إلا أنَّ بريطانيا لا تواجه وحدها اليوم مشاكل اقتصادية واستهلاكية، وإن كانت تبعات «بريكست» شبه محصورة بها. وبصرف النظر عن الفوضى والإرباك الناجمين عن جائحة «كوفيد - 19»، التي هزَّت العالم بأسره، فإنَّ دول الاتحاد الأوروبي ومثلها الولايات المتحدة، تمرُّ في حقبة سياسية لا يطمئن معها المحلل السياسي إلى حصافة القيادات وحنكتها وقناعاتها الفكرية والأخلاقية، ناهيك من رؤيويتها ومستوى احترامها لذواتها والمؤسسات الديمقراطية التي أهلتها للحكم.
أدرك أن هذا كلام خطر، ثم أين أنا - المراقب العادي - من الحق في إلقاء «المحاضرات» على قادة وزعماء عالميين انتخبتهم ملايين. غير أن كوني ناخباً – في بريطانيا، في ما يخصّ شخصي – لديّ كل الحق في المساءلة والمحاسبة والمعاقبة عبر صندوق الاقتراع. نعم من حقّي، بل وواجبي، أن أحاسب الشخص أو الحزب الذي أوليته ثقتي بناءً على برنامجه أو وعوده... إذا ارتأيت أنه خدعني أو قصّر في أداء ما توقعته منه.
ولا نبعد كثيراً عن بريطانيا إذا تطرقنا إلى الحال في كل من ألمانيا وفرنسا.
ألمانيا تطوي في هذه الساعات صفحة حكم المستشارة أنجيلا ميركل، بعد فترة حكم طالت 16 سنة، لعلها كانت أفضل تعبير عن الديمقراطية العاقلة والمسؤولة في عموم أوروبا. وبصدق، أرجو أن يسير مَن سيخلف ميركل على خطاها باعتماد سياسات واعية وخلوقة وجامعة تنقذ أوروبا من نوازع الجموح المتطرف الذي يجتاح عدداً من دول القارة، وبالأخص، المجر وبولندا.
النظام الفيدرالي الألماني، مصحوباً بالنظام التمثيل النسبي الانتخابي مع عتبة الحد الأدنى لدخول البرلمان، يشكلان وقاية كافية من جموح الشعبوية والعنصرية التي دفعت ألمانيا ثمناً باهظاً لهما خلال القرن الـ20. ثم إن القوى المسؤولة داخل الأحزاب الألمانية الرئيسة أدركت، بحكم التجربة، ضرورة تغليب تعايش المعتدلين يميناً ويساراً من أجل درء خطر متطرفي الاتجاهين. وبالفعل، قادت الأجنحة المعتدلة في الحزبين الكبيرين (الديمقراطي المسيحي المحافظ والديمقراطي الاجتماعي الاشتراكي) نهضة ألمانيا بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، وقاد الحزبان إما حكومات حزبية يرأسها قادتهم المعتدلون أو حكومات ائتلافية عريضة التمثيل.
هذا «التفاهم» العريض في وجه الغلوّ اليميني المتزايد الخطورة في أوروبا وأميركا - بفعل العولمة والديموغرافيا والتكنولوجيا - حصّن حتى الآن ألمانيا. ومن ثم أسهم بإنجاح نهج ميركل، ورعى تعزيز مكانة ألمانيا داخل القارة، وأمام التحدي الخارجي... بما في ذلك العلاقات مع أميركا التي تشنّجت لبعض الوقت بفعل مشروع أنبوب الغاز الروسي.
نقيض هذا حاصل اليوم في فرنسا، حيث لا يبدو أن ابتزاز الرئيس إيمانويل ماكرون للناخبين الفرنسيين سيشكل ضمانة له قبل التجربة الانتخابية المقبلة في خضم التسابق بين المتطرفين في الجبهة العريضة المناوئة له. فاليسار الفرنسي المعتدل الذي خرج منه ماكرون - بل انقلب عليه – خسر جاذبيته أمام شعبوية «يسار» جان لوك ميلانشون، أما اليمين فيشهد مزايدات يقودها الصحافي اليميني المتطرف إريك زمّور حتى على زعيمة «التجمّع الوطني» مارين لوبن! وفي هذا الأثناء، تترنّح سياسات ماكرون الخارجية وتقفد بريقها... من مبادرته اللبنانية الاسترضائية لإيران، إلى خسارة فرنسا صفقة الغواصات مع أستراليا، ومن ثم توتر علاقتها نتيجة لذلك مع كل من واشنطن وكانبرا ولندن.
«فزاعة» التطرف أفادت ماكرون حتى الآن، إذ صبّت لصالحه الأصوات الخائفة من جموح التطرف، لكن هذا الحال لا يدوم ولا يصلح كاستراتيجية ثابتة مستقبلاً. وفي هذه الأثناء، في المشهد الأوروبي الأوسع، ثمة مشاكل يتوقع أن تظهر بصورة أجلى في غياب الثقل الألماني العاقل، منها:
1- «التقاعد» الأميركي عن لعب دور مسؤول متّزن. وهذا «التقاعد» نتاج التجاذب غير الصحي بين إدارة ديمقراطية استنسابية ترتاح إلى التسويات والانكفاء والترضية - ليس فقط على حساب الحلفاء والأصدقاء بل أيضاً على حساب المبادئ التي قامت عليها أميركا - ... ومعارضة جمهورية متشدّدة وقاصرة ومغامرة باتت تشكل خطراً على النسيج الأميركي ومؤسسات الدولة.
2- التهديد الذي يواجه الاتحاد الأوروبي نفسه، من نمو قوى التطرف فيه، ومنها قوى باتت حاكمة في دول كالمجر وبولندا، بالإضافة إلى التيارات العنصرية والشعبوية والهامشية التي تتلقى دعماً مستتراً من قوى كبرى.
3- الدور الروسي المتزايد في ظل عودة موسكو إلى لعب دور الاتحاد السوفياتي السابق، مستفيدة من الانكفاء الأميركي عن القارة ومنطقة الشرق الأوسط، بينما توجه واشنطن المنقسمة «آيديولوجياً» على ذاتها... اهتماماً متزايداً إلى التحدي الصيني في آسيا وحوض المحيط الهادي.
4- الارتباك الظاهر على الأقل، في تعامل واشنطن مع «حلفائها» التقليديين، بمن فيهم القوى الأوروبية الاستعمارية والانتدابية، في عدد من النقاط الإقليمية الساخنة كأفريقيا والشرق الأوسط. ولا شك هنا بوجود حسابات معقدة في مناطق بات فيها لكل من بكين وموسكو مواضع قدم ونفوذ اقتصادي وجيوسياسي، بجانب الطموحات الاقتصادية. ولئن كان النفط والأسواق عنصرين مهمين في حسابات «التطبيع» الغربي مع إيران، ففي مخطط «الحزام والطريق» الصيني وأنابيب الغاز الروسية، وبوكسيت غينيا وليثيوم أفغانستان... مؤشرات إلى التحديات المقبلة أمام الغرب في غياب قيادات تاريخية عاقلة وذات توجهات استراتيجية مسؤولة وأخلاقية في آن.
------------
الشرق الاوسط
عيون المقالات
حلقة برباغندا إيران انتهت مدة صلاحيتها
26/11/2024
- د. منى فياض
الفرصة التي صنعناها في بروكسل
26/11/2024
- موفق نيربية
(هواجس إيران في سوريا: زحمة موفدين…)
24/11/2024
- محمد قواص
مستقبل لبنان بعهدة شيعته!
23/11/2024
- فارس خشان
هل تخشى إيران من الأسد أم عليه؟
23/11/2024
- ضياء عودة
المهمة الفاشلة لهوكستين
23/11/2024
- حازم الأمين
نظام الأسد وحرب النأي بالنفس عن الحرب
21/11/2024
- بكر صدقي
الأسد الحائر أمام الخيارات المُرّة
17/11/2024
- مالك داغستاني
العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب
17/11/2024
- العميد الركن مصطفى الشيخ
إنّه سلام ما بعده سلام!
17/11/2024
- سمير التقي
تعيينات ترامب تزلزل إيران ورسالة خامنئي للأسد تتعلق بالحرب التي لم تأتِ بعد
17/11/2024
- عقيل حسين
هذا التوجس التركي من اجتياح إسرائيلي لدمشق
16/11/2024
- عبد الجبار عكيدي
السوريات في الحياة الأوروبية والتجارب السياسية
15/11/2024
- ملك توما
هل دقّت ساعة النّوويّ الإيرانيّ؟
13/11/2024
- أمين قمورية
بشـار الأسـد بين علي عبدالله صـالـح وحسـن نصر الله
13/11/2024
- فراس علاوي
“وقف الحروب” اختبارٌ لترامب “المختلف”
13/11/2024
- عبد الوهاب بدرخان
( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )
13/11/2024
- عبد الباسط سيدا*
قنبلة “بهتشلي”.. ماذا يحدث مع الأكراد في تركيا؟
13/11/2024
- كمال أوزتورك
طرابلس "المضطهدة" بين زمنين
13/11/2024
- د.محيي الدين اللاذقاني
حين تمتحن سورية تلك النبوءات كلّّها
12/11/2024
- ايمن الشوفي
|
ماذا ينتظر العالم في حقبة ما بعد ميركل؟
|
|
|