انتشرت المشاهد أمامنا، في وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث بات لا مفرّ من الوقوع عليها، ثم استعجال الانتقال بلمس الشاشة إلى أخبار غيرها، كي لا تسجّل ذاكرتنا كامل معالم الضحايا والمجرمين فترافقنا نظراتهم أو أصواتهم وتُحيل مشروع يومنا إلى جهاد مستمرّ لنسيانها، للتخلّص منها ولَو لساعات.
فمن طرابلس، المدينة اللبنانية الأفقر والأكثر تهميشاً، مدينة رئيس الحكومة الملياردير، ومدينة ملياردير آخر كان شريكه في حكومة سابقة، جاءتنا صور أطفال وراشدين غرقى، لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، ملفوظين من موج البحر نحو الشاطئ، ملفوفة جثامينهم بالأبيض ومكفّنة بالدموع وقصص الفقر واليأس والعتمة والموت المالح.
وسمعنا من الناجين ممّن شهدوا الهول روايات عن إغراقهم أو على الأقلّ عن صدمٍ متعمّد لمركبهم الباحث عن رزق في ألدورادو مشتهاة خلف الأمواج، من قبل زورق حربيّ تابع للجيش اللبناني. ولم يُقنع كلام المسؤولين والضباط بعد ذلك أحداً، وبدا رقيعاً يكاد يبرّر الإغراق على أساس حتميّته واستحالة وصول المركب في أي حال إلى قبرص في ظلّ تهالكه ونقله «حمولة» أثقل من طاقته.
ومن سوريا وبمفعول رجعي، صعقتنا مشاهد وحوش يسوقون رجالاً ونساءً إلى لحظاتهم الأخيرة قبل تسع سنوات، فتتكدّس جثثهم فوق بعضها في حفرة تنطلق النيران عقب كل ارتطام بينها لتثقبها وتُغرقها في دمها، قبل أن تُلقى فوقها الدواليب وتُضرم النار في لحمها ويُهال عليها التراب في الحفرة ذاتها حيث صُرعت، بين مبنيين في حيٍّ منكوب جنوب العاصمة اسمه «التضامن». وقيل إن أنين الضحايا أحياناً وصمتهم أحياناً أخرى وشتائم القاتل وضحكات رفاق سلاحه لا تقلّ قساوة عن صُوَر السوق إلى الإعدام والنار والدفن الجماعي.
هكذا، خرجت من شاشاتنا جثث رافقتنا طيلة الأسبوع المنصرم في عاديّات أيامنا. في الشارع إن فتحنا الهاتف، وفي الصالون إن جلسنا ووضعنا الكمبيوتر المحمول على الركبتين، أو في مكان العمل إن قرّرنا استراق النظر بين موعد وآخر إلى وسائل «تواصلنا»، أو حتى خلال انتظار دورنا لنسدّد فاتورة مشتريات قرّرنا لإدمانٍ بات كونياً أن نستغلّ وقته «المهدور» للإجابة عن رسائل على الهاتف إياه، فإذا بفتحه يجعلنا مباشرة أمام مقالات وصور وروابط تُبقي الجثث حاضرة معنا، أو بيننا وبين المنتظرين أدوارهم من حولنا.
كأنّ علينا إن أتينا من هذه المنطقة من العالم، أو كنّا لها لِحبٍّ ولاختصاصِ عملٍ ولصداقات وذكرياتٍ مخلصين، أن نبحث عن أوقات مستقطعة بين جثّة وأخرى وبين زورق غرق وآخر لنتدبّر أمورنا ونتنفّس هواء لا رائحة دم فيه ولا بارود.
نكتب بعد ذلك، فنخشى أن تصبح الكتابة شديدة الكآبة وكثيرة الشكوى، غير قادرة على موازنة انفعالاتنا بانفعالات المتلقّين. ثم من هم المتلقّون؟ نتساءل عمّا إذا كنّا نكتب أصلاً لهم، أو إرضاءً لذواتنا أو لواجباتنا أو لتحويل صراخنا إلى نصوص، أو وفاء للضحايا الذين شهدنا لحظات عمرهم الأخيرة قبل الرصاص والنار، أو سمعنا روايات ابتلاع الموج لهم وطعم أعشابه في أفواه الناجين.
ونتساءل كذلك عمّا فكّر به الواحد وأربعون شخصاً الذين رماهم القاتل في حفرة حتفهم في التضامن. ماذا تذكّروا وما الذي تمنّوا توديعه؟ وهل صحيح أن شريط الحياة يمرّ بثانية هي الأخيرة قبل الانطفاء؟ ثم هل ندم مستقلّو المركب الطرابلسي إذ صدمه زورق الجيش، على ما قيل، لقرارهم الفرار إلى البحر هرباً من جحيم البرّ؟
تتناسل الأسئلة، فتصبح تعذيباً مثل الصور والفيديوهات، ومثل أصوات الوحوش الآمرة بالسير هنا، أو السائلة عمّا إذا كان الشخص المقتول هو آخر المُعدَمين هناك.
لكن لا نفع من كبح الأسئلة. فهي معنا منذ سنوات، ومنذ عقود، وستظلّ تحوم فوق رؤوسنا على ما كانت العرب تقول عن طائر الهامة الذي يحوم فوق قبور المغدورين ويظلّ ينادي بأن «اسقوني» إلى أن يُؤخذ بثأر أو أن يُشيَّد قبرٌ مقابل قبر.
كأن رؤوسنا تحوّلت إلى مقابر جماعية. فيها أصدقاء ومعارف وأحبّة، وفيها أحبّة لأحبّة، وفوقنا يحوم الطير. يطلب أن يُسقى ولا نسقيه، ولا نأخذ بثأر. يخنقنا العجز، وتخنقنا الصور، ويخنقنا أن أنذالاً كالذين التهموا قَوت الناس في لبنان ومفترسين من أكلة البشر في سوريا، ما زالوا في سلطةٍ يحميها مفترسون أكبر منهم.
أغلب الظنّ أننا نكتب لنقول ما علينا قوله. لنشكر أيضاً، رغم الجثث والخراب والغرق، من وثّق ونشر وتحدّى القتَلة بلا خوف ولا كلل.
ونكتب ربّما لنؤكّد أننا ما زلنا شهوداً على الجثث والنيران والأمواج، وأننا نعرف الجزّارين واحداً واحداً، وإسماً إسماً وشتيمة شتيمة. نعرفهم وندوّن أسماءهم، وسنطرد من رؤوسنا يوماً تفاصيلهم فندفن حينها الجثث المقيمة معنا بسلام، ونطفئ الهاتف أو الشاشة، ثم نستأنف عمراً كان يمكن لتعرّجاته أن تتقاطع مع تعرّجات أعمار من شهدنا
إعدامهم وغرقهم جنوب دمشق أو في البحر الأزرق الكبير
-----------
القدس العربي