد التنكيل النفسي بالمصريين، ربما يقصد ـ على الأرجح ـ أن يغيظ ابنه الذي يتطلع للتعجيل بالقفز رسميا على كرسي الرئاسة، بينما يميل الأب إلى التأجيل، وفي الحالين، فنحن أمام المصير الأسود ذاته، أمام بقاء او استنساخ نفس السياسات التي انحطت بمصر وأذلت أهلها، والاستيلاء على السلطة بالطريقة ذاتها، وهي أن يتم تنظيم ما يسمى انتخابات برلمان وانتخابات رئاسة، وتجري بالطريقة الصورية المزورة بالكامل، واستنادا إلى جماعة المنتفعين وجماعة الأمن، وإلى الحزب الإداري ذاته، حتى وإن تغير اسمه من 'الحزب الوطني' إلى 'حزب الليكود' (!)
وخطة 'كفاية' تبدأ بالمقاطعة ولا تنتهي عندها، فالمشاركة في ألعاب النظام وانتخاباته خطيئة وطنية ودينية، والسبب ظاهر، فالمعروض ليس انتخابات من أصله، بل تعيينات إدارية مباشرة، و'كفاية' حين ظهرت ـ قبل خمس سنوات ـ كانت تطالب بمقاطعة انتخابات النظام، وترى في المشاركة إضفاء لشرعية مفتعلة على نظام غير شرعي بالتأكيد، وقتها كان يصح أن يراوغ البعض، وأن يروا في المشاركة مزايا وفرصة لفضح التزوير، كانت القشة التي يتعلقون بها هي الإشراف القضائي على الانتخابات، وزادت حالة التعلق بالقشة بعد حكم شهير للمحكمة الدستورية العليا صدر سنة 2000، وفسر نص الدستور ـ في المادة 88 ـ على الإشراف القضائي بطريقة محددة جدا، وهي الإلزام بوجود قاض فوق رأس كل صندوق انتخابي، وكان ذلك ـ وغيره ـ سببا في خرق واضح لنطاق التزوير المحكم، ودخول مايزيد عن مئة نائب معارض ـ غالبهم من الإخوان ـ إلى البرلمان في انتخابات أواخر 2005، وهو ما جرى الانقلاب عليه بالكامل مع تعديلات الدستور التي استفتى عليها صوريا في 26 آذار (مارس) 2007، وألغت الإشراف القضائي عمليا، وأحلت محله إشرافا عمليا لضباط الشرطة، وأنهت قصة الانتخابات بالكامل، ونقلتنا من تزوير الانتخابات إلى تزوير الدستور، ومن تزوير الانتخابات إلى 'تشفير' الانتخابات، وحولت الانتخابات إلى فيلم كارتون، فوق تقييد الحق في الترشح لانتخابات الرئاسة بالذات، وتحويلها إلى 'لعبة رجل واحد' من عائلة مبارك، واستضافة 'كومبارسات' من الأحزاب المرخص لها أمنيا، والتي لا يزيد تأثيرها ونفوذها كثيرا عن صفر بالمئة في أوساط الشعب المصري، ومع هذه الصورة الكئيبة، لا يصح الحديث عن انتخابات من أصله، والمقاطعة التي ندعو إليها ليست مقاطعة لانتخابات يتوقع أن تجري، بل هي مقاطعة لهزل فاضح وكوميديا سوداء، وموقف أخلاقي قبل أن يكون سياسيا، ولا يصح لأحد أن يلتمس عذرا بالجهل، فالذي يشارك يرتكب جريمة بالقصد أو بدونه، يشارك في جريمة غش الناس وتزييف وعيهم، ويضفي شرعية على عملية اغتصاب مباشر للسلطة، ويدعم التمديد للأب أو التوريث للابن، فلا فرصة لإجراء انتخابات تتوافر لها شروط الحد الأدنى من اعتبارات السلامة مع بقاء هذا النظام، فالإنهاء السلمي لنظام مبارك وعائلته شرط جوهري يسبق الحديث عن أي انتخابات.
المقاطعة ـ إذن ـ هي نقطة البدء، ليس ابتعادا عن الميدان، بل لإنشاء ميدان معركة حقيقية جادة لكسب حرية الشعب المصري، ابتعاد بالقصد عن ملعب الخصم الذي جعل من نفسه حكما، وهو محض سارق ومغتصب لسلطة وثروة البلد، وتركه يلعب وحده مع 'كومبارساته'، وطرح بديل رئاسي من خارج لعبة الحكم كلها، لا يخوض انتخابات النظام، بل يعرض على الشعب فيما يشبه 'انتخابات موازية'، وفي الفكرة تفاصيل قد لا يتسع المقام للإحاطة بها، فقط تتوجب الإشارة إلى تطور جوهري جرى على خطة كفاية للتغيير، وعبر عن نفسه في إطلاق مبادرة 'ائتلاف المصريين من أجل التغيير' عشية الذكرى السنوية الأولى لانتفاضة 6 نيسان (أبريل) 2008، والتي جمعت تيار المعارضة الراديكالية الجديدة ـ بشخصياته وجماعاته السياسية والاجتماعية ـ في إطار سياسي طرح بديلا غاية في الوضوح، وهو الإنهاء السلمي للنظام القائم بطريق العصيان المدني، والدخول في مرحلة انتقالية لمدة سنتين، يترأس البلاد خلالها رئيس محايد وحكومة ائتلاف وطني، وينفذ جملة إجراءات ديمقراطية ووطنية واجتماعية منصوص عليها في البيان التأسيسي لائتلاف التغيير، وتنتهي المرحلة الانتقالية بإنشاء دستور جديد لمصر بجمعية تأسيسية منتخبة، ثم يدور الأمر سجالا عبر صناديق انتخابات البرلمان والرئاسة، والفكرة ـ كما هو واضح ـ تصوغ سيناريو الانتقال من حكم العائلة إلى حكم الشعب، وهي غير ممكنة التنفيذ بالطبيعة مع بقاء النظام الحالي، وهنا طرحت 'كفاية'على شركائها في ائتلاف التغيير خطوة هجومية مباشرة، وهي اختيار رئيس محايد مجمع عليه وطنيا، وحكومة ائتلاف وطني معه من كافة تيارات المعارضة الحية، ومن الآن، وبهدف شخصنة البديل السياسي للنظام القائم، وإجراء تغيير جوهري في البيئة السياسية، والانتقال من صيغة وجود نظام وآخرون يعارضونه، إلى صيغة نظام غير شرعي ونظام بديل يقوم بمواجهته في الشارع، ويخوض معركة تكسير عظام مع النظام، وقوائم الاختيار الممكن للرئيس البديل متسعة بإطراد، المهم: أن يتفق تيار الائتلاف وجماعة الإخوان وأطراف أخرى عليه، وأن يستعدوا لخوض المعركة إلى آخرها من حوله، وقد يصح أن نتقدم لإنشاء جمعية عمومية للشعب المصري، يتمثل فيها نواب المعارضة الجدية من الإخوان وغيرهم، ومع ممثلين لجماعات المعارضة الراديكالية السياسية والاجتماعية المكونة لائتلاف التغيير، وأن يجري التصويت في هذه الجمعية العمومية المقترحة على اسم الرئيس البديل، وفي قوائم المرشحين متسع للاختيار، شرط أن يتم اختيار رئيس بديل يتمتع بالصلابة الكفاحية، ومستعد لتحمل ضرائب ثقيلة لمواجهة سياسية مفتوحة، وفي مصر المعارضة احترام كبير لقادة تيــــار استقلال القــــضاة، ولرموز من نوع المستشارين الكبار زكريا عبد العزيز وهشــام البسطويسي ومحمود الخضيري وأحمد مكي ومحمود مكي وهشام جنينة وأشرف البارودي، وقد يصح الاختيار من بينهم أو من غيرهم، وقد يكون تحرر هؤلاء من قيود المنصب القضائي من لزوم ما يلزم، ولعل استقالة المستشار الجليل محمود الخضيري ـ نائب رئيس محكمة النقض ـ مما يحفز آخرين على التقدم إلى المخاطرة ذاتها.
يبقى العصيان السلمي، وهو الوجه الثالث لثنائية المقاطعة والبديل الرئاسي، وفي سيرة العصيان المصري، فقد ثبت أن الفكرة الملهمة شرط جوهري لإيقاظ واستنفار الجسد الهامد، وكفاية حين ظهرت كانت في ذاتها فكرة ملهمة، كان خروج مئاتها الأولى إلى الشارع، وتحدي حواجز الخوف، ورفع سقف المعارضة، ورفض عبودية التمديد والتوريث، كانت تلك كلها دواع لعدوى سرت بسلوك العصيان السلمي إلى قواعد اجتماعية كبرى، وتناسلت مظاهرات ووقفات 'كفاية 'الاحتجاجية الأولى، وصارت سلوكا مألوفا لمئات الآلاف من المصريين خرجوا من كهف الصمت، وتداعت ظواهر غضب اجتماعي وسياسي اجتمعت مرة في انتفاضة نيسان (أبريل) 2008، وأثبتت مصر مقدرتها على العصيان، وهو الدرس الذي استوعبته كفاية، وكان موضع إلهامها في الانتقال لطور آخر، وهو جمع الموارد البشرية لطلائع التغيير في صيغة 'ائتلاف المصريين من أجل التغيير'، ونتصور أن التقدم لطرح بديل رئاسي هو الفكرة الملهمة الجديدة، والتي يصح أن تدور من حولها معارك عصيان سلمي أكثر تطورا، وبوسائل قانونية وشارعية قابلة للتراكم السريع، ولعل 'محاكمة جمال مبارك' التي طرحتها 'كفاية' مؤخرا، والصدى الواسع للدعوة، والحماس الفياض لفضح حكم العائلة، ثم التقدم لمحاكمات قضائية وشعبية في قضايا كبرى من نوع جريمة تصدير الغاز لإسرائيل، والتزوير المنهجي المنتظم للانتخابات، وطلب عزل الرئيس وحل الحزب الحاكم، وجمع توكيلات شعبية بالملايين تأييدا للرئيس البديل، والمبادرة بتوجيه خطاب تنحى لمبارك، وطلب تسليم البلاد للرئيس البديل وحكومته الائتلافية، لعل تلك ـ وغيرها ـ مما يصح أن يتقدم المشهد المصري في سنتين حاسمتين يتوقف على ما يجري فيهما مستقبل مصر لزمن طويل مقبل.
والمحصـــلة: أن طريــــق التغيير يبدو واضحا لمن يريدونه، وهو ما لن يحدث بغير استعداد هائل للتضحية، ودفع ثمن الحرية.