أميركا التي تبحث عن عدو
تبدأ أحداث الكتاب عام 2012 إثر تفجير فرع فلسطين في العاصمة السورية دمشق، ما فتح أعين الولايات المتحدة، التي لن نذكر أسماء الفاعلين ضمنها بدقة، لكن الواضح أن التخوف حينذاك كان من الإرهاب، إذ افترض مستشارو البنتاغون والبيت الأبيض أن تمكن الجماعات الإسلامية المسلحة (التي لم تمتلك اسماً واضحاً حينذاك) من مهاجمة منتصف العاصمة دمشق، يعني أن الأسد لم يعد قادراً على السيطرة على البلاد، و أطنان السلاح الكيماوي، الذي تعرف عنه الـCIA بدقة منذ الثمانينيات، ستكون في متناول أي أحد، والأهم، سبق للقاعدة أن حاولت استخدام السلاح الكيماوي في هجماتها الإرهابيّة، ما يعني خطرا كيماوياً إرهابياً على كل العالم.
هذه المقدمة تلخص موقف إدارة أوباما و"خطه الأحمر" من وقوع السلاح الكيماوي بيد الإرهابيين، أما استخدام الأسد له وقتله المستمر للشعب السوري فلم يكن المحرك الأول، إذ تتكرر بوضوح عبارة "اقتل بكل شيء عدا الكيماوي" في الكتاب، تلك التي تحضر في المفاوضات بين الأميركان والروس، فـ"الدولة" في سوريا لا حوارات معها، بل هم أشبه بموظفين بيروقراطيين ، فالسلطة الحقيقية بيد روسيا.
"الإرهاب" هو ما حرّك أميركا والأمم المتحدة، خصوصاً أن أوباما لم يتدخل عسكرياً في سوريا بعد "تجاوز الخط الأحمر"، بحجة أن الكونغرس لم يصوت على ذلك، بل كان هناك أمل بأن يسلم النظام السوري أسلحته الكيماويّة طوعاً، وفعلاً هذا ما حصل.
رحلة تفكيك الكيماوي شبه المستحيلة وماكينة المارغريتا
نقرأ في الكتاب عن استخدام الأسد الأسلحة الكيماوية في الغوطة وفي سراقب، وكيف تحولت مريم الخطيب من أم وزوجة، إلى جثة في براد في مشفى تركي، ثم إلى دليل قانوني لإدانة الأسد، وبالرغم من التفاصيل المرعبة التي نقرؤها، لكننا نتتبع في الكتاب عملية إنتاج الدليل القانوني لإدانة الأسد وإثبات وجود الأسلحة الكيماوية، تلك التي تحوي لمسة "سوريّة" خاصة، إذ طور العلماء العاملون في مركز البحوث في دمشق أسلوباً لمزج المواد الكيماوية قبل ساعات من إطلاقها، ما يساعد على الحفاظ عليها في التخزين لفترات طويلة، وبناء على هذه المعلومات نقرأ عن بعثة المراقبين، وكيف رضخ الأسد نهاية وسمح بدخول المراقبين بل وقام بتسليم الـ13 ألف طن بأكملها.
موافقة الأسد على تسليم الأسلحة الكيماويّة كانت المعضلة السياسية والدبلوماسية، لكن المشكلة الأكبر، هي بالتنفيذ، الكمية الكبيرة التي يمتلكها الأسد من المواد الكيماويّة تركت المراقبين ووزارة الدفاع الأميركية وإدارة أوباما أمام معضلة تقنيّة، فنقل هذه المواد ثم التخلص منها صناعياً ليس بالسهل، والعديد من الدول رفضت استقبالها، ناهيك عن إمكانية نقلها بأمان في سوريا التي كانت المعارك تشتعل فيها
هنا يعرفنا واريك على تيموثي بلايد، الذي يعمل في قسم الأسلحة الكيماويّة في وزارة الدفاع في الولايات المتحدة، وهو حسب الكتاب الشخص الأنسب للمهمات الصعبة والمستحيلة فهو "عنيد، مغرور" بل ويتحدى من هم أعلى رتبة منه، الأهم أنه ذو خبرة طويلة في تفكيك الأسلحة الكيماويّة في دول الاتحاد السوفييتي السابق، بل سبق له أن تعرض للأذى منها في أكثر من مرة.
ما قام به بلايد شبه مستحيل، إذ صمم آلة لتفكيك الأسلحة الكيماوية باسم "ماكينة المارغريتا " هذه الآلة تستخدم المياه لفصل المكونات السامة وإبطال مفعولها، وأهمية هذا الجهاز، تكمن في كلفته المنخفضة نسبياً "3 ملايين دولار"، والأهم، إمكانية نقله من مكان إلى الآخر، وتمكن بلايد من صناعة النموذج الأول منه في أقل من ستة أشهر، والأهم، وبما أن الهدف هو إخراج الأسلحة من سوريا، طور بلايد النموذج كي يصبح صالحاً للعمل في البحر، أي ضمن سفينة (كاب راي) العملاقة، ما يعني خطراً بيئياً هائلاً خصوصاً أن السفينة مهددة لكونها غير مخصصة لذلك، واحتمالات غرقها أو تسرب ما فيها عالية، فالتقارير كانت تشير من لحظة انطلاقها إلى لحظة نهاية المهمة في منتصف المتوسط أنها قد تغرق أو تنفجر أو يتسرب ما فيها، لكن بعد ما يقارب الأربعين يوماً تم تفكيك كل المواد الكيماويّة، تلك التي نقلت من ميناء اللاذقية، عبر سفينتين دنماركية و سويدية، إلى ميناء في إيطاليا حيث حملت المستودعات على ظهر (كاب راي)، ثم إلى ألمانيا حيث سلمت النفايات لتتلف هناك بشكل نهائي.
تم تفكيك الـ13 ألف طن بأكملها، لكن هل توقف استخدام الكيماوي؟، لا، فالرقم المشار إليه يعود للثمانينيات، وهناك أكثر من 30 عاماً من الأبحاث وتطوير الأسلحة الكيماوية، التي لا يوجد دولياً سوى بضعة دلائل على ترسانة الأسد الحقيقية، والتي مرة أخرى هددت "الغرب" لا لخطورة الأسد بل خوفاً من أن يستخدمها تنظيم داعش، والذي استهدف الأكراد بغاز الكلور عدة مرات.
سخرية غاز الكلور
بالرغم من تسليم الأسد للأطنان المسجلة لدى المخابرات، بقي كثير من "المواد الكيميائيّة" مجهول المصير، بل إن النظام السوري كان يجيب بشكل تافه ومضحك عن تساؤلات المراقبين، مرة متهماً الجاسوس بأنه كذاب، أو هناك أوراق ضائعة، أو أن أطنان مركبات كيماويّة كانت بهدف التجارب الطبيّة، لكن أكثر ما يثير الحنق، هو استخدام الأسد لغاز الكلور أكثر من 200 مرة بعد تسليمه الأسلحة الكيماويّة، فهذا الغاز غير مصنف كسلاح كيماوي، لكونه لا يسبب الموت إلا بأعداد قليلة، وإنتاجه بكميات كبيرة سهل بل و"شرعي" لكون مكوناته موجودة في المبيدات الحشريّة، وهنا تظهر لمسة النظام السوري مرة أخرى، عبر استخدام "البراميل الكيماويّة" لا المتفجرة وإلقائها على الأحياء المدنيّة، الأمر الذي لم يحصل منذ الحرب العالميّة الأولى، لسبب بسيط، غاز الكلور ينشر الرعب والفوضى أكثر مما يؤدي إلى موت العدو.
يظهر نظام الأسد أشبه بغول من نوع ما، في حال لم يتم لجمه فهو لن يتلهم شعبه فقط، بل العالم بأكمله، ذاك الذي يشاهد فقط، يحاول الدفاع عن سيادته وأمنه الوطني متجاهلاً الشعب السوري الذي يتعرض للموت، هذه العبارات الرنانة تتكرر في الكتاب، والتي حين قراءة التفاصيل والجهود المبذولة لا يمكن سوى ترديدها، خصوصاً أمام وقاحة الأسد نفسه، بل واستخدامه سلاحاً كيماوياً أمام أعين أول بعثة وصلت إلى دمشق، وكأنه يقول، إن الأسلحة التي أُخرجت من سوريا، ليست إلا جزءاً يسيراً مما يمتلكه، والأهم رسالة مفادها أن لا حوار مع هكذا نظام سوى عبر ليّ ذراعه والضغط على حلفائه.
------------
تلفزيو ن سوريا